جعل الله تعالى من مقاصد خلقه للناس أن يتعارفوا لأجل التعاون على البر والتقوى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {الحجرات/13} " . و التعارف يقتضي أخلاق التراحم؛ من سلام وزيارة مريض وتشميت وإجابة دعوة، وشهادة الجنازة، والنصيحة وبذل الخير النافع في الدنيا والآخرة، ولو بكلمة طيبة. فإن كان قريبا زاد على ذلك صلة الرحم بالإحسان والزيارة وحسن الكلام واحتمال الجفاء.
1) التعارف الدنيوي:
لكن الغريب أن يصبح التعارف-في واقعنا وفي حالات كثيرة - لأجل التعاون على الإثم والعدوان-والتعارف المقصود هاهنا ماكان بدافع الدنيا ولأجل الدنيا وبأخلاق دنيا.
ومن العجيب أنني وجدت علماء قدامى، صرحوا في مصنفاتهم بما يمكن أن تصل إليه حالة التعارف الدنيوي من إنتاج لشرور أخلاقية وصفات سلبية. وذلك عند فقد الوعي والعلم و التربية الصحيحة وغياب قصد الآخرة، وعدم وجود الإنسان الصالح/القدوة في الوسط المقصود.
قال ابن جزي:"والناس ثلاثة أصناف: أصدقاء، وقليل ماهم، ومعارف؛وهم أضر الناس عليك، ومن لايعرفك و لاتعرفه ؛ فقد سلمت منه وسلم منك " .
فانظر كيف عبر عن المعارف بكونهم أضر الناس!
وتفسير هذا في قول أبي حامد الغزالي:"اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها-يقصد الأمثال والأقران والإخوة وبني العم والأقارب وتأكده في غيرهم وضعفه- وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر...
وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه...فأصل هذه المحاسدات العداوة، وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد، والغرض الواحد لايجمع متباعدين بل متناسبين فلذلك يكثر التحاسد بينهما...
ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين؛أما الآخرة فلا ضيق فيها" .
وهذا مايفسر مايحصل بين أصحاب الحرفة الواحدة، والآصرة الواحدة من القرابات كالإخوة وبني العم، من تكاثر وتفاخر ينتهي إلى الحسد والمشاعر السلبية المختلفة. وقد يتعدى التحاسد البقعة الجغرافية إذا تعلق بالجاه والشهرة.
والباب الذي لازحام عليه ولاحسد هو باب الله؛ حيث لاينتقص أحد لأحد في نصيبه من القرب من مولاه بالصلاة مثلا، ولامن رصيده من الحسنات، ومثله؛ العلم الرباني، فالمعارف متوفرة للناس ومعرفة الله نافية للحسد بل قد يجد العالم الألفة والأنس مع العلماء يتذاكر معهم فيفيدهم ويفيدونه.
فعند قصد وجه الله والسعي للدار الآخرة، تضمر مشاعر الحسد والكره، وتنتعش مشاعر الود والرحمة.
هذه الصفات السلبية تحصل بينها تفاعلات تفرخ أمراضا أخرى، تستقر وتتطور إلى درجة تشكل فيها مجتمعا محدد القسمات معلوم الصفات، هذه الصفات مجتمعة تتمركز في واقعنا بشكل غريب، ومايفسر هذا التلازم هوواقع التعارف لأسباب متعددة أو الرغبة في الحصول على المعرفة-أي التعارف المصلحي بين الناس- التي تفضي لتحقيق المصالح الدنيوية أساسا إما بحق أو بغير حق. مما يجعلنا نسمِّي هذا المجتمع بالمجتمع التعارفي بمفهومه الدنيوي البركماتي.
2) التعارف القرآني:
لكننا نطمح لمجتمع تعارفي قرآني، ولاتزال عناصره في المجتمع حية لايضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله فتظهر بإذنه سبحانه، ويصلح بها حال أغلبية المجتمع. إن مركزية العقيدة في هذا المجتمع مما هو مقرر في الشريعة مبين، وهي مناط أواصر التعارف القرآني المتين،قال ابن العربي:"كانت الجاهلية مبنية على العصبية، متعاملة بينها بالحمية. فلما جاء الإسلام بالحق، وأظهر الله منته على الخلق، قال الله سبحانه:" وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا " .وقال لنبيه" لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ " .فكانت بركة النبي صلى الله عليه وسلم تجمعهم، وتجمع شملهم، وتصلح قلوبهم، وتمحو ضغائنهم...فلما رفع الميزان أخذ الله القلوب عن الألفة، ونشر جناحا من التقاطع...وصارت الخلائق عزين، وفي واد من العصبية يهيمون:فمنهم بكرية، وعمرية،وعثمانية،وعلوية،وعباسية،كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم.وليس ذلك بمذهب، ولافيه مقالة، وإنما هي حماقات وجهالات، أو دسائس للضلالات،حتى تضمحل الشريعة" .
هذا المجتمع القرآني ليس مجتمعا ملائكيا فهو عرضة للخطإ ولغلبة النفس أحيانا وغلبة الطبع البشري أحيانا أخرى إلا أن مايميز هذا المجتمع كونه مجتمعا أوابا توابا لايصر على الخطإ ولايكابر.
ماهوالحل إذن، لإحلال قيم المجتمع القرآني محل مفاسد ونقائص المجتمع التعارفي الدنيوي ؟ إنه الجواب عن سؤال: كيف نتصرف في هذا المجتمع لإحداث التغيير المنشود والسليم؟
والله المستعان