أثر الجابري في الفكر العربي المعاصر
عمر كوش
السيرة الفكرية
الاشتغال الفكري
تعدد نقد الجابري
عمله الأخير
أثار المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري سجالات ونقاشات عديدة حول آرائه في النهضة والتراث والعقل العربي، ودخل في جدل مع العديد من المفكرين والباحثين العرب طوال سيرته الفكرية، التي بدأت قبل أكثر من 40 عاماً.
فلم يملّ الجابري من السجال مع المفكرين والباحثين العرب، من المغرب والمشرق، بدءاً من عبد الله العروي وصولاً إلى طه عبد الرحمن وحسن حنفي وجورج طرابيشي وآخرين كثر سواهم، ليجد نفسه في وسط عاصفة لم يحسب لها حساباً، بعد أن عكف سنين طويلة كي يجعل التراث معاصراً لنفسه، ومعاصراً لنا في الوقت عينه.
ويبدو أن الجدل حول أطروحاته سيستمر حتى بعد وفاته، الأمر الذي يؤكد على أهمية اشتغاله الفكري، وعلى أثره الفعّال في الفكر العربي المعاصر، بحيث يمكن القول بأن استمرار النقاش حول ما قدمه الجابري خير دليل على تكريمه بعد رحيله، كونه سيبقى حياً وحاضراً بآرائه ومقارباته وأطروحاته.
ويعتبر الجابري أحد أهم رموز الإنسانيات العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين, نظراً إلى ما قام بن من حفريات في طبقات النصوص التراثية والتأسيسية للحضارة العربية الإسلامية، وراح يفكك ما تجمع من الركام الميثولوجي الذي اعتبره شاهداً على استقالة العقل، لكن أهميته تعود إلى التأسيس لقراءة منهجية للتراث العربي الإسلامي وفق مقاربة نقدية، والعمل على ترغيب القارئ العربي لقراءة ما اختاره من نصوص التراث.
"
القضية التي نظر فيها الجابري طويلاً هي مشروع النهوض العربي, وحاول أن يبقى باحثاً ناقداً، همّه يتمحور حول تلافي أن يكون المستقبل مقبرة للأمة, وأن يتحول العقل العربي إلى عقل مستقيل
"
السيرة الفكرية
القضية التي نظر فيها الجابري طويلاً هي مشروع النهوض العربي, وحاول منذ ولادته في مدينة وجدة المغربية عام 1936، ثم في دراسته للفلسفة عام 1964 ونيله شهادة الدكتوراه فيها عام 1970، أن يبقى باحثاً ناقداً، همّه يتمحور حول تلافي أن يكون المستقبل مقبرة للأمة, وأن يتحول العقل العربي إلى عقل مستقيل.
وقد لاقت أطروحات الجابري ومقارباته للتراث أصداء واسعة ومتضاربة منذ منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وبات المفكر الأكثر إثارة للنقاش في المجال الثقافي العربي في عقد التسعينيات من نفس القرن.
وبدأ الجابري رحلته الفكرية في سبعينيات القرن الماضي، حين أصدر كتابه “العصبية والدولة – معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي" عام 1971، وخرج فيه بأطروحته عن ابن خلدون، فكانت بداية مثيرة، نظراً لما تضمنته من قراءة دقيقة لمقدمة ابن خلدون، أضفت طابعاً معاصراً للمنهج الخلدوني في التعامل مع التاريخ العربي الإسلامي، ثم بدأ سجاله الفكري عندما نشر في عام 1975 سلسلة من المقالات النقدية ضد "تاريخانية" عبد الله العروي في صحيفة "المحرر" المغربية.
ويعتبر كتابه "مدخل إلى فلسفة العلوم" الذي صدر في جزأين عام 1976 الأهم في دراساته المختلفة، إذ دخل بواسطته منعطفاً منهجياً إلى فلسفة العلوم، ثم راح يقطع خطوات أخرى متقدمة في مقاربته للتراث، وما تضمنه من مدارس فقهية وفلسفية وتأريخية وعقلية ونقلية وصوفية وسياسية، فكانت مقارباته جريئة في تناول إشكاليات الفلسفة العربية الإسلامية انطلاقاً من أسئلة الحاضر، والتي بلورها في مشروعه حول الفكر العربي الإسلامي، فأصدر كتابه "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي" (1980)، الذي قدم فيه منهجاً جديداً في مقاربة التراث، ثم أصدر كتاب "الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية" عام 1982.
بعد ذلك انشغل الجابري في كتابة وإصدار مشروعه الفكري الضخم "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة، وصدر جزؤه الأول في عام 1984، وخرج فيه بأطروحته الشهيرة حول "العقل العربي"، من خلال تكوينه وبنيته، ثم تجلياته المعرفية والثقافية والأخلاقية، وصولاً إلى طرحه للحاجة إلى إصلاح العقل العربي في محدداته الحاضرة ومركباته التاريخية وتقلباته السياسية وانقساماته الذهنية وانشداداته نحو الماضوية.
لكن إنتاجه الغزير لم يتوقف، بل أصدر كتباً أخرى، مثل "التراث والحداثة: دراسات ومناقشات"، و"مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب"، إلى جانب اهتمامه بفلسفة ابن رشد الذي أثمر كتاباً حول سيرة ابن رشد وفكره في نهاية عام 1998، وأشرف على إعادة إصدار بعض أعمال ابن رشد مثل "تهافت التهافت" و"فصل المقال" و"مناهج الأدلة" و"الكليات في الطب".
"
تعامل الجابري مع التراث بوصفه قوة حاضرة لم تخرج من حيثيات الحراك الإنساني الحاضر، وحضور التراث في الذاكرة العربية الجمعية يعني أن الإسلام لا يزال يلعب دور المحرك للتاريخ العربي، في مختلف لحظاته وتجلياته وتقلباته في مختلف الميادين
"
الاشتغال الفكري
من خلال إنتاجه الفكري والبحثي تمكن الجابري من تثبيت مكانته في الفكر العربي المعاصر، بوصفه أحد أهم الناشطين في الحفر في التاريخ العربي الإسلامي، وفي ما أنتجه المفكرون في التاريخ العربي الإسلامي من أطروحات ما تزال تؤثر في حياة العرب والمسلمين المعاصرة.
وتعامل الجابري مع التراث بوصفه قوة حاضرة لم تخرج من حيثيات الحراك الإنساني الحاضر، وحضور التراث في الذاكرة العربية الجمعية يعني أن الإسلام لا يزال يلعب دور المحرك للتاريخ العربي، في مختلف لحظاته وتجلياته وتقلباته في مختلف الميادين. وإن كان تناول التراث محور اشتغاله الفكري، ونقده للعقل كذلك، فإن إلصاق المحدد العربي لهذا العقل عنده، يشي بأن العقل المدروس هو عقل يتعين بالتجربة العربية، تفكيراً ولغة وقواعد وسواها. لذلك كان همّه يتحدد في نقد المعنى وفحصه بغية تصنيفه.
وقد سعى الجابري إلى الكشف عن جذور التراث العربي الإسلامي عبر الحفر في طبقاته المتراكمة، وعن آلية اشتغال العقل الذي أنتج هذا التراث، وحاول، اعتماداً على المنهج النقدي، تحديد مواضع الخلل في التعاطي مع هذا التراث، وتبيان مكامن القوة والإبداع فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني بين الماضي والحاضر.
وعلى هذا الأساس حصر عمله بالثقافة العالمة، وحصر بذلك إطار بحثه بالعقل العربي وحده، وبما أنتجه من صنوف البيان والعرفان والبرهان، حيث لم يعنيه العقل اللاهوتي بتاتاً. وتبنى الجابري المنهج الإبستمولوجي بغية التمكّن من تفكيك بنى العقل العربي والكشف عن مكوّناته، ولم يدخل في مضمار العلوم الإنسانية والمجتمع.
غير أن القراءة، التي قام بها الجابري للتراث العربي الإسلامي، اتسمت بتوقفه عند نقطة مفصلية، تتجسد في ضرورة إبراز الاختلاف بين التجربة الفكرية التي عرفها المشرق العربي والتي وصلت في النهاية إلى ما سماه "العقل المستقيل"، وبين التجربة الفكرية كما تجلت في المغرب العربي، وأفضت إلى تأسيس النظام البرهاني وجعله ركيزة لا بد منها.
واعتبر الجابري أن ابن سينا المشرقي هو ممثل الانحطاط الفكري والتخلّف عن قواعد العقلانية، في مقابل ابن رشد المغربي الأرسطي النزعة والعقلاني الهوى. لذلك فإن كل محاولة للقيام والنهوض في الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة يجب أن ترتكز على نموذج مستمد من التراث، ليس بغريب، عنها ينحصر في ابن رشد في ما يتعلق بالفلسفة، وفي ابن حزم والشاطبي في ما يخص علم أصول الفقه والتشريع الإسلامي.
وحطّ الجابري من شأن كل ما وضعه في إطار "العقل المستقيل"، الذي تخلّى عن مهامه خاضعاً لألاعيب الرمز والخيال والمجاز، ومن بعض مظاهر وتجليات الأنسية العربية في القرن الرابع الهجري، والعقلانية المعبّرة عن عطش الروح للمعرفة والفهم مع السجستاني ومسكويه والتوحيدي والعامري وغيرهم، حيث اعتبره الجابري انتقاصاً من مستوى التفكير العقلي والتجريد الفلسفي لصالح المقابسات والأدبيات الشائعة، ورأى أن هذا التدهور في الإنتاج الفكري، قد أوقفه لاحقاً مفكرو المغرب العربي من مثل ابن رشد وابن خلدون.
"
اعتبر الجابري أن العقل العربي الذي تكوّن وتشكل داخل الثقافة العربية الإسلامية، وعمل هذا العقل في ذات الوقت على إنتاجها، بحاجة إلى عملية نقد واسعة، دون أن يقدم تحديداً واضحاً لمفهوم العقل وفق مقتضيات البحث العلمي أو الفلسفي
"
تعدد نقد الجابري
اقتضى الخوض في التراث، عند بعض المفكرين العرب، التوقف عند كل ما قد أنتجه العقل العربي الإسلامي، شفهياً أو كتابياً، فلسفياً أو دينياً، والبحث في أسسه وجذوره، مع الالتفات إلى الهامشي والمسكوت عنه، وإلى اللا مفكر فيه، لكن الجابري حصر عمله ودراساته وبحوثه في إطار ما عرف باسم "العقل العربي"، وبما أنتجه في إطار البيان والعرفان والبرهان.
وانطلق الجابري في كتابه "نقد العقل العربي" من مقولات وثنائيات سلّم بها دون أدنى دراسة نقدية، ومعتبراً أن العقل العربي الذي تكوّن وتشكل داخل الثقافة العربية الإسلامية، وعمل هذا العقل في ذات الوقت على إنتاجها، بحاجة إلى عملية نقد واسعة، دون أن يقدم تحديداً واضحاً لمفهوم العقل وفق مقتضيات البحث العلمي أو الفلسفي.
ثم ميّز بين أقسام ثلاثة لهذا العقل: برهاني وبياني وعرفاني، وأشاد فيما بينها تقابلات ميتافيزيقية في ثنائيات مثل: عقل برهاني/ عقل بياني، وعقل بياني/ عقل عرفاني، توالد منها ثنائيات أخرى: عقل سني/ عقل شيعي، وعقل المغرب/ عقل المشرق..إلخ.
ومثل كل تقابل ميتافيزيقي فإنه فاضل بين أحد طرفي الثنائية على حساب الطرف الآخر المرفوض بالنسبة إليه، لذلك تحول نقده للعقل العربي إلى مصادرة له على حساب تمظهراته التاريخية والاجتماعية المختلفة، فوقع في الخلط بين العقل وأدواته وتوظيفاته المتعددة، فضلاً عن أن العقل لا يمكن حصره في أمة بعينها أو في إقليم معين من الأرض، على أن نفهم الإقليم هنا ليس جغرافيا فقط، إنما وسطاً ومحيطاً وبيئة مكتنفة.
وتعدد النقد الموجه للجابري ولأطروحاته، وتناثر بين نقد أفكاره ورفض لبعضها، بل والتشكيك بها، ومحاولات إثبات عدم رجوعه إلى بعض المصادر الأساسية، وخصوصاً المعاجم اللغوية، ووصل الأمر إلى درجة اتهامه بالنقل من دون أمانة عن غيره من المفكرين والباحثين، وبتعامله السطحي مع أفكار الإمام الشاطبي وسواه، مقابل طغيان حضور أفكار ابن رشد في بنية العقل.
كما أخذ عليه إطلاق التعميمات، التي لا تصمد أمام المقاربات التاريخية، وأنه أرد أن يقدم للأمة العربية وصفة ثقافية واحدة، ومعتدلة، ومقشرة من الصراع الأيديولوجي، وذلك باعتماده قراءة أحادية، تذكر بأحادية الحزب والزعيم والرأي، انطلاقاً من أن مشروع الجابري نهض على فكرة "اعتبار الثقافات هويات" لا أفكاراً، واعتماده تعريفاً للثقافة، بوصفها شرطاً لوحدة الجماعة.
عمله الأخير
يبدو أن الجابري أراد أن ينهي اشتغاله الفكري والبحثي بالوصول إلى إعادة قراءة الكتاب الذي تأسست عليه الحضارة العربية الإسلامية، بعد أن حفر طويلاً في العديد من نصوص التراث العربي الإسلامي. ويعي الجابري أن القرآن الكريم هو الأساس المكوّن لعلوم عديدة أسهمت في بناء حضارة وثقافة، ما تزال تفعل فعلها الرئيسي في حاضر العرب. وعليه عمل على مشروعه الأخير "مدخل إلى القرآن الكريم" كي يكون خاتمة لسيرته الفكرية، فأصدر آخر كتبه "فهم القرآن الحكيم"، وقبله أصدر كتاب "في التعريف بالقرآن"، بوصفه الجزء الأول من مشروعه الجديد.
وحاول الجابري تقديم تفسير جديد للقرآن بحسب ترتيب النزول، وأراده أن يكون "التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، اعتماداً على منهجية جديدة تشرح آيات القرآن في إطار لحظتها الزمنية، تلجأ إلى الربط بين السيرة وتتابع النزول، بغية فهم سيرورة الدعوة الإسلامية من سورة العلق إلى سورة النصر.
وقام بتقسيم السور القرآنية إلى ثلاث مجموعات، وفق ترتيب نزولها، الأمر الذي أفضى إلى تقسيم مراحل الدعوة إلى ثلاث مراحل زمنية، بأن الأولى منها في مكة وانتهت بالهجرة النبوية، فيما بدأت الثانية بالوصول إلى يثرب (المدينة) ومواجهة الخصوم والكفرة، أما المرحلة الثالثة، فبدأت بفتح مكة وتأسيس الدولة وصولاً إلى خاتمة الدعوة.
لا تقرأ وترحل: