أما عن حروف الجر فى القرآن الكريم فالمتأمل فى هذه الحروف يجدها تختلف فى كثير من الأحيان عن المعهود فى العربية فمن المتفق عليه أن تعلق الأفعال وتعديها بهذه الحروف لايكون اعتباطيا وإنما يكون لكل فعل حرف يرتبط به ويصل إلى المفعول من خلاله بحيث لو وضع مكان هذا الحرف حرف آخر لبدا التركيب متنافرا إلا أن يتم تأويل هذا التركيب فمثلا الفعل رفث ويعنى أفضى وجامع يتعدى بالباء فيقال رفث الرجل بالمرأة ولكنه ورد فى القرآن متعديا بحرف الجر إلى فى قوله(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) البقرة187
أى تعلق وارتبط بحرف ليس من لوازمه فكما لايصح أن يقال كتبت إلى القلم لايصح كذلك رفثت إلى المرأة فيقول القرطبى
والرَّفَث: كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يَكْنِي؛ قاله ٱبن عباس والسُّدّي. وقال الزجاج: الرَّفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من ٱمرأته؛ وقاله الأزهري أيضاً. وقال ٱبن عرفة: الرَّفث ها هنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والإعراب به. قال الشاعر:
ويُرِيْن من أُنْس الحديث زوانيا وبهنّ عن رَفث الرجال نِفارُ
وقيل: الرفث أصله قول الفُحش؛ يقال: رَفَث وأرفث إذا تكلّم بالقبيح؛ ومنه قول الشاعر:
ورُبّ أسرابِ حَجيجٍ كَظَّمِ عن اللَّغا ورَفَثِ التَّكلُّم
وتعدّى «الرّفث» بإلى في قوله تعالى جدّه: { ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ }. وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جيء به محمولاً على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله:
{ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُم إلى بَعْضٍ }
[النساء: 21]. ومن هذا المعنى:
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ }
[البقرة: 14] كما تقدّم. وقوله:
{ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا }
[التوبة: 35] أي يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدةَ في النار، وسيأتي، ومنه قوله:
{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }
[النور: 63] حُمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره؛ لأنك تقول: خالفت زيداً. ومثله قوله تعالى:
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }
[الأحزاب: 43] حُمل على معنى رؤوف في نحو
{ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
[التوبة: 128]؛ ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كَبير الهُذَلِيّ:
حَملتْ به في ليلة مَزْءُودَة كَرْهاً وعَقد نِطاقها لم يُحلل
عدّى «حمَلتْ» بالباء، وحقّه أن يصل إلى المفعول بنفسه؛ كما جاء في التنزيل:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً }
[الأحقاف: 15] ولكنه قال: حملت به؛ لأنه في معنى حَبِلت به.
ويقول الألوسي فى روح المعانى
فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولاً وأن يكون فعلاً، والأصل فيه أن يتعدى ـ بالباء ـ وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو/ الجماع فقصرت المسافة، وإيثاره هٰهنا على ما كنى به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذا سماه اختياناً فيما بعد، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك، وقرأ عبد الله (الرفوث).
وقد يرد فى التركيب القرآنى فعل متعد بحرف جر يمكن أن يفهم المعنى بدونه وكأنه زاد على التركيب من ذلك (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكه)البقرة195 فالفعل ألقى يتعدى إلى المفعول بنفسه مثل (فألقى عصاه)الأعراف107،(وألقى فى الأرض رواسى) النحل15
ولايتعدى بالباء وقديتعدى بحرف الجر فى وإلى
فقيل أن الباء زائده والتقدير تلقوا أيديكم ولكن القول بالزيادة فى القرآن الكريم مدعاه للحرج عند البعض إذ كيف يقال إن فى القرآن حرفا زائدا أو كلمة زائده
وقال الألوسى
وعدي ـ بإلى ـ لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء ـ والباء ـ مزيدة في المفعول تأكيد معنى النهي، لأن ـ ألقى ـ يتعدى كما في
وبعض الأفعال لا تتعدى إلى المفعول إلا بحرف جر مناسب فإذا سقط هذا الحرف بدا التركيب غريبا وربما أدى إلى اللبس وقد ينقلب المعنى رأسا على عقب مثل قوله تعالى (واختار موسى قومه سبعين رجلا) الاعراف155
فقال القرطبى
قوله تعالىٰ: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } مفعولان، أحدهما حذفت منه مِن؛ وأنشد سيبوية:
مِنّا الذي ٱخُتِير الرجالَ سَماحةً وبِرَّاً إذا هَبّ الرِّياح الزَّعازِع
وقال الراعي يمدح رجلاً:
ٱخترتُك الناسَ إذ رَثّت خلائقُهُم وٱختلّ مَن كان يُرْجَىٰ عنده السُّولُ
يريد: اخترتك من الناس. وأصل ٱختار ٱختير؛ فلما تحرّكت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفاً، نحو قال وباع.
ويقول الاما م الطبرسى
اللغة: الاختيار إرادة ما هو خير يقال خيّره بين أمرين فاختار أحدهما والاختيار والإِيثار بمعنى واحد والفتنة الكشف والاختيار وقال المسيب بن علس:
إذْ تَسْتَبيكَ بِأَصْلَتِيٍّ ناعِمٍ قامَتْ لِتَفْتِنَهُ بِغَيْرِ قِناعِ
أي لتكشفه وتبرزه.
الإِعراب واختار موسى تقديره اختار موسى من قومه فحذف من فوصل الفعل فنصبه وإنما حذف من لدلالة الفعل عليه مع إيجاز اللفظ قال الفرزدق:
وَمِنّا الَّذي اخْتيرَ الرِجالَ سَماحَةً وَجُوداً إذَا هَبَّ الرّياحُ الزَّعازعُ
وقال غيلان:
وَأنْتَ الَّذي اخْتَرْتُ المَذاهِبَ كُلَّها بِوَهْبَيْنِ إذْ رُدَّتْ عَلَـيَّ الأَباعِرُ
وقال آخر:
فقُلتُ لَهُ اخْتَرْها قَلُوصاً سَمينَةً وَناباً عَلَيْنا مِثْلُ نابِكَ في الحَيا
المعنى: ثم أخبر تعالى عن اختيار موسى من قومه عند خروجه إلى ميقات ربه فقال { واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا } واختلف في سبب اختياره إياهم ووقته فقيل إنه اختارهم حين خرج إلى الميقات ليكلّمه الله سبحانه بحضرتهم ويعطيه التوراة فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لما لم يثقوا بخبره أن الله سبحانه يكلّمه فلما حضروا الميقات وسمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية فأصابتهم الصاعقة ثم أحياهم الله تعالى فابتدأ سبحانه بحديث الميقات ثم اعترض حديث العجل فلما تمَّ عاد إلى بقية القصة وهذا الميقات هو الميعاد الأَول الذي تقدم ذكره عن أبي علي الجبائي وأبي مسلم وجماعة من المفسرين وهو الصحيح ورواه علي بن إبراهيم في تفسيره. وقيل: إنه اختارهم بعد الميقات الأَول للميقات الثاني بعد عبادة العجل ليعتذروا من ذلك.
وهناك الكثير من الأمثله القرآنية الأخرى فى أن أسلوب القرآن يختلف أ فى كثير من الأحيان عن الأساليب العربية
المراجع
كتب تفسير القرآن
العربية ومحاكاة النص القرآنى للدكتور مجدى محمد حسين أستاذ العلوم اللغوية المساعد ورئيس قسم اللغة العربية بأداب دمنهور