الهرمينوطيقا أو علم تأويل الخطابات
عزالدين غازي
توطئة :
النص والخطاب مفهومان معقدان من حيث التأويل والتفسير ، فسواء كان النص نصا دينيا أم تاريخيا علمانيا فانه يطرح جملة من الصعوبات الكبيرة التي عادة ما تواجه المفسرين أو النقاد كما تواجه طبيعة النص نفسه وعلاقته بالتراث والتقاليد لذلك جاءت الهرمينوطيقا كمعرفة علمية تتناول التفسير والتأويل في آن واحد . وقد جاءت بالتحديد في ظل بؤرة مفهوم بدا يتشكل مع التطور الحضاري هو ما يسمى تحيز الإنسان المعاصر واسقاطاته في الفهم المسبق. فنجدها تتحول مع مجموعة من العلماء والفلاسفة والمفسرين بعد أن وجدت لنفسها وضعا ابستيمولوجيا ، فبدأت تعنى بالفهم والإدراك . فهي على علاقة جديدة بالنص من جهة المتلقي وليس المبدع/ المؤلف.
إن تاريخ الهرمينوطيقا عريق جدا في الثقافات الإنسانية ، فقد تناسلت مناهجه وأساليبه التي كانت تركز على البحث عن المعنى الأصلي إلى البحث عن اثر النص . ظهر التأويل مع سقراط الذي فسر أغاني سيمونيديس ، تطور ليصبح نظرية لتأويل النصوص المقدسة حيث كان يشار به إلى مجموعة من القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني – الكتاب المقدس- وإذا كان حضوره قويا في الفكر الكنيسي الغربي ( اصبح نظرية للتفسير منذ 1654م إلى هذا في الأوساط البروتستانتية ) فانه في الفكر الديني الإسلامي حضوره لافتا مع علماء المسلمين الذين سخروا علوم الآلة وعلوم العربية نحوا ولغة ومعجما لخدمة النص الديني وخاصة مع العلامة الزمخشري وابن كثير وغيرهم.
بعد ذلك تطورت هذه النظريات لتصبح مع شيلينغ تعبيرا عن المدلولات الفنية المتشكلة من جديد في وعي القارئ، وبشكل اكثر دقة، في نظرية عن الفهم والإدراك عند شلييرماخر خاصة ولاحقا عند دلتاي وفي المجال النفساني مع بوتيبنيا ومع الفلاسفة الوجوديين أضحى جوهرا خاصة مع هايدغر ، وقد اكتسبت قضايا التأويل أهمية كبيرة في أعمال ر.انفاردن ، والمدرسة السويسرية وعلى رأسها شتايغر.وقد ابعد البنيويون أمثال تزيفزتان تودوروف ورولان بارث وجاك دريدا وغيرهم هذا المفهوم لانهم تناولوا منهجية في التحليل مشابهة له ( انظر ف.ي.خليزبف ، التاوبل ، ترجمة عمر التنجي ، مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 54-55 جويي-أوت 1988).
اتسع هذا المصطلح في تطبيقاته، المذكورة أعلاه، وانتقل من مجال تأويل "المقدس" و"الأسطوري" إلى مجالات اجتماعية وتاريخية وأنثروبولوجية وفلسفية وفكرية وأدبية وفنية ، فهو علم قديم وجديد في الآن نفسه .
خطاب التأويل بين الفهم والحقيقة النصية :
عندما نشر جادمير فيلسوف التاويلية كتابه "الحقيقة والمنهج" سنة 1960 أثار حوله زوبعة من الجدالات الواسعة التي غطت الساحة الفلسفية الألمانية حول التأويل وتأويل الفهم الذي لا يتطلب ،في نظرهم، هذه المنجية العلمية الكبيرة وخاصة أن الفهم والتأويل يرتبطان بالتجربة الشاملة التي تحصل لدى الإنسان عن محيطه الوجودي والكوني . الرهان هنا سيتركز حول تحديد المفاهيم والمنطلقات بوصفها المدخل لفهم اكتساب المعارف والحقائق.سيستقر الحال في تذويب مناهج العلوم فيما بينها للانصهار في معنيي الحقيقة والمنهج في آن. وبالتالي يصبح التأويل كعرفان فلسفي يقارب الحقيقة بطريقة مرنة في مجال معقد كمجال علوم الروح على وجه الخصوص.( هانز .ج.غادامير ، خطاب التأويل ، خطاب الحقيقة . ترجمة عمر مهيبل ، الفكر العربي المعاصر عددي 112-113 .صيف شتاء2000).
منطلقات نظرية الهرمينوطيقا هي الفهم النصي في بعده الخفي والمتجلي والوجودي والعدمي وكل ما يشكل توترا بين العالم والأرض. إن معضلة الفهم حسب عالم الهيرمينوطيقا هي معضلة وجودية .وتجنبا لسوء الفهم الذي يمكن أن نقع فيه في تأويلنا للخطابات الدينية والعلمانية إنما يثيرها التباعد الحاصل بين الزمان والنص ونقطة البدء حسب جادامير هو الاهتمام بما يحدث بالفعل في العملية بصرف النظر عما ننوي أو نقصد ( نصر حامد أبو زيد ، إشكالية القراءة وآليات التأويل ، المركز الثقافي العربي ص 37). إنما العبرة من ذلك هو تجاوز إطار المنهج العلمي المنظم وذلك بالاستيعاض عنه بالبحث عن الحقيقة وهذا تجل فلسفي وتاريخي محض. ومفهوم تحليل الحقيقة بدا يطفو من هذه الزاوية، وتأويل النص التاريخي والفني أو حتى الفلسفي لا يراد منه المتعة الجمالية والاستيتيقية بل تعني تجربة تلقي العمل بدون أن ننفصل عن وعينا العادي لندخل في دائرة الوعي الفني الذي نحتكم إليه .هذا التلقي ليس متعة جمالية إذن بل هي عملية مشاركة وجودية تقوم عل الجدل بين المتلقي والعمل الذي لا يبدو منفصلا عن عالمنا المعاش فلا ننفصل عن ذواتنا في الفهم بل نقوي حضورنا في النص من خلال ما فهمناه من تجربة فنستحضرها وهذا يشكل بدوره انصهارا وحاصلا جديدا في المعرفة التي ستساعدنا بشكل اعمق في عملية الفهم والتأويل ون هنا يتناسل الفهم في التأويلات والتفسيرات (بصيغة الجمع).
مفهوم التأويل ، إذن ، هو باختصار " فن الفهم " ، فهم النصوص بصفة خاصة ، يوظف هذا الفهم جميع مناهج العلوم الإنسانية المساعدة في التأويل من خلال ما اصطلح على تسميته جادامير " ميلاد الشعور التاريخي " .
قديما كان اثر النص المقدس ينتقل من نص إلى آخر والان للأثر الفني والأدبي تناصا ثقافيا حاضرا بقوة في ثقافة النص وتاريخه الاجتماعي والأنثروبولوجي في المقدس نعطي علوم الروح أساسا تأديبيا فإذا اطلعنا مثلا على القصص المقدسة وما ترسمه الذهنية العربية للنبي سليمان سنجده في أسفار العهد القديم والتي توالدت فيما بعد مع مقدس ديني آخر شخصية متعددة وليس واحدا متنوعة الملامح وهذا ما يفسر بخصوبة الخيال الديني الذي يقلل من شان المعرفة بالعقل الخالص. فما بين الحقيقة والمنهج تتم المساءلة اللامتناهية في نسل الدلالات اللغوية والجمالية التي بدورها تصبح وسيلة أساسية في الفهم .
ستتطور نظرية الهرمينوطيقا لتصبح في وضع نظرية جديدة في تفسير النصوص الأدبية ، فهي بقدر ما تلفت المتلقي في فهم دور المفسر بقدر ما تجعل المتلقي فاعلا في تفسير العمل الأدبي /النصي . هذه الجدلية ستكون هي نقطة البدأ الأصيلة للنظر في علاقة المفسر بالنص لا في علاقة النصوص الأدبية، ونظرية الأدب ، وأيضا في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن ، لنرى كيف اختلفت الرؤى وتناسلت التاويلات التي حطت الرحال بما آل إليه وضع النص الديني أو حتى النصوص التراثية الأخرى في الوضع العربي الإسلامي الراهن.
الحوار المتمدن - العدد: 1654 - 2006 / 8 / 26