من الظواهر المستشرية في المجتمع التعارفي:الوشاية، والرشوة، والعنترية؛ لأن المعايير الأخلاقية تستبدل بمعايير مزاجية يمليها الهوى الذي صار حاكما على كثير من الممارسات. فاتباع الهوى الذي يعد من المهلكات الاجتماعية(وعنه تصدر الآفات الأخرى من إعجاب بالرأي والشح المطاع)، يتم التعاطي له-إدمانا- في صورة شهوة والتذاذ نفسي للشخص المباشر لهذا الوصف، نظرا لمااتصفت به نفسه من خبث أخلاقي، ودنس قصدي، وعدوانية نفسية، أو بسبب إكراهات تم التطبيع معها، مع تأجيل التوبة إلى أجل غير مسمى ،بناء على (تلبيبس إبليس).
ومن الظواهرالاجتماعية أنك ترى الفرد يحمل قيما دينية في سلوكه الشخصي في البيت والشارع ومع أصدقائه، وفي المقابل يحمل ترسانة من "القيم"التحايلية والغدريةو البركماتية والنفاقية في عمله العام ، فلا محل للدين ههنا، وإنما الشريعة ما جلب لك المال والمنصب والجاه والثروة والنفوذ؛ فحيثما كانت الدنيا بحلاوتها ونضرتها؛ فثم شريعة "المتعاقدين" بزعمهم!
لقد حصل تناقض بل انفصام في شخصية الفرد في المجتمع التعارفي؛ فأنت تراه في أدائه الشخصي يتصرف بأسلوب ومنطق، مخالف لأدائه الوظيفي كأنه صار آلة استعمالية خالية من جوهرها الإنساني، فصار التصرف هنا علمانيا حقا قصدا أوكرها، (والحكم ههنا لاينطبق على الكل، ففي المجتمع بقايا الخير من أبناء الأمة، كما أن هذا الكلام لاينطبق على الالتزام المهني المبدئي).
وهذا بيان مختصر لتلك السمات التي تميز المجتمع التعارفي، ولبعض المرتكزات التي يتأسس عليها التعارف فيه:
أ. التعارف الرِّشوي:ويكون في مجتمع تسوده الرشوة بشكل شامل في مؤسساته ، وبين أفراده، إلى درجة يُظن استحالة قضاء المصالح بجلب المنافع، ورفع المفاسد ودفع الأذى بغيرها؛ كأنها صارت قدرا مقدورا، فيتوسل بالمال الحرام للتعارف لأجل تحقيق المطالب وبلوغ الأغراض؛ سواء كانت أغراضا مستحقة أو غير مستحقة.
ب. التعارف الوُشاتي:ويحصل في مجتمع تنال فيه الامتيازات وتسند المراتب، ويتم تكوين الأحلاف، والتمييز بين الولاءات العداوات على أساس نقل المعلومات عن الأشخاص، بشكل يخترق الخصوصيات ولا يحترم الحرمات، لأجل أغراض سلبية(الغيبة،النميمة،شهادةالزور،الظلم،التفريق،التهديد،الاستقواء،الشماتة،الاحتقار،الاستخفاف). ولقد قالوا :"من صدق الواشي ضيع الصديق"، وانظر كم من صداقات ضيعتها وشايات الوشاة الماكرين! وكم من مصالح ضيعت بكذبة مقررة!
ت. التعارف العنتري: أي طلب الغلبة بكل الوسائل،وادعاء كل فرد أن له من القوة مايستطيع به قهر خصمه وتحقيق أغراضه-فهو يفكر بمنطق عدو/صديق،لابمنطق صديق/وغير صديق - واغتنام المعارف للمغالبة. فيتم الاستقطاب العلائقي على أساس (القوة)؛ للاحتماء بها من بطش ذوي النفوذ، وانتزاع الحقوق الخاصة من مغتصبيها أو المهددين لها، أو التوسل بها للإجرام وانتزاع حقوق الغير وممارسة الطغيان.
لأن المغالبة بالاحتيال والسطو على حقوق الناس بالتزوير والرشاوى، أو بالمعارف والوسائط، أصبحت اليوم في الأعراف السائدة للمجتمع التعارفي مشروعة، فمن قدر على الوصول إلى شيء من ممتلكات أو خصوصيات غيره أخذه ولايبالي. وانظر إلى ماينشر عبر وسائل الإعلام، اليوم من جنايات وجرائم يشيب لها الولدان!
إن في واقع المجتمع التعارفي أمراضا لايعلمها حقيقة إلا من اكتوى بجمرها! قرأت الكثير من كتب فن الإدارة والتنمية البشرية، وعجبت لما وجدته في الواقع التعارفي البئيس من نقيض ماقرأت، ومعادلات اللاتنمية غير المكتوبة، ولكنها مطبقة وجرى بها العمل، بمايشبه العرف الذي تعارف واتفق عليه الناس وهو في الحقيقة (منكر)،وليس له من تسمية (عرف) إلا الاسم .
من ههنا نرى مدى إلحاحية ومصداقية دعوى تخليق الحياة الخاصة والعامة، في المجتمع التعارفي الدنيوي وذلك بوازعين؛ وازع القرآن وأهله من العلماء والدعاة، ووازع السلطان ببأسه ونفوذه وخبرائه، على أن يكون العلاج بنيويا؛ يجتث المشكلات من جذورها بتدرج، وليس المطلوب رفع عصا العقاب، والتلويح بالورقة الحمراء لكل متلبس بالحرام، دون تحقيق المناط العام والخاص، وبلانظر في الحيثيات والملابسات، واستحضارالمآلات ومراعاة جميع الأبعاد الخاصة والعامة؛ كي لايقع التعسف والجور من حيث يراد الإصلاح، والله المستعان وهو ولي التوفيق.