مظاهر سطحية التفكير في بنية العقل العربي
تأليف: د محمد محمد يونس علي
في إطار محاولتي لتفكيك بنية العقل العربي المعاصر أواصل في هذا المقال تسليط الضوء على أهم مظاهر التخلف فيه، وذلك لغرض تشخيصها، ولإثارة انتباه المعنيين ﺑﻬا كي يسهموا في البحث عن حلول علمية وعملية لمعالجتها، ويتمحور حديثي هذه المرة حول سطحية التفكير.
تتجسد هذه السمة فيما يأتي من مظاهر:
1- قصر النظر:
يطلق قصر النظر على كل تقويم لعملٍ ما يُقتصر فيه على مردوده الآني، أو ما يترتب عليه في المستقبل الداني، وهو أمر يؤدي إلى صاحبه إلى التخبط والجور على من هو دونه حين يجبره على إنجاز ما قصّر هو فيه، ويبدو هذا واضحا في المؤسسات التي يغيب عنها التخطيط المستقبلي، وتضطر إدارﺗﻬا إلى إرغام موظفيها على القيام بأعمال لا يمنحون فيها الوقت الكافي لإنجازها فيترتب على ذلك رداءة الأداء وتفاهة النتائج. وما قيل عن المستوى الإداري ينطبق على المستوى الفردي والأسري والاجتماعي.
2- غياب العمق:
أعني بغياب العمق غياب الطابع التجريدي في البحوث والأعمال، وعدم العناية بالتفاصيل، والاقتصار على ما هو مألوف أو ما يسهل الوصول إليه، وعدم التنويع في مصادر المعرفة، وغياب التأصيل الفلسفي والنظرة الشمولية للموضوع، والعجز عن التنظير، والجهل بطبيعة المعرفة البشرية، وأصولها.
3- صفرية الانطلاقة:
المراد بصفرية الانطلاقة عدم الرجوع إلى ما فعله الآخرون، والابتداء دائما من نقطة الصفر، ويمكن مشاهدة ذلك بوضوح في مؤتمراتنا وندواتنا العلمية حين تقوم الجهة المنظمة بعملها دون نظر إلى الجهود السابقة في اﻟﻤﺠال المبحوث، وينطبق هذا إلى حد كبير على البحوث والأعمال الفردية في مختلف اﻟﻤﺠالات، ولا أدل على ذلك من غياب الدوريات واﻟﻤﺠلات العلمية العربية وقواعد البيانات في مختلف التخصصات عن الإنترنت، وانعدام الفهرسة التي تسهل الرجوع إليها، والوضع السيئ الذي تعاني منه إجمالا. ومن انعكاسات التخلف وصفرية الانطلاقة أيضا عدم مراعاة نتائج اللسانيات الحديثة في وضع المناهج إلا ما ندر، وإهمال تجارب الآخرين في تدريس اللغة، وإهمال الباحثين ما سبق أن كُتب في الموضوع متجاهلين أن إسهامهم العلمي ما هو إلا لبنة في بناء أشمل وأوسع وأقدم. ولا يخفى أن النزعة الصفرية والنظرة الهلالية المصاحبة لها تفوّتان علينا فرصة الإفادة من الخبرة التراكمية التي هي الأساس الأول في بناء حضارة متقدمة.
4- إهمال الكيف والاهتمام بالكم:
يقاس النجاح عندنا في معظم الأحوال بالعدد، وليس بالجودة، ويمكن أن نرى هذا بوضوح في معايير التوظيف، والترقية، والتكريم، والمباهاة ، فزيادة العدد أو الحجم دائما هو الأهم، والاهتمام دائما ينصب (بنظرة مستدبرية لا مستقبلية) إلى "كم ُفعِل" وليس إلى "كيف سيفعل"
5- التفكير الشخصاني (المتمحور حول الأشخاص لا الأفكار)
ينحصر اهتمام كثير من الناس في ملاحظاﺗﻬم وتقويمهم للظواهر والأحداث في الأشخاص الذين لهم صلة ﺑﻬا بدلا من العناية بالأحداث والظواهر في حد ذاﺗﻬا. وتتوجه العاطفة (حبا أو بغضا استحسانا أو استقباحا رضا أو سخطا) وكذلك الأحكام (قبولا أو رفضا) نحو الشخص الذي قام بالفعل أو كان موضوعا له. ويؤول هذا في ﻧﻬاية الأمر إلى التعلق بالأشخاص وربما تقديسهم أو التحامل عليهم ومحاربتهم في الوقت الذي تكون فيه الحاجة ماسة إلى التعامل مع الأحداث والظواهر التي ارتبطت ﺑﻬا أسماؤهم. وربما يرى هذا بوضوح في التعامل مع الحكام والمسؤولين، وغيرهم. ولكي نأخذ مثالا على ذلك، علينا أن تذكر هنا أن النقد في عالمنا العربي كثيرا ما يأخذ طابعا شخصيا صريحا تظهر فيه العاطفة نحو الشخص المنقود في الوقت الذي تكون فيه الحاجة ماسة إلى الحديث عن الظاهرة أو الفكرة المعنية نفسها. وقد أدرك مالك بن نبي الأثر السلبي للتفكير الشخصاني في العقل العربي المعاصر، وسماه بالعقيدة الوثنية، ورأى أﻧﻬا تتجسد في شيئين : تقديس الأشخاص، وتقديس الأشياء، مستنتجا أن المشكلة الحقيقية إنما هي "مشكلة الحضارة أولا وقبل كل شيء "، ويبدو أنه يقصد مشكلة بناء عقلية حضارية بالتخطيط لثقافة "شاملة يحملها الغني والفقير، والجاهل والمتعلم".(1) وقد فسر سبب إطلاق الجاهلية على عصر مجتمعات ما قبل الإسلام بأن "علاقاﺗﻬا المقدسة لم تكن مع أفكار وإنما كانت مع أوثان الكعبة ".(2) وبعد أن شرح كيفية انتقال نمو اهتمام الطفل من العناية بالأشياء إلى العناية بالأشخاص إلى العناية بالأفكار استنتج مالك بن نبي أن مرحلة العناية بالأشخاص في اﻟﻤﺠتمعات الإنسانية هي مرحلة سابقة لمرحلة العناية بالأفكار.(3) ويرى عبد الكريم بكار أن أزمة الخلط بين الأفكار والأشخاص تزداد "حين تمر الأمة بمرحلة ركود، أو حين تواجه أزمة في الفعل، فينتج عن ذلك أزمة في إعمال العقل، فتقل، أو تضعف فاعلية الأفكار ".(4) أما في اﻟﻤﺠتمع السليم فإن التميز واضح بين الأفكار والأشخاص والأشياء، "ويكون اﻟﻤﺠتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء لـ"الأفكار" هو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاﺗﻬم وسياسات اﻟﻤﺠتمع، بينما يدور "الأشخاص والأشياء" في فلك الأفكار".(5)
6- التفكير التبسيطي:
يتلخص التفكير التبسيطي في المبادرة بتقديم حلول بسيطة لمشاكل معقدة، وإجابات سهلة لأسئلة صعبة. ومن ذلك ما يقوله بعض الناس من أن مشاكل الأمة ستحل بتنصيب خليفة للمسلمين، أو بنقل التقنية الغربية، وأن حل مشكلة التعليم موكول بإدخال الإنترنت إلى المدارس، وأن حل أزمة العربية إنما يكون بصدور قرار سياسي يعيد لها هيبتها، ويعيد لها مجدها. ويرتبط التبسيط بالعقلية البدائية التي يعوزها التراكم المعرفي الذي يؤهلها لإدراك أبعاد المشكلة وتعقيداﺗﻬا، ويحول دون النظر في الاتجاهات المختلفة.
7- التفكير الحشوي:
ترتبط المعرفة عند الكثير من الناس بجمع أكبر قدر من المعلومات وتخزينها، فإذا كان العارف مدرسا نزع إلى حشو تلك المعلومات في ذهن طلابه، وهكذا تستمر العجلة في الدوران ولكن في مكان واحد. والضحية الأولى في هذا النهج التفكيري هي المنهجية والإبداع، والتعليم، والبحث العلمي.
الهوامش:
(1) مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، ط ٤ (دمشق: دار الفكر، ١٩٨٧) ص164.
(2) مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو، إشراف عمر مسقاوي (بيروت: دار الفكر المعاصر، دمشق: دار الفكر، ١٩٩٢ م) ص ٩٦.
(3) السابق: ص 26 – 34.
(4) عبد الكريم بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ط ٢ (دمشق: دار القلم، ١٩٩٨ م)، ص ١٧١.
(5) ماجد عرسان الكيلاني، هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، ط ٢(مكة المكرمة: دار الاستقامة، ١٩٩٩) ص ٣٣٠.
اقرأ أيضا
مظاهر التواكل الفكري في بنية العقل العربي