تأليف محمد محمد يونس علي
يعود اختلاف المدارس اللسانية، واتجاهاتهم في كثير من الأحيان إلى مواقف أنطولوجية (وجودية) فلسفية. ويعد الحكم في تحديد السابق (ألكليات، أم الجزئيات؟) على وجه الخصوص مبدأً مؤثرا في الدراسات اللغوية قديمها، وحديثها، وتبلغ أهمية هذا الأمر حدا يؤدي تغيير الرأي فيه إلى الخروج عن المدرسة الفلسفية، أو اللسانية المتّبعة، ولعل من الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا خروج اللساني المعروف كاتز Katz عن عقلانية تشومسكي Chomsky’s conceptualism إلى الواقعية realism[18]. ذهب كاتز إلى القول بأسبقية الجمل بوصفها كليات على القولات بوصفها جزئيات، وكان ينظر إلى الجمل نظرة فلاسفة الرياضيات الأفلاطونيين إلى الأعداد، حيث كانوا يعتقدون بوجودها السابق للمعدودات[19]، ويذهبون إلى القول بأسبقية وجود الحقائق الرياضية، والمنطقية عما عرفه البشر من المنطق، والرياضيات.[20] ومن المهم هنا الإشارة إلى أنه مما يترتب على هذا أن علم القواعد الذي يهتم بدراسة الجمل ما هو إلا "نظريات لكيانات مجردة"؛[21] كما يذكر كاتز، وهو مفهوم، وإن اتفق مع مفهوم تشومسكي في رأيه في موضوع اللسانيات التوليدية، فإنه يخالفه في الاعتقاد بالوجود القبلي للجمل، ووجودها المستقل، والسابق للقولات اللغوية.
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن ذكرها لتوضيح أهمية تحديد الموقف من أسبقية الكليات على الجزئيات، أو العكس رأي ابن تيمية الذي يعتقد بأسبقية الجزئيات، ويرى أن الكليات ما هي إلا نتاج لعملية عقلية يتم فيها تجريد الأفراد المندرجين تحت الكلي باستبعاد خصائصها المميزة، والإبقاء على أوجه التماثل بينها. ولا شك أن لهذا الموقف صلة وثيقة بنظريته السياقية، ونظريته في المجاز، بل لا نبالغ إذا ربطنا هذا بمجمل آرائه، ونظرياته اللغوية، والفلسفية[22]. ويشترك ابن تيمية في أصوله هذه مع الدراسات البراغماتية الحديثة؛ الأمر الذي جعل نتائج دراساته في اللغة، والنص متقاربة إلى حد كبير مع دراساتهم، وهو ما يؤكد صحة دعوانا في هذه الدراسة، وهي أن الأصول الفلسفية للنظريات اللغوية هي الموجّهة للاتجاهات المذهبية، أو المدرسية.
لقد أدى عزل القولات اللغوية من سياقاتها لغرض بلوغ ضرب من الأمثَلة idealization إلى إغراق في التجريد آل في النهاية إلى تصور مصطنع للغة الحقيقية. وهنا ينبغي أن نشدد على أهمية التفريق بين اللغة النظرية (أو التقديرية (theoretical language، واللغة الملاحظة (الحقيقية، أو الفعلية actual language). وهو تفريق اقترحه كارناب، وأكده وندرليش،[23] وسبق أن ألمح إليه ابن القيّم في معرض رده على أهل التأويل، ومناصري المجاز الذي خلطوا بين الكلام المقدر، والكلام المستعمل[24]. ومثلما فعل نحاة العربية، وجمهور الأشاعرة الذين أولوا آيات الصفات، وقالوا بالكلام النفسي أغفل التوليديون، ومن سار سيرهم الخصائص السياقية المميزة للقولات اللغوية، وأبحروا في غياهب التجريد. وهو أمر آل في نهاية المطاف إلى انعطافة قوية دعا إليها البراغماتيون، والمهتمون بتحليل النص نحو دراسة أكثر واقعية، وتجريبية تأخذ في اعتبارها السياقات الفعلية دون أن تغفل أهمية النمذجة typification في صوغ العلم. والفرق بين الأمثَلة، والنمذَجة أن الأمثلة هي عملية مبدئية تصاغ بغض النظر إلى واقع الأمور، والخصائص الحقيقية للأشياء، أما النمذجة فهي مستوى أدنى من التجريد تدرج فيها المتشابهات تحت نموذج واحد يجمع بين خصائص أفرادها. ويذكر وندرليش أنه "ليس هناك حالة حقيقية تتفق مع حالة مثالية (إلا على نحو تقريبي)، أما ما يتفق مع الحالات الحقيقية فهو النموذج".[25] والمشكلة التي نتعرض إليها عند الأمثلة هي الإفراط في التجريد[26]، وهو أمر يؤول في النهاية إلى صياغة ذهنية للمادة اللغوية مختلفة عن حقيقتها، وقد يصاحب ذلك تفسيرات، وتقديرات، وتأويلات نظرية تغفل المبادئ، والأسس الحقيقية المفسرة للظاهرة اللغوية. ولعل هذا ما أدى بالفيلسوف غرايس – Griceمثلا- إلى صوغ أسس خطابية في تحليله للأحاديث الكلامية، كما أدى بمحللي النص إلى الاقتصار في دراستهم على تحليل الشواهد الحقيقية المأخوذة من الكلام الفعلي، وأهملوا فكرة المتحدث المثالي عند تشومسكي، كما آل ذلك إلى إعادة النظر في مفاهيم راسخة في الدراسات اللغوية، والبلاغية منذ أرسطو إلى عصرنا هذا مثل وجود المجاز، فقد ظهرت نزعات مشككة في صحة التفريق بين الحقيقة، والمجاز صدرت عن مهتمين بالبراغماتية، وفلاسفة اللغة، والباحثين في الذكاء الاصطناعي، ومن بينهم نذكر سبيربر Sperber، وويلسون Wilson اللذين صرحا بوجود أسس قوية لإنكار فكرة المعنى المجازي.[27]