بورتريه الضباط الأحرار
يستطيع المرءُ أن يصيرَ واقعيا إذا أفشي بعضَ أسرار جيرانه، فليس من تجاوزٍ إذا فسّرتُ النزيفَ بين وركي حبيبي بانفلات العفاريت من عقالها، لكن مثلي مكلَّفٌ بالانحياز لمطربي العمال حتى تشرق الأحلامُ في النهضة.
نعم فشلتُ في إخفاء حزني علي مؤلفٍ أكله السرطان بعد أن أدي طقوسَ الإشارات بالجودة التي تقتضيها حضارةُ الحب، غير أن الطاولات لم تكن في حاجةٍ إلا لبعض دوارقٍ الزهر. لماذا الموتُ صنو حَلْمتْي حبيبي؟ إذ اشرأبتا تذكرتُ خميس والبقري، وإن اسمرّتْ حول مركزيهما الدوائرُ ارتحلتُ للطفولة، حيث أمي تستحم مستعينةً بالطشت والإبريق بينما أليفُ ظهرَها بيدي. ينبغي أن أنْأي عن دعوة المحتل أن يدعَ سمائي لأنها محرقةٌ، فإن تحقق النأي صرتُ ملزما بجعل أشباح حبيبي محورا للخيال الحديث، حيث القناصون في كل ناصية والحاسدون صفوفٌ علي الكتف.
مستقبلا سنكون ضالعين في تسريب قسطٍ من براءة النفس للتلاميذ حتى يستطيعوا درءَ تصلب الشرايين في الليل: نبدأ بالنقاهة التي فيها يلقَّنُ الطفلُ كيفية اتقاء الخدع السينمائية، ثم نضاعف الدرس بفضائل التحوصل ضد الذاكرة. ستقودنا التقوي إلي أن التشوه منحةُ الإله للمحظوظينَ من عبيده، فلابدّ للوقائع أن تجعل الصوتَ مشروخا إذا قال: غادرْ القفصَ.
الواقعيون تكأكأوا علي كاهلي. فكيف يمكن أن أقنعَ جارةً بأنها ليست بومةً كما يظن دراويشُ العمل الأهلي، وأن أحداثَ الصبا لا يصحُّ أن تحرّكَ العمرَ حتى لو حفلتْ بالاغتصاب وحَرق عروسه الحلاوة؟
فُصلَ أعضاءٌ قيمون من أمانة الحزب، وهو ما يشي بأن الألفاظَ مشبوهةٌ في حالة المرضي، إذ يدارون ارتباكهم بالتقاط العلاقة بين العُصاب والعصر، بينما امرأةٌ تتأمل طرفَ ثوبها تحت الحذاء تأكيدا علي أن الجنسَ والموتَ من أمٍ واحدة.
أصابعها تلوذ بجسمها بعد غيابٍ لم يفهمه أحدٌ حتى ينصرف الأسيادُ من ثقبٍ أسفلَ ظهرها، بعدها يهرب الواقعيون ويسقط الكلام المشبوه علي البلاط، فجّّبي تركَ النور مفتوحا. حاليا مهمتكِ الوحيدةُ وصْل الحي بالحي عن طريق علاء حمروش: حين كان يعلّم الحواريين كيف يصبح الناس تكتيكيينَ كلما أقبل المساءُ، كان يعرف أن ذبحةَ القلب سوف تفسد الخططَ، فلما واتته الجرأةُ علي مجافاة تاريخ الأب، حيث بورتريه الضباط الأحرار فوق كل هامةٍ، أدرك أن الأطفالَ وحدهم قد يفلتون من غسيل المخ إذا صار المدرّسون غير بكباشيين. لماذا إذن خذلته الفلسفةُ بعد أن أفرختْ الذقونُ ذاتها، ولم يهرعْ لنجدته ابن خلدون إثرَ هجرةِ الأهل؟ قبلَّني لحظةَ الخروج من باب الخلْق حين كانت السبعينيات مسئوليةَ التلاميذ ، لأنه خَّمنَ ثقلَ الأفئدة لو ظلّت محمولةً علي الأكتاف.
هذه خدعتُه: الفتي الذي صار شركةً بطرفة عين. يا عينُ ياليلُ، كل الدروس تهوي، فيما الفتي يعلو. كان ياما كان، سبعة وعشرون عاما. صبي يدخل كلية الآداب ويغادر مصطفي صادق الرافعي. هو الآن فوق المحيط يستعيد اضطرابَ أنساقها: المجروحون من الأب يقفون في الطابور الأيسر، والمجروحون من الأم يقفون في الطابور الأيمن، وبينهما سيبزغ البلطجيةُ والمموَّلون من الغرب والوشاةُ والملوّحون بفتح الدفاتر وطباخو السْم، بمن فيهم منشئُ هذه الكتابة، يتوسطون جرحي الفريقين قافزين في خفّةٍ علي رموش حبيبي يرتجون منه الصفحَ.
تكأكأ الواقعيون علي كاهلي فجاءت بنات نعش، وجاء حاملو الدف، وجاء محصل الكهرباء، والفلاح الفصيح . وسابقا تجلي الخِضر وتجلت السيدة زينب وتجلي شنق زهران.
كان ياما كان، كل شخص وقرينُه: مضارِب البورصة والشاعر، اليساري وعامل الشرطة، مديرو مراكز البحث والهجانة، سالومي والمطلّقة. من لوازم الواقعية أن أهنئ الراحلين علي السكينة التي عزّت علي كلما أوهمتُ نفسي أن موتاي لا يطلّون بغتة لأعاين ثغرة أنفذ منها إلي انحراف حبيبي. كان ياما كان يا صمتَ العشية: رهط من وكلاء الروح يحومون في زي الملائكة، وضيئين بريئين، يزينّون للأحبة احتضارهم مطحونين بشرائح الطبقة، راسمين علي السبّورة اسكتشاً للفردوس. الواقعية أخت الشجاعة فما عليك إلا أن تعترف بأفعال أنثاك في بطنك، وما رافق شرّها من غنج الرجولة من مثل: حنانيك يا سافلةُ، حنانيك يا مريضةُ، حنانيك يا ذئبةَ مصر.
فإن لم تكن كفؤا لهذا القطاع من واقعية النخر فثم حلاّن آخران: الأول أن تعلّق علي الحائط قائمة بأسماء: عبد الرحمن عبد ربه سالم، عبد السلام مبارك، سعد الله ونوس، عمر نجم، عبد الدايم الشاذلي، أروي صالح، وائل رجب، أترك فراغا لزبائن قادمين ، مثل أحمد الحوتي وهشام مبارك ومجدي حسانين وجودة خليفة ومحمود بقشيش ومحمد عيسي القيري. لا يهم أن تصّنف علي ضوء الأبجدية أو أسبقية الوارد، فالجامدون مذمومون في كل ملّة. واجبك القيادي هو أن تلقي علي القائمة كل صباح نظرةَ المفكّر المؤسّس، للتثبت من أن أصحابها لم يفرّوا فتفشل كلمة السر. والثاني أن تنكص عن الأول، متراجعا عن فضائل التحوصل ضد الذاكرة، مستعيدا ضياع المفاتيح.
يقتضي هذا الحل أن تكون مستعدا للتخفف من الشاعر وقرينه، ومن سالومي وقرينها، ومن نذور السيدة. فإذا كنت رعديدا لا تقوي علي أي من الحلّين، لا مناصَ من أن تصرخ، وتظل تصرخ رافضا أن يضيفك المعاصرون إلي القائمة قبل أن تدخل ذراعكَ كلها في حشا الحبيب كي تستخرج الوسواس. وحين يسألك سائلٌ عن سبب الصراخ قل: كان ياما كان فتي لم يستطع دفعَ أجرة الواقعية بسبب كثرة الجثث.
(ديسمبر 1997)