حب الزعامة
تدور مادة " زعم " في المعاجم اللغوية حول معاني : الكذب ، و الطمع ، و الكفالة ، والسيادة . و إذا حملنا هذه المعاني المنبثقة من مادة " زعم " على المحمل المحمود بأن أحسنّا الظن بالزعيم ، قلنا: إن الزعيم يمارس السياسة، و السياسة فيها مداراة مغلفة بالكذب ، و ما دامت هذه المداراة في صالح الجماعة المقودة فهي محمودة ، و الزعيم - أيضا – يطمع في الوصول بجماعته إلى أعلى درجات الأمن ، و الحياة الكريمة ، و الارتقاء بهم أعلى درجات سلم التقدم العلمي ، و الصحي ، و الصناعي ، و الزراعي . و طمع الزعيم في الوصول بجماعته إلى التقدم في كل مجالات الحياة منبعث من مسئوليته كزعيم ؛ لأنّ الزعامة سيادة ، و السيد هو من يتكفل بتحقيق هذه الأمور لجماعته .
و إذا حملنا المعاني المنبثقة من مادة " زعم " على المحمل المذموم ، قلنا : إن الزعيم هو من يكذب على جماعته ، و يبني لهم بحديثه قصورا من الأوهام يسجنهم فيها ، و كلّما تهاوت و سقطت مع مرور السنين وهمّوا بالخروج منها ، سارع في بنائها من جديد . و الزعيم الكاذب على جماعته يطمع لنفسه و لزويه ، فيسرق و ينهب ؛ و بذلك تضيق كفالته ، فلا يتكفل إلا بحاجته و حاجة أهله ، و ينسى جماعته ، و تكون سيادته سيادة شكليّة .
و إذا نظرنا إلى طالبي القيادة و السلطة من قيادات الجماعات الصغيرة إلى قيادات الدولة نجد أكثرهم يطلبونها حبا في القيادة و التسلط على رقاب من يقودونهم ، و هذا الحب المفرط منهم للقيادة و التسلط يسوقهم سوقا نحو طلب الزعامة بالحلال و الحرام مستغلين سذاجة الناس ، و جهلهم ، و فقرهم ،فترى الواحد منهم يقفز فوق ثوابت الأمة إذا رآها عائقا، و يتشبث بها إلى درجة التشدد المهلك إذا رآها السبيل الموصل إلى الجلوس على الكرسيّ ، فقد استحال حب الزعامة داء عضالا منتشرا في جنبات نفسه ، مهيمنا عليها ، محركا لها دون وعي أو إدراك إلا لكل ما يخدم الحركة الموصلة إلى الزعامة ، و يقويها ، و كما جاء في المثل العربي :
« حُبُّكَ الشَّىْءَ يُعْمِى وَيُصِمُّ » ، فحب هؤلاء للزعامة أعمى بصيرتهم عن قبول الحق إذا كان عائقا أمام الوصول إلى الكرسيّ ، و أصمّ آذانهم عن سماع النصيحة ما دامت لا تخدم وصولهم إلى الكرسيّ ، فالوصول إلى الكرسيّ الذي هو الأداة الرئيسة لتفعيل الزعامة و ممارستها ينسيهم كل مبدأ جميل ، و خلق حسن .
و أتذكر عندما كانت الفتنة مستعرة بين إحدى الجماعات الإسلامية و النظام في مصر ،حيث اقتتل الطرفان ، أتذكر زميلا لي في المعهد الثانوي كان منتميا إلى هذه الجماعة الإسلامية ، و قد عهدته نشيطا ينتقل بلحيته و جلبابه الأبيض القصير بين طلاب المعهد كالنحلة موزعا لهم منشورات ، امتلأت بالآيات القرآنية ، و الأحاديث النبوية التي تحث على الفضيلة ، و فجأة تغير حال الزميل ، فحلق لحيته ، و ارتدى البنطال " الجينز " ، وتخلى عن نشاطه الديني ، فسألته لماذا هذا التحول السريع ؟ فأجابني بقوله : الحقيقة أنا بطبعي أحب السلطة ؛ و لذلك انتميت إلى هذه الجماعة ، فانتمائي إليها يشعرني بالتميز ، و أن كلمتي مسموعة ولو على بعض الأفراد ،و لكنّ هذه الأحداث - يقصد الاقتتال بين الجماعة التي كان منتسبا إليها ، و النظام – جعلتني أخشى على نفسي الهلاك فتبرأت منها .
هكذا كانت الإجابة : أحب السلطة ، إذا هي رغبة نفسية عارمة في الإمساك بزمام الأمور ، و إخضاع الآخرين للأوامر و النواهي للإحساس بالذات و الفوقية .
د/ شعبان شوقي