بعض حروف الجر ومعانيها في القرآن الكريم
قـال تـعالـى : {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} .
( مِنْ أوَّلِ) يتـعلـق بأُسَّسَ ، والتـقـديـر عنـد بعـض البصريـيـن من تأسيـس أول يـوم
لأنهم يـرون أنَّ ( مِنْ ) لا تدخل على الزمان وإنما ذلك لـ ( منذ ) وهذا ضعيف هاهنا
لأن التأسيس المقدّر ليس بمكـان حتـى تكـون ( مِنْ ) لابتداء غايته ويـدل علـى جـواز
دخـول ( مِنْ ) علـى الزمان مـا جـاء فـي القـرآن من دخـولها علـى قبل التي يراد بها
الـزمـان ، وهـو كثـيـر فـي الـقـرآن وغيـره . قـال الكـوفيـون والأخفـش والمبرِّد من
البصريـين أن ( مِنْ ) للزمان بدليل هذه الآية ، ولا تكون ( مِنْ ) عند سيبويه إلا فـي
المكان ، ومن لا يرى استعمالها في الزمـان يتأول الآية بـ ( أن ) ثم مضـافاً محذوفـاً
تقديره: من تأسيس أول يوم ففي هذا دلالة على استعمالها في غير الزمان لأن تأسيس
مصدر وليس بزمان وأنَّ المصـادر تضارع الأزمنة من حيـث هـي منقضيـة مثلها .
( مِنْ ) هـي أول حـرف بدأ به سـيبويه كلامه عن حروف الجر ؛ وذلـك لكثـرة
دورها في الكلام ولتعدد معانيها ، ومن معانيها :
1 / التبعيـض : قـال تـعالـى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} .
الشاهد : ( من النَّاس ) ، أي : بعض النَّاس .
2 / بـيـان الجـنـس : قـال تـعـالـى : {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} .
الشـاهـد : ( الرجس من الأوثان ) ، أي : جنس الرجس ـ القذر والنجاسة ـ هو الأوثان
3 / ابـتـداء الغايـة المكانـيـة أو الزمانـيـة أو الشخصيـة :
المكانـية : قال تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
الـزمانـيـة : قـال تـعالـى : ( لمسجـد أسس عـلـى التـقـوى ... ) الآيـة السابقة الـذكـر .
قـال النـابـغـة :
تُـخُـيِّـرْنَ من أزمـانِ يَـوْمِ حـليـمـةٍ *** إلـى الـيـوم قـد جُـرِّبـْنَ كـُلَّ الـتـجـارب .
وقـال زهـيـر بن أبـي سلمـى :
لَـمِـنَ الـدِّيـارُ بِـقُـنَّـةِ الحِـجْـر *** أفْـوَيْـنَ مِـنْ حِـجـجِ ومـن دهْـرِ .
وقـد استشهـد بهـذا البيت علـى أنَّ الكوفيين وجماعة منهم المبرِّد وقد أجازوا استعمال
( من) الابتدائية فـي الزمـان أيضاً وقـال العـلامـة الـرضي فـي رد هذا الدليل : ( إنْ
الأقـواء لـم يبتـدي من الحجج بل المعنى من أجل مرور حجج وشهر ( فمن ) في هذا
البيت ليست زمانية وإنمـا هـي التـي للتعليـل واعلـم أنـه لا خـلاف بيـن أحـد من أهـل
المصريـن فـي أن ( من ) تـرد لابتـداء الغايـة في المكان والأحداث والأشخاص وإنما
الخلاف بينهم فـي أنها هل ترد لابتداء الغاية في الزمان فزعم الكوفيون أنها ترد لذلك
وزعمـوا أنَّ هذا البيت دليل على صحة ورودها لهذا المعنى ونفى البصريون ومنعوا
أن يــكـون فـي هـذا البـيــت دلـيـل لـهـم . ومـن حـجـج الكـوفـيــيـن قـولـه تـعـالـــى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
وكـذلـك الآيـة سابـقـة الـذكـر ( لمسجد أسـس على التقـوى...) وأجاب البصريون عن
هـذه الآية الأولى بأن ( مِنْ ) ليست للابتداء وإنما هي ظرفية ، وعن الآية الثانية على
تقدير مضاف محذوف وكان أصلـه من تأسيس أول يوم فتكون ( مِنْ ) لابتداء الحدث
. وجـاء ردّ الرضـي بـقـولـه : ( وليـس التأسـيس حدثاً ممتداً ولا أصلاً للمعنى الممتد
وإنـما هـو حـدث واقـع فيـما بـعـد ( مِـنْ ) فتـكـون ظـرفـيـة كـما فـي قـولـه تـعـالـى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ) .
ومـن معانـي ( مِنْ ) الشخصـيـة قـال تـعـالـى : {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
4/ تأتـي ( مِنْ ) زائدة للتوكيد ، وقد اشترط سيبويه لزيادتها ثلاثة شروط : أحدها :
أن تـدخـل علـى نكـرة ، والثاني : أن تكون عامة ، والثالث : أن يسبقها نفي أو شبهــه
(نهي أو استفهام ) ، مثـال : ما جاءني من أحدٍ ، وبناءً على هذا الشرط الأخير فإنهـا
لا تـزاد فـي الإيـجـاب وقـد أجـاز ذلـك الأخـفـش واحـتـجَّ بـقـولـه تـعـالـى :
{يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وأجـاز الكـوفـيـون زيادتـهـا فـي الإيـجـاب بـشـرط تنكير مجرورها ومنـه قولهم :
( قـد كـان مـن مَطَـرٍ ) أي : قـد كـان مـطـرُ .
5 / تأتـي مٍنْ بمـعنـى ( بدل ) ، مثال قوله تعالـى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} . و أيضاً في قوله تعالى : {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} .
والشـواهـد : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخـرة ) أي : بدل الآخرة . ( منكم ملائكة )
أي : بـدلـكـم . ومن شـواهـد العـرب قـول أبـي نُخَيـلـة ـ يعـمـر بن حـزن ـ السَّعـدي :
جَـاريـةٌ لَـمْ تـأكـلِ المُـرٌََقَـقَـا *** ولـم تَـذُقْ مِـنْ البـقـولِ الفـستـقـا
الشاهد : ( من البقول ) أي : بدل البقول ، وهـكـذا قـال جماعة من النَّحويين وبعضهم
قال : إن ( مِنْ ) هنا للتبعيض وعندهم أن الفستق بعض البقول ، وعلى هذا يجـوز أن
تـكـون ( مِـنْ ) اسـمـاً بمـعـنـى ( بعـض ) . وقـد قـرأ ابن مسـعـود قـولـه تـعـالـى :
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
بـ ( بعضَ ما تحبون ) .
6 / مـن مـعـانـي (منْ ) الظـرفـيـة الزمانـيـة والمكانـيـة أي بمـعنـى ( فـي ) ، نحـو :
قـولـه تـعـالـى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
الشاهد : (من يـومِِِِ الجمعـة ) ، أي : في يوم ( زمانية ) وجاءت مكانية في قوله تعالى
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ }
الشـاهـد : ( مـن الأرض ) ، أي : فـي الأرض .
7 / التَّعليلية والسَّببية نحو قوله تعالى : {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} .
الشـاهـد : ( مما خطيئاتهم ) ، ( ما ) زائدة ، أي من أجل خطاياهم ( أغرقوا ) فدخول
( ما ) يـؤثـر فـي المعـنـى ولـكـنـه لا يـؤثـر عـلـى خاصية جـره .
8 / بـمعـنـى ( عَنْ ) ( المجـاوزة ) ، نحـو : قـولـه تـعـالـى :
{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
المـعنـى : عن هـذا ؛ كـمـا جـاءت بمعنـى البـاء ( بـاء الآلـة ) ، نحـو قـولـه تـعـالـى :
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}
الشاهد : ( من طرفٍ ) ،أي : بطرف . كما جاءت بمعنى ( على ) ،نحو قوله تعالـى :
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
الشـاهـد : ( من القـوم ) ، أي : علـى القـوم .
في كـل مـا سبــق نخلـص إلـى أنَّ لـ ( مِنْ ) معـانـي متعـددة فقد استعملت فـي
معناهــا الأصلـي كـمـا أفـادت معانـي أخـرى وهذا هـو شأن كـل حـروف الجـر ، لـه
معنـى أصلـي بجانـب استعمالهـا لمعنـى آخر أي أنَّ حروف الجــر يتبـادل كـل منهـا
مـوضـع الآخـر . وهـذا يـعـتـمـد علـى سيـاق الكـلام الـذي يـحـدد معنـى كـل حـرف
ويـدل عليـه ، حتى الوظائف النَّحوية للحرف وقراءته تعتمد على ذلك المعنى فلا نجد
اختلافاً فـي القراءات القرآنية لحـروف الجـر وإنما ذلك يعتمد علـى التفسيـر والمعنى
للحـرف ، وحـروف الجـر يسـد بعضهـا مسدَّ بعـض ، وهـذا عـلـى خـلاف المـذهب
البـصـري الذي يـقـول أنَّ حـروف الجـر لا ينـوب بعضها عـن بعض بقيـاسٍ كـما أنَّ
أحـرف الجـزم وأحـرف النصـب كذلـك . ولكن جـاءت شـواهـد من القرآن والشعر
تؤكد نيابة بعضها عن بعض .
وللموضوع بقية إن شاء الله