الطبع غلاب

جاء في لسان العرب : " الطبع و الطبيعة : الخليقة و السجية التي جبل عليها الإنسان ... ويجمع طبع الإنسان : طباعا , و هو ما طبع عليه من طباع الإنسان في مأكله و مشربه, و سهولة أخلاقه و حزونتها, و عسرها و يسرها, وشدته ورخاوته, و بخله وسخائه. "
إذا الطبع هو ما ركبه الله - تعالى – في أصل خلقة الإنسان من صفات , و ما اكتسبه الإنسان في صغره من عوائد شكّلت وجدانه , و رسمت معالم فكره , و استقرت في قرار نفسه , فصارت سجية من سجاياها , و استحالت هذه العوائد أخوات للصفات التي خلق بها الإنسان , انصهرت معها في بوتقة الشخصية التي يعيش بها , و قد أشار إلى هذا ابن خلدون في مقدمته : " فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير , و حصلت لها ملكته بعد عن الشر , و صعب عليه طريقه , و كذا صاحب الشر إذا سبقت إليه –أيضا – عوائده . "
فالشخصية بما اشتملت عليه من صفات خلقت بها , و صفات تعودت عليها فانصهرت فيها و أصبحت كالمخلوقة , لا يستطيع الإنسان أن يغير منها شيئا , و إذا حاول تكلّف أمرا شاقا , و قد قالوا في الأمثال الشعبية : الطبع غلاب , فالإنسان ابن عوائده و ابن صفاته , تلازمه عوائده وصفاته كظله , لا يستطيع تركها , و قد فطن لهذا شاعرنا المتنبي إذ يقول :
يُرادُ من القلبِ نسيانُكمْ ... وتأبى الطِّباعُ على النّاقِل
و قد تعرفت على أشخاص عن كثب قد نسجوا من الفضائل طباعا لهم ارتدوها لخداع الأغمار من الناس الذين يخدعهم المظهر , فيسيرون في ظلّه حيث سار صاحبه , مصفقين لكل كلمة يلفظ بها صاحبه و لو كانت سقيمة , معللين تعليلا حسنا لكل فعل يفعله و لو كان قبيحا , فهو قطبهم الأعظم , و لكن سرعان ما تطرأ مواقف تعرض لهذا القطب تكشفه و تعرّيه أمام مريديه , فيظهر في شخصيته التي جبل عليها ,يفعل ما كان يأبى فعله و هو مقنع بطباعه المتكلّفة , و ينكر على مريديه إنكارهم لفعله , و ترتسم على وجهه أمارات الإنكار و كأنّها علامات استفهام قذف بها مريدوه على وجهه لمّا رأوا حقيقته قد تعرّت و أنبأت عن صاحبها النبأ العظيم الذي لم يختلفوا فيه , بل اتفقوا على أنّ صاحبهم الذي حسبوه أسوة حسنة كان مضللا و خادعا لهم , متكلفا طباعا غير طباعه. و هكذا الطبع يغلب التطبع بسهولة ويسر ؛ لأنه أصل متجذر في النفس , جبلت عليه , و امتزجت به , و لذلك عبّر العوام بحسهم الفطريّ عن غلبة الطبع التطبع في مثلهم الشعبيّ : " الطبع غلاب " بصيغة المبالغة .
د/ شعبان شوقي