استلهام العناصر الأسطورية في المسرح الإماراتي (مسابقة البحوث المسرحية 2009- 2010 - الفائزة بالمركز الأول )- ريم العيساوي
تمهيد :
يتعلق البحث بتوظيف العناصر التراثية في النص المسرحي الإماراتي وبصورة أدق استلهام الأسطورة ، وقد برز الاهتمام بالتراث عامة لدى كتاب المسرح العربي لخصوبة تربته ولقيمه الثرية، ولرغبة كامنة في بلورة الهوية العربية بعيدا عن الاعتماد المطلق على المسرح الغربي ،فأخذت فكرة استلهام التراث أهميتها في إطار تجذير الهوية وتأكيد الأصالة والانتماء .
"ومصطلح التراث مصطلح شامل ، يعني عالما متشابكا من الموروث الحضاري ، والبقايا السلوكية والقولية التي بقيت عبر التاريخ ، وعبر الانتقال من بيئة إلى بيئة ومن مكان إلى مكان في الضمير الإنساني وهو بهذا المصطلح يضم البقايا الأسطورية والموروث الميثولوجي القديم كما يضم الفولكلور " *1
وتجدر الإشارة إلى أن توظيف العناصر التراثية تتنوع أساليبه ،وتتفاوت دلالاته وتختلف غاياته ،فقد يستلهم عنصر من التراث كمحور أساس يرتكز العمل المسرحي عليه،وقد يستعار عنصر من عناصر التراث مع التجاوز والإضافة ، ويستند على التراث أحيانا من ناحية الشكل وأحيانا من ناحية المضمون ومنها مواجهة الموروث كرمز يبني عليه المبدع رؤيته ومواقفه لإسقاطه على بعض القضايا في مجتمعه الراهن. ولتعدد مظاهر الموروث نتوقف في هذا البحث عند حدود الأسطورة .
جدلية العلاقة بين الأسطورة والإبداع :
إنّ ّالأسطورة في علاقة عضوية جدلية بالإبداع ، وهي علاقة ترجع إلى سحر الكلمة وتأثيرها غير العادي ، وارتباط الأسطورة بالكلمة هو ارتباط نابع من أصل اشتقاقها.
وعندما يلجأ المبدع إلى التعبير بلغة إيحائية إنما يحاول العودة بها إلى دلالاتها الأولى في أصل مسمياتها ويجد المجال الخصب في عالم الأسطورة الذي يرتبط بتلك المرحلة البكر في حياة اللغة.
وهذه العلاقة منذ القدم ، فقدكانت الأساطير مصدر إلهام للفنان والشاعر،إذ أعمالهم تحقق خلودها أمام سطوة الزمن بفضل تلك الطاقة الحيوية التي تهبها إياها الأسطورة .
فالمسرح منذ بداياته نهل من الأساطير، إذ ارتبط المسرح المصري القديم بأسطورة إيزيس وأوزيريس وحورس، كما اعتمد المسرح الإغريقي على الأسطورة كمصدر أول استمدت موضوعاته من الأساطير والملاحم كالإلياذة والأوديسا لهوميروس وأشهرها مسرحية ( أوديب الملك )." ومن الذين استلهموا من هذا النبع الخصب توفيق الحكيم وعلي أحمد بكثير وسعد الله ونوس وغيرهم .
وتستلهم الأسطورة في الفن الدرامي لغايات كثيرة، منها تعميق الأبعاد الفلسفية أو الإنسانية، وبلورة قيم خلقية، و محاولة للهرب من سيف الرقابة في طرح القضايا السياسية،أو رغبة في الاستفادة من مكوناتها الدرامية في بناء ما يريدون من رؤى ، كما اتجه البعض لها استجابة مع بعض التيارات الفنية التي أعلت من شأنها .
وكان من الطبيعي نتيجة انفتاح الحياة المسرحية العربية على التجارب العالمية أن تتجلى مظاهر الأسطوري واضحة فظلت الأسطورة منبع استلهام ، تتجدّد وتعبّر عن هموم الإنسان وتلتحم بتجاربه عبر حقب زمنية مختلفة فاستطاعت أن تتسم بصفة متعالية تسمو بذاتها عن قيود المكان والزمان.
إشكالية المصطلح:
تعرض مصطلح أسطورة لكثير من الجدل فقد اُختُلف في تحديد طبيعتها ومدلولها ، فهي عند البعض ضرب من الوهم الصبياني ، وعند الآخر شعائر دينية وبعضهم رآها تعليلا لظواهر طبيعية أو اجتماعية .
ورغم تباين الآراء في نشأتها وبواعثها إلا أنه من المتفق عليه انبثاقها من الطقوس .
كما أن التحليل النفسي وخاصة مع"يونج" ينظر إليها على أنها رمز عن مشاعر مجتمع ما وتعبير عن رغباته المكبوتة في اللاوعي الجمعي مثلها مثل الحلم بالنسبة للفرد فالحلم أسطورة فردية.*2
ومن أسباب هذه الإشكالية تداخلها مع حقل تشترك فيه الديانة والفولكلور
و الانتروبولوجيا وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والفنون الجميلة.
ورغم امتناعها عن التفسير العقلاني فهي تستجيب له. فظلت حاضرة ،لأنها تعبر عن خيال جمعي متطلع نحو المثل الكوني الرائع. * 3
______________________________
عرفها البعض :" بحكاية تتحدث عن عالم وهمي يرمز إلى أشياء وأحداث حقيقية لكنها محرفة أو مضخمة" .و عند بعض الدارسين لا تعدو أن تكون عرضا محضا لوجهات نظر غربية مثلما جاء في دراسة الباحث فراس السواح بقوله :" الأسطورة حكاية مقدسة ، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة ، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة ، بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة ...وتنتقل من جيل إلى جيل بالرواية الشفوية
وفي رأي الدراسات العربية المعاصرة الجامعة بين نظرة القدامى ووجهة نظر الغربيين هي :" حكاية خيالية قوامها الخوارق والأعاجيب تتجاوز العقل الموضوعي وهي تروي تاريخا مقدسا – لكل ما سطره العرب الجاهليون ، يلعب أدواره الآلهة وأنصاف الآلهة والكائنات الغيبية وبعض البشر المتفوقين مستمدة من فكر بدائي موغل في القدم " .*4
وبما أن العديد من التعريفات تضيق مرة وتتسع أخرى وإن اختلفت أو اتفقت ففي تعريف الدكتور أحمد إسماعيل النعيمي جهد في الإحاطة بمفهومها إذ يرى الأسطورة : " فكرا أو معتقدا احتوته قصة أو حكاية تقليدية تروي تاريخا مقدسا أو حافلا بالخوارق والأعاجيب منذ انبثاق الفكر من تلك الكلمات المصاحبة للطقوس والشعائر التي مارستها الشعوب القديمة إزاء الكون الذي قد كانت نظرت له نظرة ملؤها الإحساس بوجود أنماط قوى قادرة على التحكم لا بالظواهر الطبيعية فحسب إنما بمصائر البشر، متجسدة بالآلهة وبعض البشر ، مما له القدرة على الالتحام بالقوى الغيبية ، انطلاقا من اعتقاد تلك الشعوب ، بأن كل ما في الكون ذو حياة ، وأن الأرواح حالة في كل مكان ..فضلا عن تفسير الأساطير خلق الكون والإنسان ومعالجتها لموضوعة الموت "*5 .
لقد بنى الكثير من المسرحيين العرب نصوصهم على المضمون الأسطوري
لأغراض مختلفة ووظائف فنية .وفي المسرح الإماراتي نجد نماذج تفاوتت فيها كيفية الاستلهام من التراث تنتمي لفترات زمنية مختلفة ، نقف عند البعض منها لإبراز مدى استفادتها من عناصر الأسطورة ، وإلى أيّ مدى استطاعوا من خلالها التعبيرعن واقعهم ومدى وعيهم بقضايا العصر وبرسالة الفن ؟ . وإلى أيّ حد عبروا بواسطتها عن مواقفهم ورؤاهم ؟ وما هي الأساليب التي توخوها للاستناد على منظومتها الفكرية ؟ .
استلهام الأسطورية في المسرح الإماراتي
*- الأسطورة كحامل بنيوي ومضموني للمغزى الكلي للمسرحية :
* مسرحية جميلة لجمال مطر:
من الكتاب الذين استندوا على المضمون الأسطوري كحامل بنيوي ومضموني للمغزى الكلي للنص الكاتب الإماراتي جمال مطر وذلك في مسرحيته " جميلة "* مسرحية ذات أربعة عشر مشهدا ، اعتمد فيها على اللهجة الإماراتية .
سلك فيها الكاتب طريقة القص الشعبية ، في المشهد (1)، عجوز تحكي للبنت وللولد حكاية الشاب الجميل الذي أحبّته جنية البحر فصار يصفع البحر ويردد:" سأتزوج جميلة سأتزوج جميلة " هذا المشهد الإطاري يضطلع بوظيفة فنية هي إدهاش المتلقي بعناصر خيالية ذات أبعاد أسطورية .و هو مدخل افتتاحي يزاوج بين الواقعي والخيالي، واتكاء المسرحية على عالم الجن ، يوقظ من الوهلة الأولى جذوة الإدهاش .
ومن المنطلق نتبيّن بناء النص على سردية الخرافة و تبدأ أحداثه تتحرك حول فكرة محورية ، ذات بعد أسطوري ، تكشف عنها الأحداث تدريجيا وبعد أن مهد لها الكاتب ببنية آتية من الأزمنة البعيدة ، بنية مساهمة في خلق عنصر التشويق .
في المشهد (2) : يدور الحوار بين بوناصر و بوصالح حول المهر الصعب الذي اشترطه بوناصر لمن يرغب في الزواج من ابنته "جميلة " بالحصول على حبل البوم القابع في أعماق البحر (وهو نذر نذره) وقد ردد هذا العهد الذي التزمه على نفسه ثلاث مرات.وينهض هذا الحوار بوظيفة إبراز العقدة بسبب المغالاة في المهر . والتي ستتكثف أكثر باستحالة الوصول إلى البوم و بحيرة الأهالي، وتعديدهم للضحايا الذين غامروا وابتلعهم البحر خلال ثلاثين سنة .
وتبلغ العقدة الذروة باعتبار الوصول إلى البوم أمرا معجزا ، والقادر على هذه المجازفة الخطيرة ، في سبيل الفوز بالزواج من جميلة لا بد أن يكون على درجة من البطولة الخارقة . "كم من الحكايات الشعبية نسجها عقل الإنسان الخليجي حول هذا الحبل –حبل الخلاص-" *6
جاء على لسان الأب بوناصر: لازم ها الريال يكون قد جميلة .. يعني لازم يكون قوي ... بطل يكون شي كبير ..ريال ينتف من اليبل يكسره ..ريال ما في حد مثله
( ص13) .
هذه العبارات يكشف بها الكاتب اللثام عن مقاييس بوناصر لمعاني الرجولة( البطولة) مجسدة في العريس المأمول لابنته ، فتبدو هذه الملامح إلى ملامح البطل الأسطوري أقرب ، ونستنتج موقف الكاتب من سلوك الأب ، فهو بعيد كل البعد عن الواقعية ،وتتلون صورة العريس البطل بمسحة من الغموض والضبابية و هذا إشارة إلى العتمة المسيطرة على تفكير الأب والتي أغلقت دونه أبواب الصواب والحكمة وهذه العتمة كثيفة لأنها مسلطة على المرأة ( ابنته ) وكذلك مسلطة على الرجل .
( العريس ) وبالأحرى فهي مسلطة على بنية الأسرة خلية المجتمع ، ومن هنا تتأكد خطورة هذا التصرف . وهنا يضطلع النص بدلالته البعيدة ورمزيته . ألا توحي عبارة حبل البوم بالموت ؟ وذلك بإحالتها على خشبة المشنقة ،وكلمة بوم ألا تحيلنا إلى ذلك الطائر الذي اعتبر رمز الشؤم ؟ إنها ّعبارة ذات شحنة إيحائية لمعاني الفناء وسوء المصير وذات طاقة "مناورة" لأفق المتقبل وخياله .
ومثلما انحصرت صورة " جميلة " العروس في ملامحها الجسدية ،كذلك انحصرت بطولة العريس في سماته الأسطورية . وعن وعي من الكاتب فهو ينقد نظرة الأب السطحية لجملة من القيم الإنسانية ، وخاصة في إصراره العنيد على شرط الزواج ، شرط ينقد عقلية بعيدة عن المنطق السليم .
كما تكشف هذه الكلمات بدلالاتها البعيدة وشحناتها الإيحائية نظرة الأب التشييئية لابنته .وكأن كلمة سوس تصف عقلية الأب النخرة التي جعلته ضالا .وهي الفكرة نفسها التي راح ضحيتها عنترة في الجاهلية حين طلب منه ألف ناقة مهرا لعبلة .
في المشهد (3): تدخل شخصيات جديدة : بوفري، طارش ، جاسم بوسالم ، المينون ويدور الحوار حول زواج جميلة ويتأكد من خلاله استحالة تحقيق شرط بوناصر وفي هذا المشهد يبلغ الصراع ذروته ،و يكشف الحوار تلك الأساطير والحكايات التي نسجها الخيال الشعبي حول البوم وحتى الأهالي ينصحون أولادهم بعدم الاقتراب ناحيته. وتظهر حوارات الشخوص المفارقة بين الواقعي والخرافي ، ويربط بوصالح تلك الخرافات التي حيكت حول البوم بشرط بوناصر اللامعقول والخرافي ( المهر) :
بوصالح : خرافات ..واللي مسويه بوناصر مب خرافات ، ( ص 16 )
وهنا يدين الكاتب أثر الخرافة في بناء العقول أمثال بوناصر المحملة بشوائب ومرتكزات واهية في جو خرافي عامل على تأجيج الحس الدرامي وتصعيده وشد أفق المتقبل .
ويدخل المجنون الذي تتضح من حواراته أنه عاشق جميلة دون أن يراها ولا يكف عن ترديده للأهالي أنه سيفوز بها ، وهذه الشخصية تبدو مهمشة قي بداية المسرحية، موضع سخرية ،لكنه سيتحول في نهاية المسرحية إلى بطل بتحقيقه ما لم يقدر عليه العقلاء .وهنا يظهر عنصر السخرية في المفارقة بين عجز العقلاء وقدرة من نعته الأهالي بالمجنون .
إن العلاقة تبدو واضحة بين الماضي ( الأسطوري ) والحاضر( الواقعي) الذي بدوره امتداد له، ومن هنا يبدو الخلل وكذلك تبدو العلاقة بين جنون الشاب بصفعة الجن وجنون الأب بلوثة الجهل .ويبرز الكاتب في هذا المشهد أن جميلة حلم العاقل مثلما هي حلم المختل وفي هذا تشير المرأة إلى رمزيتها ، ألا تكون رمز الحرية و الحياة ؟ .
في المشهد (4) : يتوخى الكاتب أسلوب المونودراما مصورا جميلة بمفردها ويكشف لنا حديثها الباطني معاناتها القاسية ، تناجي والدتها المتوفية وتشكو منزلتها البائسة وهي مناجاة طويلة جاءت في لغة منثالة يعمق الكاتب من خلالها الصراع الداخلي الحاد الذي يحتدم في نفسها بسبب المهر المعجز، ذلك النذر المشؤوم ، وهذا المونولوج هو مرثاة الذات ، أذكى به الكاتب الإيقاع الدرامي ورسم به حلم الإنسان بالحرية و الانعتاق مجسدا في حلم جميلة بالخلاص من أسر السلطة الأبوية المكبلة بالفكر الخرافي. كما كشف هذا المونولوج الصراع بين البنت والأب من خلال رغبتين متناقضتين ، رغبة الأسر باسم المحبة والعاطفة المختلة ورغبة التحرر والخروج من سلطة جائرة ، ويتصاعد الصراع باختلاف مقاييس القيم عندهما ، فمقاييس الأب مادية بينما مقاييس البنت معنوية .لقد ظلت جميلة ضحية مهر والدها الأسطوري حبيسة الجدران .
كما عمّق الكاتب الصراع الداخلي لدى الأب ، فهو في المشهد (5) متأثر من بكاء ابنته الذي يتواصل ليلا وهي تشكو من عنوستها ،فيرسمه عن طريق المونولوج يحدث نفسه مسترجعا الماضي وهي طفلة مدللة ، محاولا تبديد خوفها ، ويهديها لآلئ ادخرها لها ليسترضيها ويقنعها بالبقاء عنده ، كما يكشف المونولوج حالة تمزّق الأب ، بين رغبته في تحقيق نذره ورغبة تخليص ابنته من كابوس العنوسة .
في المشهد (6) :يعود الكاتب مرة أخرى إلى حكايات الجدة ، مما يؤكد وعيه بوظيفة الموروث الشعبي الشفوي كمخزون ثري لمجال الإبداع والنهوض بوظيفته الفنية . وقد تكررت الحكاية الشعبية في هذا النص على لسان الجدة مما يؤكد التحامها بالذاكرة الجماعية وترديد الأهالي لها يعني تجذّرها في اللاوعي :" لأنها أشبه بالجرثومة الذكية التي إذا شعرت بدخول الدواء الذي يقتلها ..أخذت شكلا تمويهيا وغيرت من ملامحها ..فهي لا تزول لأنها ليست معرفة طارئة ، بل شديدة التجذّر في اللاّشعور الاجتماعي . * 7
في المشهد (7) : يدور الحوار بين المجنون والجنية ، يغنيّ لها أغنية شعبية ، ويصرح لها رغبته في الزواج بجميلة لكن الجنية تصر على عشقها له وتعارض زواجه منها وتتوعده، ويبدو جمعة متحديا لها مراهنا على الفوز بجميلة ،لكن الجنية لاتؤذيه لأنها تحبه .
في المشهد (8) : يحدث الأب نفسه متألما حزينا بسبب حزن ابنته ويعترف بغلطته قائلا :"الظاهر أني قسيت عليك وظلمتج وياي " ( ص 36 ) ويناجيها سامحا لها بالخروج
و التمتع بالحرية بشرط العودة إلى البيت لأنه في حاجة إليها.
المشهد (9) :على قصره ، بمثابة الومضة السريعة ، لكن دلالته واضحة تكمن في تحويل الأحداث من الصراع والعقدة نحو الانفراج ، ومن الانفعال والتوتر إلى السكون، وهي لحظة تجمع بوناصر وبوفري وبوصالح وجاسم والمينون لأداء فريضة الصلاة وهذا المشهد يربطنا بالمشهد العاشر حيث تتجلى لحظة الوعي ومراجعة النفس فيبدو الأب بوناصر منفعلا وكأن الصلاة طهرته من رواسب العادات ، واعترف بغلطته نادما.
وفي الأثناء يدخل المينون مصرا على الزواج بجميلة وعازما على إحضار حبل البوم .
تعود جميلة في المشهد الحادي عشر ومن خلال المونولوج مرة أخرى، كاشفا الكاتب رضاها بالزواج من المينون بعد نفاد صبرها وتفجّر رغبتها للخروج من سجن والدها :
جميلة :- أبغيه لو حتى مينون أبغيه ، وأبغي ريحته وكل ريحة بحر فيه ..باجر يوم بتسير بدعيلك الله يردك لي سالم غانم ، وأنا بوصي البحر وبقوله يشيلك على كفوف الراحة وبوصي عياله الموي محد يتحرش فيك .. ارجع بسرعة ولا تنس جميلة الحلوة .
( ص 41 )
وبعد أن صور الكاتب سيطرة المجنون على الجنية وقتلها غرقا يتخلص منها و يتوجه نحو البوم ويحضر الحبل ويقف أمام الأهالي الذين ينتظرونه على الشاطئ ، ويندهش جاسم ولم يصدق أن المجنون جاء بالحبل ، لكن المجنون يغني فرحا بانتصاره .
المينون :- " نشّفوني ونشّفوا شعري \هاتوا البخور والعود ودخنوني \هاتوا القمر كله ..وبنوره كحلوني (..)خذ يا بوناصر خذ هذا حبل البوم \اسحبه ويوصلك البوم لين هيه /الين عندك .
بوناصر :- ييب الحبل ، عطني اياه ، عطني بسرعة ..أنا ما أصدق عيني .
المينون :- سلم واستلم ، وين العروس وين جميلة وين المدخن والدخون . ( ص 47 ).
ويظهر الكاتب تردد الأب عند حضور المهر الصعب ( نذره الخرافي ) ويستشير ابنته فتعلن موافقتها طالبة منه أن يبارك زواجها ، لكن الأب يتردد متعللا بأن عقد القماش لم يكتمل ويترجى منها أن تصبر قليلا ، فتجيبه :
جميلة :- بعد تباني أصبر ...بعد تباني تعذب خل العقد عندك ..خل اللولو في بيتك ..أنا ما أبغي لولو أنا أبغيه هو .
المينون :- خذ الحبل ..اسحبه وبيوصلك البوم لين بابك
بوناصر :- عطني ..عطني ...عط . ( ص 50 )
وبنهاية الأب ، وضع الكاتب فاصلا للفكر الخرافي ، وبرهن على قدرته في الوصول إلى مواطن الإبداع في ذلك الموروث من أجل تأصيل فنه وربط الإبداع بجذوره وإعادة صياغته وتحويله من المستوى الشفوي إلى المستوى المقروء دون فقدانه لجوهره .
استند جمال مطر في هذه المسرحية على الخرافة والأسطورة في قص الجدة على الأحفاد سيرة الماضي ): قصة الشاب المزيون ص 8-وقصة البنت الحلوة ص 43) وقصة الطفلة للولد حكاية الحبيبة التي اشترطت على حبيبها جلب القمر :" اسمع عيل كانت فيه بنت حلوة قالت حق حبيبها إذا تحبني هات القمر عندي – سار الولد للقمر قال له حبيبتي قالت لي هات القمر عندي ، ، كان يقول القمر أنا إذا سرت الدنيا بتستوي ظلمة ما أقدر أسير وياك .قالت له: سير هات لي الشمس ، سار الولد ويوم وصل عدال الشمس قلت له : بسرعة سير عني وإلا بتحترق ، رجع الولد وقالها : الشمس كانت بتحرقني ، خافت البنت على الولد ، وقالت له سير هات لي البحر ، سار الولد يحليله وشل وياه درام خالي وترس فيه ماي البحر ووداه عند حبيبته وكب الماي عليها ، كان تقوم من النوم .." ص 30-31
تبدو هذه الحكاية الخرافية على لسان الطفلة ذات دلالة عميقة فالكاتب يؤكد بها على فكرة الأسطوري الراسخ في الوعي الجماعي والذاكرة التي تربط بين الأجيال وتبرز استيعاب الكاتب للعناصر الأسطورية وما تحققه من وظيفة جمالية ورمزية عميقة تحسب له، وخاصة في قدرته على التوليف بين الحكاية الإطارية على لسان الجدة حكاية الطفل والجنية ،وهي النواة ، أما الحكاية على لسان الطفلة فهي حكاية مساندة، تساهم في بناء النص بناء دراميا متماسكا وثريا بالإيحاءات في وهنا يجمع الكاتب في الاستناد على المظاهر الأسطورية شكلا ومضمونا ،ويعمل على عنصر المفاجأة .
" إنّ مسرحية جميلة تذكر الناس بمرحلة زمنية قديمة ،ثم توضّح بشكل رمزي كيف سيأتي المستقبل _ خاصة بعد ظهور النفط – هذا المستقبل بكل ما فيه من تقدم وتكنولوجيا . والآلية مجنونة لا تعرف للتقاليد أية حسابات ، فتقضي عليها ،إن المجنون هنا هو الذي أتى بالمهر ، والمهر ما هو إلا حل للمشكلة ، هذا الحل الحاسم الذي لا يرمز إلا للآلية والعنصر المادي الذي جعل جميلة تخرج من حبسها الذي عاشت فيه لسنوات طويلة ، وتسير في طريق واحد مع المجنون ،وهكذا فإنّ المؤلف جمال مطر يقف موقفا مضادا في اتجاهات طمس الهوية وقتل التراث القديم " *