طرق الدلالة عند الأصوليين
اهتم علماء أصول الفقه بالمباحث الدلالية لأهميتها لاستنتاج الأحكام الشرعية من النصوص الدينية. لذا نجدهم في كتبهم يعالجون مسائل العلاقة بين اللفظ والمعنى، والحقيقة والمجاز، والاشتراك اللفظي والترادف، والعام والخاص وغير ذلك. كذلك نجدهم يستعرضون أنواع الدلالات: اللغوية وغير اللغوية. ونراهم كذلك يقسمون طرق الدلالة اللغوية إلى:
دلالة المنطوق
هي دلالة اللفظ على حكم ذكر في الكلام ونطق به. وهي أقسام:
(أ) دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على تمام معناه، كدلالة البيت على كل ما يتألف منه، فلو قال "بعتك هذا البيت" فإن المشتري يمتلك البيت كله بجدرانه وسقفه ونوافذه وأرضه. ومن أمثلتها من النصوص قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:257]، حيث دلت العبارة بمنطوقها على تحليل البيع وتحريم الربا.
(ب) دلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء معناه، كدلالة البيت على السقف، أو على الجدار أو على الأرض. فلو قال "بعتك هذا البيت" فإنه قد باعه أيضا الأبواب والنوافذ والسقف والجدران، ولا يستطيع البائع أن يرفض تسليم أي منها؛ لأنها داخلة تحت لفظ البيت لأنها أجزاؤه. ومن أمثلة ذلك من النصوص قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة:7]. فيدخل ضمن معنى (وجه) الجبهة والحاجبان والعينان، والخدان والأنف والشفتان والذقن واللحيان، والفم.
(جـ) دلالة الالتزام: هي دلالة اللفط على لازم خارج عن معناه، مثل دلالة (سقف) على الجدار، لأن الجدار لازم للسقف لأنه لا يقوم إلا عليه. وفي النصوص يكون اللازم:
(1) دلالة اقتضاء، وهي ما توقف عليه صحة الكلام لغة أو شرعا في مثل قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] فوجب تقدير لفظ (فأفطر) بعد (سفر) لتوقف صحة الكلام على تقدير ذلك.
(2) دلالة إشارة، وهي دلالة اللفظ على حكم غير مقصود بالنص، ولكنه لازم للحكم الذي سيق الكلام له، في مثل قوله تعالى: (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:233]؛ فالآية سيقت أصلا لتبين بعبارتها أن نفقة الأم واجبة على الأب، ولكنها تدل بإشارتها على أن نسب الولد لأبيه دون أمه؛ لأن في عبارة (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) قد أضيف الولد إلى المولود له (الأب) بحرف الجر اللام التي هي للاختصاص والذي من أنواعه الاختصاص بالنسب، ومثل قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف:15]، فالآية سيقت أصلا لبيان المنة للوالدين على الولد لما يلحق أمه من مشقة الحمل والإرضاع، ودلت بإشارتها على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه قد ثبت في آية أخرى أن مدة الفصال حولين (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان:14] فإذا أسقطنا مدة الفصال وهي 24 شهرا من 30 شهرا تبقى ستة أشهر هي أقل مدة الحمل.
دلالة المفهوم
هي دلالة اللفظ على حكم لم يذكر في الكلام ولم ينطق به. وهي تنقسم إلى:
(أ) مفهوم الموافقة: وهي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه لاشتراكهما في معنى يُدرك بمجرد معرفة اللغة، وهي نوعان:
(1) فحوى الخطاب: وهو إذا كان المسكوت عنه أقوى في الحكم من المنطوق به، في مثل قوله تعالى في شأن الوالدين: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء:24]، ففحوى الخطاب هنا هو النهي عن الإيذاء بالضرب أو الشتم أو السخرية، وهذه الأمور أقوى في التحريم من كلمة التضجر (أف). وكذلك قوله تعالى في شأن بيان المحرمات من النساء (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ) [النساء:23]، فالنص يدل على حرمة الزواج ممن ذكرن لعلة النسب القوي، ويدل فحواه على تحريم أخريات لم يُذكرن لأنهن أقوى في النسب ممن ذُكرن؛ فيحرم الزواج من الجدات لأنه ذكر من هن أقل منهن كالخالات والعمات، وكذلك يدل بفحواه على تحريم الزواج من بنت الابن وبنت البنت لأنه حرم من هن أقل منهن في علة الحكم وهن بنات الأخ وبنات الأخت.
(2) لحن الخطاب: وهو إذا كان المسكوت عنه مساويا في الحكم للمنطوق به، في مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، الذي يفيد أيضا حرمة إحراق أموال اليتيم أو إتلافها أو تبذيرها عليه أو على غيره، وفي مثل قوله تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) [النساء:92] فإنّ تقييد القتل بالخطأ في إيجاب الكفارة يدل على أن إيجابها في العمد أولى.
(ب) مفهوم المخالفة: دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه لانتفاء قيد من القيود المعتبرة، وهو أنواع:
(1) مفهوم الصفة، وهو دلالة اللفظ المقيد الحكم بوصف على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الوصف، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم (في سائمة الغنم زكاة)، فالحكم المستفاد عن طريق المخالفة: أن غير السائمة لا زكاة فيها.
(2) مفهوم الشرط، وهو دلالة اللفظ المقيد الحكم فيه بشرط على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الشرط، في مثل قوله تعالى: (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:6]، فالحكم المستفاد عن طريق المخالفة أن المطلقة غير الحامل لا نفقة لها.
(3) مفهوم الغاية، وهو دلالة اللفظ المقيد الحكم فيه بغاية على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه بعد تلك الغاية. والغاية إما زمانية، في مثل قوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة:187]، الذي يفيد بالمخالفة أنه لا يجوز الأكل والشرب في رمضان بعد الفجر، أو غاية مكانية في مثل قوله تعالى: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة:6] الذي يفيد أنه لا يجوز غسل ما وراء المرفق من اليد في الوضوء.