تأليف د محمد محمد يونس علي
يربط البراغماتيّون دلالة العدد بما يسمونه "المفهوم المتدرّج" scalar implicature. وهو نوع مما يسميه بول قرايس بالمفاهيم التخاطبيّة conversational implicatures، التي تستنتج – خلافا للدلالات الوضعيّة والمنطقيّة- من العناصر التخاطبيّة، وليس من المعطيات الوضعية للغة. ويستند المتخاطبون في استنباطهم لهذه المفاهيم على اتباع ما يسميه قرايس بمبادئ التعاون cooperative principles، المبنية على فكرة أن المتخاطبين ينزعون في عملياتهم التخاطبيّة إلى التعاون فيما بينهم لتسهيل عملية التخاطب وإنجاحها، ولكي يتسنى لهم ذلك عليهم أن يسترشدوا بمبادئ تنظم الطريقة التي بها تسنبط مقاصد المتكلمين. ومن هذه المبادئ يلقى مبدأ الكم maxim of quantity اهتماما متزايدا لما له من أهمية في استنباط معظم المفاهيم التخاطبية، وقد صاغ قرايس هذا المبدأ على النحو الآتي:
(أ) تكلّم على قدر الحاجة فقط (القدر الذي يضمن تحقيق الغرض من التخاطب).
(ب) لا تتجاوز بإفادتك القدر المطلوب.[15]
وبناء عليه فإن المخاطب يفترض أن المتكلّم يراعي هذا المبدأ؛ ومن ثمّ سيفسّر كلامه على أساسه. ومن أهم المفاهيم التي يستند استنباطها إلى مبدأ الكم المفهوم المتدرّج، الذي بمقتضاه يمكن استنتاج (21) من (20) اتكالا على أن المخاطب سيفكر على النحو الآتي: لوكان المقصود أن كل الظن إثم لصرّح تعالى بذلك، لأن التعاون يقتضي أن المتكلم يتكلّم على قدر الحاجة، ولمّا كانت الحاجة ماسّة لبيان القدر المنهي عنه من الإثم، كان من المناسب استنتاج أن ليس كل الظن حرامًا؛ لأنه لوكان الأمر كذلك، لقال إن كل الظن، وليس "بعض الظن".
(20) "إن بعض الظن إثم" (الحجرات: 49/12).
(21) ليس كل الظن إثمًا.
وهكذا استنبطت قاعدة عامة بمقتضاها يستنتج أن التصريح بـ "بعض" عند الإثبات يستلزم أن المقصود "ليس كل"، مقسمين هذه التعبيرات ونحوها إلى مدرج يشتمل على تعبير أضعف هو "بعض"، وآخر أقوى هو "كل"، ويذهبون إلى أن إثبات الأضعف يستلزم نفي الأقوى. ونظرًا إلى ضعف الدلالة المستنبطة من المفهوم المتدرج، (والمفاهيم التخاطبيّة) إجمالاً، فإنه يمكن إبطالها بدليل أقوى، ولاسيما الدليل اللفظي، كما في (22) حيث يمكن أن نستنبط منها مفهوما متدرجًّا كما في (23)، الذي يمكن إلغاؤه بعبارة أخرى كما في (24).
(22) بعض أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(23) ليس كل أطفالي في المرحلة الإبتدائيّة.
(24) بعض أطفالي –بل جميعهم- في المرحلة الابتدائيّة.
وقد حاول بعض البراغماتيين من أبرزهم هورن أن يدرسوا دلالة العدد اعتمادًا على "المفهوم المتدرّج"، فنظروا إلى الأعداد على أنها تمثل طائفة من الأفراد التي تترتب على شكل متدرّج، ورأوا أنه بالإمكان دراستها وفقًا للضوابط التي تحكم المدرج < بعض، كل>. وبناء على ذلك، فإنه مثلما أن إثبات الكل يتضمن entail إثبات البعض، كما في (25) المستلزمة لـ (26)، فكذلك الأمر في العدد، فإن الأكبر، كما في (27)، يتضمن الأصغر (28).
(25) كل أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(26) بعض أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(27) أربعة من أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
(28) ثلاثة من أطفالي في المرحلة الابتدائيّة.
وليس من الصعب تفنيد قياس العلاقة بين الأعداد بالعلاقة بين بعض وكل؛ فقد أثبت سابقًا أن القواعد في العلاقتين مختلفة؛ ولذا يمكن تفنيد هذا القياس بالمثالين (29) و(30) حيث لا يمكن أن نستنتج من إثبات العدد الأكبر في (29) إثبات الأصغر في (30) كما فعلنا في العلاقة بين إثبات الكل، وإثبات البعض.
(29) أربعة آلاف دينار كافية لهذه السيارة (أو كثيرة عليها).
(30) ثلاثة آلاف دينار كافية لهذه السيارة (أو كثيرة عليها).[16]
وقد أدرك البراغماتيّون مؤخّرًا أنّ العدد يختلف عن المفهوم المتدرّج، بل حتّى المتحمّسون منهم من أمثال هورن تخلّوا عن فكرة التطابق بينهما، يقول هورن: "ألفاظ العدد ليست المحكّ السليم لنظريّة المفهوم المتدرّج"،[17] وينقل ناتسوس وبرهني عن كارستون،[18] وجرتس،[19] وهورن[20]– أنّ المقيّدات تختلف عن مفهوم العدد– في الآتي:
أ- الاختلاف في التوزيع، كما في (31) حيث لا يمكن إحلال "بعض" محل "ثلاثة" لاختلاف توزيعهما السياقي.
(31) يستضيف أحمد أقل من ثلاثة أصدقاء.
ب- العمليات الحسابية، إذ لا يمكن إحلال المقيّدات محل الأعداد في (32) مثلاً.
(32) 3 + 3 = 6 في الأقل؟
5- الرّد على اللسانيّين في تصوّرهم لمحامل العدد
يفترض اللسانيون الغربيون وجود ثلاث قراءات للعدد، هي:
1- لا أقل ولا أكثر
2- في الأقل
3- في الأكثر
والشائع عند اللسانيين وفلاسفة اللغة في الغرب، ولاسيما البراغماتيون الجدد neo-Gricean Pragmatists أن الألفاظ لا تدل وضعا على المعنى الأول، أي المعنى المحدّد للعدد exact n-meaning، وهو المشار إليه بـ " لا أقل ولا أكثر"، بل إن المعنى الدلالي للعدد هو المعنى الثاني (في الأقل)؛ ولذا فإن عبارة "زيد له ثلاثة بنين" صادقة حتى إذا كان له أربعة أو أكثر من البنين، ومن أشهر المناصرين لذلك هورن،[21] وإن كان قد تخلى عنه،[22] وتردد ووليفينسون فيه.[23] ومن الباحثين الغربيين من يرى أن المعنى الدلالي الظاهر للعدد هو المعنى الأول، ومن هؤلاء هورن بعد تغيير رأيه،[24] و جيرتس،[25] وبرهني.[26] وثمة رأي ثالث تنفرد به كارستون[27] يذهب إلى أن العدد محايد من حيث معناه المعجمي، مع احتمال قبوله للمعاني الثلاثة المذكورة.[28]
ويمكن الرد على هذه الآراء على النحو الآتي:
أ) تفنيد القول بدلالة العدد بالوضع على "في الأقل"
من الأدلة التي يمكن بها الرد على من يقول بأن العدد يدل وضعًا على معنى "في الأقل":
أ- لوكان العدد دالا بالوضع على "في الأقل" لكان هو المعنى المتبادر منه، ولكن واقع الأمر ليس كذلك، فعندما نقول مثلا: ضع في كل كأس ملعقتين من السكر، وثلاث ملاعق من الحليب، فلا يتبادر إلى الذهن أنّ هذا هو الحدّ الأدنى المطلوب من السكّر والحليب.
ب-وجود أمثلة تدل على أن هذا المعنى غير وارد أصلا، ومن ذلك (33) التي تفسّر بـ "في الأكثر".
(33) يمكن للطالب أن يسجّل سبعة مساقات في الفصل.
ت-أن الأعداد المستخدمة في العمليات الحسابية والرياضية لا يمكن تفسيرها على معنى "في الأقل"، لاحظ مثلا:
(34) إذا أضيفت أربعة إلى خمسة، فالمجموع تسعة.
ث-لوكان المعنى "في الأقل" معنى وضعيًّا دلاليًّا للعدد لكان قطعيًّا (ما دام ليس هناك معنى وضعي آخر غيره)، وإذا كان قطعيًّا فلا يستحسن التأكيد بالتصريح به، بل إن تأكيده يكون حشوا مادام المعنى موجودًا في الأصل، غير أن الأمر ليس كذلك؛ فالقولة (36) مقبولة ولايبدو أنها تحتوي على حشو بزيادة "في الأقل" على (35).
(35) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء.
(36) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء في الأقل.
ج- ثم إنه لوكان المعنى "في الأقل" معنى وضعيًّا دلاليًّا قطعيًّا لما أمكن إلغاؤه دون الوقوع في تناقض، بيد أن الأمر ليس كذلك؛ إذ يمكن أن يقال (37) بزيادة "بل أربعة"، فيلغى الاستنتاج "في الأقل"، دون الوقوع في تناقض.
(37) حضر الاجتماع ثلاثة (بل أربعة) أعضاء.
ب) تفنيد القول بدلالة العدد بالوضع على "بالتحديد"
يمكن الرد على من يقول بأن العدد يدل وضعًا على المعنى "بالتحديد" exactly بأنه
أ- لو كان الأمر كذلك، لكانت إضافة عبارة "بالتحديد"، كما في (39)، أو ما يرادفها نحو "لا أكثر ولا أقل"، كما في (40)، من قبيل الحشو، ولكن الأمر ليس كذلك، بل واقع الأمر أن ذلك تأكيد لاستنتاج براغماتي احتمالي، حتى إنه يمكن استعمال تأكيدين أو أكثر في جملة واحدة كما في (41).
(38) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء.
(39) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء بالتحديد.
(40) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء لا أكثر ولا أقل.
(41) حضر الاجتماع ثلاثة أعضاء فقط لا أكثر ولا أقل.
ب-ومن الردود الأخرى إمكان إلغاء هذه الدلالة كما في نحو (38) التي ألغيت بالقولتين (42)، و(43)، دون الشعور بتناقض.
(42) حضر الاجتماع عشرون عضوا، بل أكثر.
(43) حضر الاجتماع عشرون عضوا، بل أقل.
ت-ومن ذلك أيضا حسن الاستفهام عن المعنى المقصود بنحو "بالتحديد" في (44).
(44) هل تقصد حضر عشرون بالتحديد؟
ت) تفنيد القول بأن دلالة العدد بالوضع ملبسة، أو غير محدّدة
للرد على من يقول بأن الدلالة الوضعية للعدد يكتنفها غموض متأصل، وعلى القائلين بأن دلالة الوضع غير محدّدة، نقول: لو كان الأمر كذلك لكان علينا أن نتوقف عند فهم سماع أي عدد إلى أن نجد القرينة الكافية للمقصود به، ولكن واقع الحال ليس كذلك، بل المعتاد في التخاطب أن مجرّد سماع العدد يدل على مدلوله الوضعي نفسه، ثم نأتي إلى معرفة حكم ما هو أقل أو أكثر من العدد المذكور بالاستناد إلى القرائن، وهذه يعني أن دلالة العدد على نفسه دلالة وضعية، ودلالته على غيره دلالة استنتاجية براغماتية.
انتقل إلى الصفحة التالية
أو يمكنك قراءة الموضوع كاملا على
مدونة تخاطب