النص المسرحي المرتكز على الفكر الأسطوري كحامل مضموني للمغزى الكلي :
*- مسرحية الياثوم لسالم الحتاوي : تندرج هذه المسرحية ضمن النصوص المسرحية التي ترتكز على الفكر الأسطوري كحامل مضموني للمغزى الكلي
للمرحوم سالم الحتاوي ظاهرة فنية متميزة في المسرح الإماراتي ، ولتفردها فهي تغري بالقراءة والبحث والتأمل الرصين ، وتحمل على استنطاق مواطن جمالها وطرافتها ، والوقوف على عناصر إنجازه المسرحي ا لثري الدلالات ، والعميق الأبعاد ، سنتناول مسرحية "الياثوم " لتضمنها مقومات جمالية مهمة .
مسرحية "الياثوم " الصادرة عن ( دائرة الثقافة والإعلام – ط1 -2002 م ) مؤلفة من خمسة مشاهد، اعتمد فيها الحتاوي على اللهجة الإماراتية المحلية ، متكئا على مضمون أسطوري خطير وهو المعتقد في سكن الجن للمكان والإنسان وفكرة أذى الجن للإنس وإصابته بإصابات وأمراض، فكرة رائجة مترسبة في العقول وإذا حدث للجن مايوجب الغضب من الإنسي فإنه يبادر إلى إيذائه انتقاما وغيظاً ،فقد يحدث أن يصب الإنسان ماء حارا على الجني لأنه غير مرئي و دون قصد ، فيصيبه بأذى أو ينزل في بعض منازلهم دون أن يشعروا ، وفي هذه الأحوال يسارع الجن إلى الانتقام من الإنس ،ومن الأذى الذي يصيب به الجن الإنس هو السكن.
تنبني مسرحية "الياثوم" على هذه الفكرة وقد اعتقدت موزة أم صقر في وفاة أولادها الستة بسبب ذهابهم لسدرة طوي الخرايب ، حيث تسكن الجنية روية فقتلتهم وواصلت في انتقامها منها بقتل زوجها عبيد و بعشق صقر ولدها الوحيد والرغبة في الزواج منه .
تنفتح المسرحية بالمشهد (1) : مشهد قصير مقتصد ، يمسك بتلابيب الإدهاش والمفاجأة محركا خيال القارئ أو المشاهد : ( المسرح في حالة إظلام (..) مواء قط... عيون قط .. صرخة قوية ..أصوات طبول..ضحكات ..صرخات.. أشكال غريبة راقصة .. مكان موحي بتحت الأرض )
الحدث نزول روية ( الجنية ) مع صقر من الأعلى ..يقف كل منها مواجها الآخر .. تضحك روية فرحة ، بينما صقر يتألم كلما ازدادت ضحكاتها يصل به الحال قذف الدم من فمه .. فتمسك برأسه تحاول شرب الدم المتفق فيصرخ مع الإظلام ) ص 11
مشهد يقدم القضية تقديما مغرقا في الدرامية في جو يبعث على الرعب ، ويوحي بدموية الصراع الذي ستكشف عنه الأحداث فيما بعد .
تحول في المشهد_(2): إلى حوش موزة أم صقر في منطقة جبلية من مكوناته بئر ودلو وسرير ، تنام على فراشه موزة في الحوي بالقرب من الشباك ، صقر يقفز صارخا فزعا وبقع الدم على ملابسه ، ينظر لها في خوف وغرابة ، تقفز أمه من نومها كالمجنونة .. صارخة :"بسم الله الرحمن الرحيم ..بسم الله الرحمن الرحيم عليك يا وليدي صقر .. يا صقر " . ص 14
ويحاول صقر تهدئتها دون جدوى وهي التي فقدت أولادها في ظروف غامضة ومعقدة معتقدة في عمل الجنية روية ، لكن صقر يهوّن من رعبها باعتباره كان يحلم .
ويقص عليها حلمه الذي روّعه وقد رأى فيه عرسه وأخبره من الحضور في الحلم بقوله :" هذا عرسك .. والي وياك هاذي بنتنا ( روية ) حرمتك " ص 15
موزة : ( تشهق بخوف) : وخذيتها ياصقر ..
صقر : ( مواصلا ) عقب شفت عمري أركض ساير جدي سدرة طوى الخرايب والعروس جاله تحتها والسدرة مزينة بنقوش والطيب يفوح منها (...) واذكر اني شفت ناس شالين فنارة ويوايجون داخل الطوي (..) العروس هزت راسها تقول لي لا تسير ..الليلة ليلتي أنا ..حرمتك أم عيالك ..تعال ...
موزة ( مقاطعة بخوف ) وسرت لها وعرست عليها ؟
صقر : ( تائه ) ما أتذكر ..
موزة : شقايل ما تتذكر والمطوع قايلك تخبره عن كل شيء تشوفه في إ رقادك .
وتضطرب موزة وتذكر سبب هذه الأعمال الجنية روية وتسلط عليها سخطها ودعاءها بالشر وتتضرع للخالق ليحفظ ابنها من شرها فتطلب من صقر أن ينام قريبا منها ، فيرفض.
موزة : هاذي هي الخاطية تبا اتخلا بك بروحك وتلعب لعوبها ( ص 17 )
وتسقيه من زجاجة محو صنعها المطوع حرقوص وتهيئه لحرزه الجديد .
ويتضح من خلال حوار الأم مع ولدها صقر ، اعتقادها الراسخ في أن ابنها مسكون من الجنية روية ، واعتمادها على المطوع و الثقة في قدرته على الخلاص ، لكن صقر يرد عليها : لو كل اللي تقولينه يفيد ..جان فاد المراحيم إخواني الله يرحمهم ..كان منعهم عن لا يسيرون عند سدرة طوي الخرايب ويموتون تحتها. ( ً 18)
ويدور الحديث بينهما حول البيت باعتبار الجنية تسكنه ويقرر صقر بيعه، بينما أمه ترى فيه ذكرى زوجها ورائحة أولادها فيقر:
صقر : ( غاضبا ) لا مب بس .. هذي نعش موت يا أمي ..ياثوم يسرقنا في غفلة رقاد ونصبح مدفونين في يوفه .. أنا لازم أبيعها..ص 19
لقد برع الحتاوي في اختيار كل العناصر التي تساهم في خلق جو خيالي مخيف ، فضاء عالم خفي جسده ب
مواء القط ...أصوات غريبة تظهر للأم .. رنين خلاخل همهمات .. صوت خطى ) هذا الجو يزرع في نفس موزة الخوف فتخاطب الجنية :
شوتبين يايه الحين ما سدك الي سويتيه البارحة .. موديتنه اليبل وتبينه يعرس عليك (..) الإنس والجن ما يتواخذون خافي من الله تلعبين بشبابه .. سكني في راسي إن بغيتي واخذي روحي بداله .( ص 20 )
ألا يبرز الحتاوي فعل الخوف في نفس الإنسان فيحدث الاختلال والتداخل بين التكذيب والتصديق ؟ فكيف تؤمن موزة أن الجن والإنس لا يتزوجون وفي الوقت ذاته تضحي بنفسها مصدقة من أجل كبدها ، إنها قيمة الأمومة تلك الخصلة المقدسة التي تحركها غريزة خالصة .
لقد بدت موزة متضرعة بسبب هذه الخيالات وكل حركة يتهيأ لها أنها من عالم الجن ،
كم مرة تخاطب الجنية لائمة (… ) أدري أنه شرب الدم قسى قلبك وخلاك عميا ما تشوفين ، مب بس عليج اللي خذتيهم وأكلتيهم ...عنبوه المعشرة انترست من عيالي وأنتي بعدك ما شبعتي .. ما تعبتي من قص لجفانه ونبش القبور ( تبكي ثم ترفع يدها لسماء ) ص 20.
خلال هذا المشهد يحضر ضاعن أبو عوشة خطيبة صقر مصحوبا برجلين يحملان هدايا خطبة صقر ، مصرحا لأم صقر بعزمه على فسخ الخطوبة مصرا على طلاق ابنته ، لأنها مريضة منذ يوم ملكتها، و قد أكد له كل المطوعة أنّ الجنيه اللي في راس صقر هي السبب ، والجنية عاشقتنه وما تبا حرمة غيرها تشاركه فيه (..) والناس يرمسون أنه معرس عليها ويايب منها عيال " (..) ويمكن يموت ويلحق اخوانه (..) يطلق عوشة يعني يطلقها "ص 23( يخرج ).
وبخروجه تعود تلك الأصوات المخيفة تصدر من البئر ومن الغرف وتتحرك الأشياء دون فاعل وتعود موزة لمخاطبة الجنية : انقلبي قطوة أو غراب أنا أعرفك زين .. شو اللي يرضيك عشان نعطيك وتسيرين ..أنا تعبت وولدي ما يقدر عليك ... ص 24
ويرجع صقر يائسا لأنه لم يبع البيت بدعوى أنه مسكون ..فتخبره بقرار ضاعن وطلبه لطلاق ابنته ، وبهذا ينمي الكاتب عقدة الأحداث بالربط بين سكن روية لصقر وهو سبب لمرض عوشة و نتيجته في طلب الطلاق . وينمو الصراع بين صقر وأمه في أمر الطلاق ، فالأم تصر على الطلاق خوفا عليه ،بينما هو يتحدى الجنية مصرا على الحفاظ على الإنسية خطيبته وابنة عمه عوشة .
صقر : خليها تسمع وتسوي اللي تباه .. ماتم لنا شيء نخاف عليه ..اظهري بسك من الظلام اللي مثل نواياك السودا .. تعالي كان تقولين العشق مرادك ..أنا قلبي لا هوى ولا حب غير عوشة ... بتموتين بغيظك لكني ما بطلقها ( فجأة تستلبسه ويضحك بصوت امرأة وتظهر عليه حالات التلبس ) ص 26.
وتتكلم روية الجنية على لسانه، متوعدة أمه بشر العواقب وري السدرة من دم أحد أسرتها ، فتتعجب موزة من هذا الكلام مستفسرة عن السبب ، فتذكّرها روية بحادثة صبها الماء الحار على قط أسود فمات ، وتبوح لها أن ذاك القط هو زوجها ، وأنها انتقمت منها بقتل عبيد أبو صقر :
روية : أنا اللي دزيت ريلك في الطوي عشان أكسحه وأعذبه .. ص 28
ويستمر الخصام بينهما، كاشفا الحقد الذي يملأ قلب الجنية و قسوة انتقامها من موزة وتخبرها أنها هي السبب في مرض عوشة ، وتستميت موزة من أجل الدفاع عن ولدها ومنع الجنية من أخذه منها ، وتتوعد الجنية إذا لم ترض موزة ،تنتقم منها بالطريقة نفسها التي سلكتها مع عبيد زوجها أن تسقطه في البئر. ثم تلهب خوف الأم بأصوات الغربان التي تسمعها بأنها أصوات أهلها وأصحابها فرحون بمناسبة عرسها . ص 30
روية : ( تضاعف غيظ موزة) صقر ريلي وأنت عمتي جدة عيالي ..
موزة : لا لا لا .ص 30
مشهد (3) : قرب ( شجرة سدرة كبيرة على يسار المسرح ، في الخلاء ليلا ، نسمع عواء ذئاب من بعيد ونباح كلاب تقترب وفجأة يظهر صقر كالمجنون ممزق الثياب هاربا من مطاردة الكلاب يحتمي بجذع السدرة (...) يجلس ويلعب بالرمال .. وفجأة يسمع مواء قط ثم يتبدل إلى وقع أقدام مصحوب بصوت خلاخل يقترب منه ...) ص 31
يجسد الكاتب لقاء صقر مع الجنية وكيف تتلبسه ، وتعود الأصوات نفسها فتختفي الجنية خلف جذع السدرة .. ثم ظهور مجموعة من الناس يحملون فوانيس يتقدمهم حسون
( هب الريح ) وهم عمران وسليمان وصالح وسند ، ويتحاورون عن الجن و كيفية مقاومتهم ويتفاخر حسون هب الريح بقدرته على ترويض الجن :
حسون : وأجلع عيونهم ..أنا من صغري وأنا أير العفريت من ذنيه والجني من شعر راسه .. أنتو سمعتو عن جنيه يسمونها الزبا أم قرون ( المجموعة يهمهمون فيما بينهم )
هاذي سلمكم الله قطعت ريولها وخليتها تمشي على عكاز (..) شيخ العفاريت اللي الكل تحت أمره .. قيدته بغترتي أسبوع وخليته يشبع من حمرة الشمس في حوينا ..ص 34
ويستمر حسون هب الريح في قص قدراته في تذليل الجن ، ذاكرا :
حسون : تراه في حوينا .. حتى باقي حرس شيخ العفاريت يشتغلون بشاكير عندي في البيت . ( ...) جنية صقر هاذي اللي انتو تشوفونها عنيدة وراسها يابس ..إذا ما خليتها تخم بيوتكم وهي تضحك ولا أنا مب حسون ولد هب الريح ص 34
ويرتعد كل واحد من الحضور ما عدا حسون الذي يستمر في التباهي رغم تحذير سند له بحضور روية :
حسون : الله يسمع منك ..يا ليتها تسمعني وتطلع جدامي الحين .. جان راويتكم فيها العجب ( يصرخ في جميع الاتجاهات ) وينك يا جنية صقروه وينك .. ولد هب الريح يديه تاكله يبا يقطعك ويضحك عليك الناس ..(تهتز أغصان السدرة محدثة أصواتا أو خشخشة ) ص 35
تحدث هذه الحركة رعبا في نفوس الجميع وحتى حسون يرتجف وخاصة عند سماعه بموت عبيد أبو صقر في البئر ويتفطنون أنهم في بيوت الجن ، ويزداد خوف حسون البطل فيسخر منه الجماعة فيتوجه للسدرة معتذرا من الجنية معترفا بأنه من قوم هب الريح وهم قوم محترفون للكذب ورثوه أبا عن جد وبالنسبة لصقر يسمح لها بتملكه لأنه لا يجد امرأة مثلها "دلال وجمال وطيبة" ويواصل :
حسون : عوشة ما تساوي تراب ريولج ... زين يوم مرضتيها وكسرت راس أبوها الفوشار ..
ويبلغ بحسون الخوف إلى درجة يستنجد بالجماعة كي يوصلوه لبيته ، ويعترف أنه كذاب فيسخرون منه وينصرف جاريا فتنهشه الكلاب .
أليست هذه لوحة فنية معبرة وعميقة الإحاءات ، فالعبثية المغلفة لهذاالمشهد وسمة الكذب ، تلخص تاريخ الأساطير ، أنها من صنع خيال الإنسان والنزعة الهزلية للسخرية من هذه المعتقدات ، هي رسالة يمررها الكاتب بذكاء فنيّ ووحرفية ليحطم كابوس الخوف الذي نصنعه بأيدينا .أليس نهش الكلاب لحسون الكذّاب صفعة له من الكاتب حتى يدرك منطقة الوعي؟
هب الريح عبارة حمّلها الكاتب رمزية كل الأوهام التي لا تستند إلا على الخواء.
وإثر انصراف المجموعة، يخرج صقر من خلف جذع الشجرة كالطفل المسلوب الإرادة (..) يبدو كأنه يخاطب أحدا ...يتأمل السدرة ثم يحتضن الجذع ويسمع تلك الأصوات الغريبة (..) يهم بالنزول في البئر ثم يتراجع وفجأة يبرز رأس روية من تحت الأرض تخاطبه وتبوح له أنها متلبسة به من سنين وتهدئ من روعه:
روية : لاتخاف ..أنت ريلي وأنا حرمتك والليلة دخلتنا ..سقيتك دم عشان أعميك وما خليك تشوف إلا غيري ومستعدة أشرب دم أمك إذا خذتك عني ص 40
وتواصل تهديداتها له بالموت ثم تغريه بالكنوز وتنبهه من أعمال المطوع ثم تتصور له في صورة خطيبته عوشة ثم تختفي وسرعان ما تظهر مرة أخرى في صورة فتاة جميلة تغريه وتتوسل له للزواج بينما يبقى هو يردد اسم خطيبته عوشة .
وتدعوه للاندساس تحت السدرة هروبا من محو المطوع وحرزه ، في هذه اللحظات يظهر صالح وسليمان وسند يبحثون عنه ،ويقررون انتظاره تحت السدرة لعل الجنية
ترجعه وهنا تهرب روية مختفية في الجذع وتترك صقر .فيجدونه متعبا مسلوب العقل يردد اسم عوشة فيلوذون به نحو المطوع .
رسم الحتاوي صورة الجنية بصورة غير مرئية، فهي مراوغة ، متلونة لاوضوح لملامحها
مجرد فكرة أو وهم ولعله مقصود منه ، فهي مجردخيال خارج حدود العقل .
مشهد (4): اعتمد الحتاوي فيه على حلم موزة أم صقر ،شاهدت فيه
زواج صقر من عوشة وكل التحضيرات اللازمة له ، طبول ورقص وغناء ، ودخول ضاعن أبو العروس يلومها على غياب صقر ، فتعلمه أنه مسرور بشفائه من مس الجنية فذهب لتسليم أجرة المطوع وليدعوه للعرس ، وبينما موزة وضاعن متفاعلان مع الفرح إذ تنقطع أصوات الطبول ويخيم الصمت وتدخل مجموعة يحملون نعش صقر ، تصدم موزة وتحزن باكية ولدها.
تحضرعوشة وتفجع بالخبر، لكن سرعان ما تتلبسها الجنية فتتكلم على لسانها كاشفة حقدها على موزة تحاسبها على أفعالها :
روية : ( على لسان عوشة )انا هنيه ..يا لعميا هنيه .. مستلبسة عوشة ...اذكرك بجلمتي وياج...بعهدي اللي عقيتيه وراء ظهرج ...شفتي ( تشير للنعش) قلت لج لا تعرسينه كابرتي وعاندتي ... قلت لج عاشقتنه وميته فيه .. قمتي تراكضينه عند لمطاوعة وتعلقينه حروز وتسقينه محو .. صبرت عليك وايد يالعميا ما تستاهلين وكثر ما كلت عيالك بعدج ما تتعلمين .. ص 53
وتواصل الجنية في تهديد موزة معلنة أنها :" الياثوم " وتعلن انتقامها الشديد ، ينتهي هذا الحلم بطرق الباب وحضور صالح جاء يبشرها بالعثور على صقرويدخل مسنده على كتفه
وهو فاقد وعيه ويعلمها أنه عثر عليه عند " السدرة تحت طوي الخرايب " وينصحها بضرورة استدعاء المطوع وينصرف .
وخلال معاينة موزة لصقرتحضر الجنية فتحاورها موزة مستسلمة طائعة ، مستجيبة لكل طلباتها :" (..) أنت حرة فيه ..الراي رايج والجلمة جلمتك وأنا عليه السمع والطاعة بس هوه يعيش ( صقر لا يتحرك ) أنا الحلم اللي شفته أدبني يا روية ".. ص 56
يطرق الباب يدخل ضاعن مصوبا بالمطوع خصيف مادحا قرته على معالجة اللمس ، لكن موزة ترفض خوفا من الجنية التي أعلنت لها الطاعة .ويبذل المطوع بمساعدة ضاعن جهده لإقناع موزة ويبدأ العلاج بقراءة القرآن ، فتتكلم الجنية روية على لسان صقر رافضة قراءة القرآن ورافضة تركه لأنها تسكنه من سنين،ويبذل خصيف كل طاقته لإخراجها ، لكنها تستعصي فيطلب منها أن تعاهد على ألا ّتؤذيه ، فتعاهده :
خصيف : تراش عاهدتي انج ما تضربينه ..ولا تتعرضين له في درب وبنت عمه بياخذها غصبا عليج ..وإذا خنت العهد ياروية تراني برجع لش وبحرقش وبنترش رماد وبفك الناس منش ..
روية : أعاهدك أني ما أخون في كلمتي ..بس خلني ..أنا موافقة بسكن فيه ولا بضره ..ص 59
مشهد (5) : في حوش منزل أم صقر، يصور الكاتب زواج صقر ، لكن أمه حزينة ، غير راضية على الزواج خوفا من انتقام الجنية التي وعدتها وعاهدتها ، تجلس على فراشها صامنة ، بينما صقر في لباس العريس يلومها على غيابها ،ويدخل ضاعن أبو العروس ويلوم موزة على انعزالها وعدم مباركتها للعروس ، فتتكلم موزة على لسان روية معترفة بأن روية هي السبب ، ويلومها ضاعن ويذكّرها بوعدها للمطوع خصيف ، لكنها تصر على يقائها مع صقر الذي تحداها ورفضها، ويطلب من ضاعن استدعاء المطوع خصيف ، فتنبهه الجنية أنه إذا فعل تذبح أمه وتشرب من دمها وتسقي عروق سدرتها العطشانة .
يرتعب صقر ويحاول ضاعن تقويته ،وتطلب الجنية من صقر حرق الحرز الذي كتبه المطوع ، وتهدده :
ورغم تنبيهات ضاعن يحرق الحرز وتصر الجنية على طلاق عوشة وتعذب أمه أمامه فيصرح بكلمة الطلاق صارخا : ( عشان أمي تعيش ..عشان أمي تعيش ).ص 67
وتعود موزة إلى وعيها فتستغرب من الواقع المفاجئ ويتوقف دق الطبول ويحاول ضاعن إقناع موزة بالتراجع عن تنازلها دون جدوى ، ويدخل المطوع خصيف ويندهش لمشاهدته الحرز على الأرض محروقا ويخاطب روية المتلبسة صقر :
خصيف : أنت ما معاهدة إنش ما تعودي ثانية .
ويحاول المطوع إقناعها بترك سبيله دون فائدة ويحاول إخراجها فتتوعده بالموت ،
ويواصل في قراءة القرآن وهي مستعصية وبعد جهد جهيد ومجادلات تطلع الجنية من صقر ويختم المشهد الأخير بحركات صرع صقر ثم يغمى عليه و أمه تزغرد و تنتهي المسرحية بعودة مواء القط ولمعان عيونه من أعلى الجبل فيقف الجميع في ذهول .
انطلاقا من دلالة العنوان يتضح موقف الحتاوي من فكرة سكن الجن للإنس ، فهي فكرة خطيرة جسد خطورتها بكل عمق بما جاء في المسرحية من أحداث تصدم الإنسان وتصيبه بالذهول أمام وقائع وهمية من صنع توهم الإنسان ..
* -مسرحية قبر الولي لجمال مطر: من النصوص التي تتكئ على الفكر الأسطوري كحامل مضموني للمغزى الكلي للنص ،نهج فيها الكاتب اللهجة الإماراتية ، تتألف من اثني عشر مشهدا. يؤطر الكاتب المسرحية في المشهد (1) في بيئة موحية بالجفاف عناصر المكان تؤكد على هذه الفكرة وتوحي بجو قاتم وموحش ، مشهد موغل في الدرامية : (أرض يابسة جرداء " سبخة" وأشجار يابسة بفعل القحط.. الوقت بين المغرب والعشاء صوت هواء وريح خفيفة ..ينتزعها عواء كلب شارد ،الأهالي يجرجرون المرأة البلماء ويربطونها في جذع شجرة ). ( ص 7)
ويستهل الحوار بين رجلين يكشف قضية التشاؤم من امرأة بلماء .
رجل(1) - :" ما تم واحد في الفريج إلا وتغزل فيج".(ص7)
وينكشف الاعتقاد في العلاقة بين انحباس المطر وسلوك المرأة وتطير الناس منها ،
ويظهر الصراع منذ البداية بين نظرة الرجلين لهذه المرأة ونظرة المرأة "سليمة" لها ، فبقدر قسوتهما عليها بقدر تعاطف "سليمة" معها فهي تدافع عنها وتدفع عنها التهمة وتحتجّ على تسليط الظلم عليها .
تقول للرجل القاسي : " عنبوك ما تخاف من الله ..تهمتها الوحيدة كونها بلمة .."(ص7)
وانطلاقا من الحوار بين الرجلين ويابر زوج "سليمة" المشفق عليها أيضا ،يبني الكاتب الصراع بين فكرة التطير من المرأة البلماء التي يمثلها الرجلان وفكرة الرجوع لله وعدم الشرك به بتجنب فكرة التطير تجسدها سليمة .
وتتواصل الأحداث بانتظار الناس هطول المطر وتقييد المرأة البلماء إلى جذع شجرة فريسة للوحوش. منذ المشهد الأول تتضح صورة المرأة ضحية المعتقدات المتحجّرة ويرسم الكاتب ظاهرة القسوة المسلطة عليها بسبب التطير كما يبدو في حوار الرجل(1) :- "هاتوها هني واربطوها على هاليدع وانشاء الله يستجيب إلنا ويطيح المطر .. مات الزرع والحال صعيبة ".(ص9)
وتتكثّف العقدة بتصوير الكاتب نقمة النساء من بنات جنس البلماء والقسوة عليها، لا لأنها رمز الشؤم في معتقد الرجال فحسب ، بل لأنها أيضا سبب الغيرة كونها موضوع غزل للرجال ،ومن خلال حوار المرأتين تتنامى درامية الأحداث و تتشابك ، فبينما البلماء مقيدة تبكي، تتحاور المرأتان في كيفية التشفي منها و ويبرز وضع البلماء المأساوي :
امرأة (1) :- " اضربوها الجلبة ... أباج تقرصينها من ورجها قرصة ما تنساها وهي حية ... أباج تقطعين لحمها بإيدج هاي" .(ص10)
امرأة (2):- " أفه عليج ...أنا تربية إيدج ... والله لأقرصها قرصة في ورجها أجعلج من لحمها وأيبلج منه شوي."(ص10)
هذا الحوار يكشف نقمة النساء وتحريضهن على إيذائها بصورة وحشية .
مشهد (2) : هذا المشهد نتيجة لحالة الجفاف التي حلت بالبلدة ، يقدم فيه الكاتب شخصيتي عبيدان وجوعان في حوار يكشف نية يوعان للمتاجرة بالماء وتحقيق الثراء
و ماطلبه من عبيدان للرفق بالحمار سوى الحفاظ على الوسيلة المحققة لذلك :
يوعان : - " البيزات بتينا تركض .. كلها كم يوم ونوط ينطح نوط .. سمعت من سنين ما ياهم مطر .. والماي شحيح عندهم ..واحنا اللي يبنا الماي.(ص12)
يعري هذا المشهد انتهاز يوعان لهذا الظرف ( الجفاف) و ويبرز الكاتب حلمه بالثراء :
يوعان :- باجر بنبيع ماي وبينكتب لنا عمر يديد ...بنيمع فلوس .. روبية فوق روبية يستوون روبيتين.. تدري كم نحصل فلوس ...تسعين روبية .. يعني عشر روبيات ويستوون أميه..يعني تقدر تشتري بيت وتأخذ حرمة وتسافر الهند ..".(ص14)
مشهد (3) : يستهل المشهد في الصباح بيقظة عبيدان وصراخه باكتشاف موت الحمار وهو يوقظ يوعان من النوم : عبيدان :- مات الحمار ..مات واحليله .
يوعان :- أنت شو تقول .. حمارنا وينوه واشوه موته ..ضاعت فلوسي .. ضاع رزقي ..مات حماري.. (ص15).
ثم يدفن الحمار و يلوم يوعان عبيدان على قسوته بصورة عصبية وعنيفة ويرسم الكاتب انهيار يوعان بسبب موت الحمار الذي ضيّع الحلم الكبير بالثروة :
يوعان :- دخيلك لا تزيد عليّ .. خاطري أضرب راسي بحصاه ..خاطري أسوي في عمري ..خاطري أزخ حد من رقبته وأعصره ..ضاع كل شيء . (ص16)
ويتعاونان على دفنه في جو مشحون بالتوتر .وإثر بكاء يوعان ، يظهر يابر زوج سليمة يعزي عبيدان ويوعان معتقدا أنّ ذاك القبر هو قبر ولي فيدعو لإكرام الضيفين مع هطول المطر والتبرك بهما :
يابر : هاتوا الذبائح واذبحوا حق ضيوفنا ..هذا ولي مات في أرضنا ولازم إكرامه انتو يا عيال الخير ضيوفنا وإكرامكم واجب يلا .. ساعدوهم شلوا عنهم أغراضهم . (ص 17)
ويحفل هذا المشهد بهطول المطر وترديد الأغنية الشعبية على لسان الأطفال وهي من الطقوس القديمة ، تعود إلى أسطورة الخلق من الماء ومقاومة حالة الجفاف بواسطتها .
مشهد(4) :في جو طقوسي ، بخور كثيف وذبائح وعلى مكان مرتفع ينتصب يوعان لابسا عمامة خضراء يصف لبعض الأهالي استعمالات الأدوية الشعبية بينما عبيدان في زاوية في حالة استغراب ، ويصور الكاتب من خلال حوارات الأهالي قدرة يوعان المدهشة على العلاج من الأمراض فقد تحول في لمح البصر إلى رجل غير عادي:
أحد الأهالي : شفت طلوب الأعمى من يه المطوع يوعان وهو بخير تفل في عيونه وقام يشوف زين .(ص 19)
أحد الأهالي :- والا ولد بن سالم الي ريله مكسورة قرا عليها ومسح مكان الكسر .. وشوي الولد يمشي ولا جنه فيه شي .
أحد الأهالي :- أسميه عالم عود ..محد يسير له الا ويستوي بخير ( ص 19) .
هذا المشهد رغم قصره يكشف التحوّل المفاجئ الذي طرأ على شخصية يوعان ، بعد أن قرر المتاجرة بالماء تحول إلى مطوع بارز في العلاج الشعبي صاحب طاقات عجيبة ، ويرسم الكاتب من خلال حوارات الأهالي صورة يوعان الذي تحول إلى بطل روحاني وصاحب بركة عظيمة ، شخصيته قريبة للإنسان الخارق .
مشهد (5) : امتداد للمشهد السابق ، مواصلة لممارسة يوعان العلاج ، ليلا في بيته ، صحبة امرأة تزوره خلسة ليعالجها من العقم .يعمق هذا المشهد اعتقاد الناس القوي في قدرة يوعان على العلاج من العقم ، ويعري الكاتب خرق هذه الممارسات للقيم وخرق العادات بزيارة المرأة هذا المطوع ليلا وخلسة ، وتلقيها العلاج بين يديه ونومها وقتا طويلا في بيته طمعا في الحمل .
وتعمل المفردات على فضح يوعان الذي لبس قناع المطوع صاحب البركة والمعجزة ، والذي تنكشف غرائزه الآدمية متجردا من الأخلاق القويمة :
المرأة : ييتك في الوقت الي بغيته القمر مكتمل ونوره يسري فيني وأحس أن أطرافي منملة وأعصابي باردة .(ص 20)
يوعان : هذا أحسن وقت لازم القمر يكتمل ونوره يسري في جسمج شري القطنة يوم تغمسيها في الماي .(ص20)
المرأة : أنا تحت أمرك ..شو الي تأمره يا مطوعنا يوعان .(ص20)
يوعان : أول تدخلين ريلج في ها التراب ..ها التراب المبارك نامي وعيونج في السما.. عدي النجوم نيمة ..نيمة ..وأنا عندي الدوا بتشريبنه وبتنامين شوي ويوم بتقومين سيري عند ريلك وانشاء الله بتحلين ويتييبين بدال الياهل اثنين . بس لا تقولين حق ريلج أنج ييت هني عندي . (ص20)
وبعد تناول المرأة محلول الأعشاب الذي أوهمها به المطوع أنه ورثه عن جده المرحوم وله مفعول السحر تصاب بدوار فيطلب منها يوعان : خلي ريلج في الرمل لا تحركين مول أرقدي وبس .(ص 22)
وتصحو المرأة وفي طريقها تعترضها البلماء وتشيرلها للقبر الذي دفن فيه الحمار وتوهّم الناس أنه قبر الولي وتشير إلى بطنها وتومئ لها ناكرة حملها .
المشهد(6):حوار بين عبيدان _ابن أخت المطوع يوعان _ وعفرا وهي امرأة غاب زوجها مدة اثنتي عشر سنة وعلى أمل عودته تزور القبر و تأخذ من رمله تبركا به .
عفرا: شسوي غير أني أترياه أترياه .. أصبر وأقول باجر بيي ..بيي..وبييب لي الصوغة ..أصد بظهري ألقي سهام أمشي سيده ألقي دعاثير ورمول.(ص25)
عبيدان : أفا عليك طولي بالج.. الدنيا بعدها بخير.. وعيال الحلال وايد ..(ص25).
ثم يحاول إقناعها أن يوعان ليس قادرا على شيء وليس مطوعا و ماوعدها به بعودة زوجها كذبة .
جسد الكاتب في انتظار الزوجة لزوجها بعد اثنتي عشر سنة من الغياب والاعتقاد بعودته ضرب من الفكر الخرافي ...كما رمز للواقع المزري المبني على التناقضات ، التقابل بين فكرة التشاؤم من امرأة بكماء بريئة و بين فكرة التبرك بتراب قبر الحمار وبولي مزيف ، متحيل ومجرد من الأخلاق .
مشهد (7) : يوعان يخطب في القوم منظرّا لطاعة الوليّ: " تقول التفاسير أولياء الله هم أحباءه وأصفياءه والمخلصين في عبادته والمقربين إليه لا يشغلهم شاغل ..وعيونهم تسبح له وتشكر نعمه ويقول الرسول _ صلى الله عليه وسلم .
الجميع : عليه الصلاة والسلام .
يوعان : إنّ لله عبادا متى أرادوا أراد ويقول المولى عز وجلّ :" ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم .
الجميع : لا أله إلا الله محمد رسول الله .
يوعان : يجب أن لا ننسى تشغلنا الدنيا أن للولي حقوق وواجبات لذا وجب إرضاؤه وهو لا يطمع إلا في القليل من أموالكم .. القليل من زرعكم والقليل من أغنامكم .
أحدهم : مولاي الشيخ ..يرضى عنا إن فعلنا ذلك .
يوعان : عليكم بالكتمان ..كل يفعل الخير بطريقته وخفية من الناس ..اذكروا الله كثيرا ولا تنشغل يا ابن آدم في جمع الأموال وتنسى حقوق الله وواجباته .. لأن فعل الخير يدر بالخير ..أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأحمد الله لي ولكم أن هداكم وهداني للإيمان . (ص29)
نلاحظ رسم الكاتب ملامح شخصية يمعان المقنعة بقناع الولي الصالح من خلال خطابه وكيف أضفى عليها هالة من القداسة تفرض على الناس طاعته والولاء له بصورة عمياء مع تلميحه عبر ذلك الخطاب إلى الأهداف المادية الخفية وراء تلك الممارسات ، وهنا توحي اللغة بموقف الكاتب ورؤاه من هذه الظاهرة، كيف كشفها لتعريتها بأسلوب فاضح وجريء ،مما يبعث المتلقي على الوعي بخفايا الأمور .
مشهد(8): ليلا يدور الحوار بين امرأتين عند القبر الذي دفن فيه الحمار والذي اعتبره الناس قبرا لوليّ يتضح حضورها من أجل جلب الرمل من القبر للتبرك به ،واستعماله لغايات شخصية ، كالتشفي من زوجة الولد و السيطرة على الزوج .
وبعد تحاورها مع المرأة 2 والدعاء بالشر على زوجة الولد يستنتجان أنها مارست عليه السحر والعلاج قرره المطوع يمعان: أن تذرّ رمل القبر في وجه الكنة ثلاث مرات ليزول مفعول السحر وتؤكد المرأة الثانية فكرة الاعتقاد في بركة ذلك الرمل :
المرأة 2 : أنا بعد أبغي شوية رمل علشان ريلي ما يحط عينه على حد ويتم لي.(ص31)
وقبل رجوعهما يوقفهما عبيدان ابن أخت المطوع يوعان مستفسرا عن سر وجودهما ويغمرهما بالرمل ساخرا : تراني مستعد أترس ثيابكم كلها رمل إذا تحسون أنه بسوي شي. (ص32)
مشهد (9) : حوار عبيدان مع عفرا يعري فيه الكاتب حقيقة يوعان الذي لعب دور المطوع واستغل قبر الحمار كقبر للولي ومما يقول عبيدان لعفرا : الناس كلها مغترة فيه وتحراه يقدر يسوي كل شي اتقولين يطلب العلم بذمتج شكله شكل واحد يطلب العلم.
عفرا : وطلوب الأعمى منو داواه مب المطوع يوعان ؟!! ومرت يابر اللي من سنين تتمنى ياهل قرالها في الفنيال ومن شربته وهي حامل .
عبيدان : شو الرمسة هذي ..لا تصدقين ها الكلام يا حرمه ..خليج عاقل ..كل شي بيدين الله .. عن ها الشرك .. ( ص34)
ما نلاحظه تدرج الكاتب في كشف القناع عن وجه يوعان وتنوع الطرق في كشفه ،فمن خلال الذات، و من خلال اللغة ،و من خلال الآخر يلح الكاتب على هذه الظاهرة المترسبة في عقول الناس ويهشم موروثات عقائدية من رواسب الفكر الأسطوري، عششت في النفوس ، ولوثت العقول ، وبترت العلاقات السليمة بين أفراد المجتمع .
وينتهي هذا المشهد بلحظة وعي تعتري عبيدان الذي تعلق بعفرا وهي لا تزال في انتظار زوجها حالمة بعودته رغم مرور السنين الطويلة والمطوع يوعان فتح لها باب هذا الحلم على مصراعيه . مونولوج عبيدان الطويل شبه مناجاة لخيال عفرا يرثي فيه حالها وحاله : "تعبها الظمأ وحلجها ناشف ومالح ..جنها بحر ملح ..ويوعان شرب مايها كله ..شرب ماينا كلنا وخلانا عطاشى في غبة مالحة ... "( ص 35)، وهذا الحديث الباطني بوح بما في داخل عبيدان من صراع بسبب ما يشاهده من تناقضات وهي إحالات دالة على تمزّقه واصطدامه بقساوة الواقع : " صفعة من ايديه هاي في ويهك يا عبيدان تردك لعقلك تخليك إنسان له اسم واحد عبيد ... عبيد وبس " (ص35)، أليست هذه الصفعة من الكاتب يوجّهها لكل غافل حتى يصحو من سبات أهل الكهف، أليست هي صفعات مكثفة الدلالة ورمز مشحون، صفعة تتحرك في اتجاهات لا حدود لها لتمحو ضباب الجهل عن عقول كل الغافلين .
كما يبرز التزام الكاتب في الرقي بإنسانية الإنسان لأن هذه الموروثات تشوهها وتحط من شأنها ، ما جاء في حديث عبيدان :" صفعة تخليك إنسان له اسم واحد " بمعنى آخر غير مزدوج وغير مقنع ، صاحب وجه إنسان بكل القيم الإنسانية الثابتة و دون التنازل عن تلك القيم .
مشهد ( 10) : يكشف الحوار بين عبيدان ويوعان التوتر الحاصل بينهما ، وانطلاقا من تعداد عبيدان الروبيات بصورة ساخرة من يوعان مما يثير دهشته :
يوعان : شوفيك يا عبيد ... شو بلاها عيونك كلها شر ..ناوي على الشر؟!
عبيدان : عيوني ما فيها شر .. الشر فيك .
يوعان : شوبلاك محرج .. حد مزعلنك ..سامع شي مني وإلا مني شو بلاك ماكل في عمرك ..
عبيدان : أنت تدري رايلها ما بيرجع ..ليش تقولها بيرد ؟
يوعان :وشدراك أنه ما بيرد...تعلم الغيب انته؟! ( ص 37 )
كما يكشف الحوار تقديس يوعان للمادة فهو يغري عبيدان بأن يزوجه ثمن إخفائه لحقيقته ،وفي حديثهما عن موضوع الحب يجيب يوعان ، لما يسأله عبيدان : هل عندك قلب ؟
يوعان : بدال واحد عندي اثنين كل واحد أحطه في وقت معين ومتى ما أبغي .ص38
وهكذا يرسم جمال مطر شخصية يوعان المقنعة صاحب وجهين في حياته الاجتماعية وكذلك في الحياة العاطفية ، متلون مثل الحرباء ، لأن المادة تسيره وتعمي بصيرته فسلك طريق التحيل والتظاهر للناس بصورة الشخصية الأسطورية الخارقة ، رسم الكاتب ملامحه على لسانه بتجرد وحياد وما تعداده للمال سوى تأكيد على جشعه الذي جعله مستغلا سذاجة الناس وما يؤكد ذلك تسميته : يوعان فهو نهم للمال ، متعته التلذذ وترديده لعبارة " روبية زايد روبية يستوون روبيتين " عبارة ، ذات شحنة دلالية ، وإيقاع محذر لمثل هذه الممارسات التي تتكئ على الفكر الأسطوري وتوظفه للكسب الحرام.
مشهد 11:طابور من الناس أمام بيت يوعان "الكل يحلم بنظرة أخيرة علها تشفيه وتبعد الشرور عنه "(ص39).يوعان مريض يدخل عليه عبيدان وسليمة والمرأة البلماء وبعض الأهالي ،بعد اتخاذ كل فرد منهم مكانه بأمر من سليمة ، نكتشف من خلال حوار سليمة وعبيدان قدومهما لكشف حقيقة يوعان ، يستقبلهم رجل(1 ) قبل الدخول مخاطبا :
رجل (1 ): أبشروا يا جماعة وقولوا كل اللي في خاطركم .والمطوع يوعان ما بيقصر ..ولو أنه تعبان شوي ويخاطب عبيدان : نسيت أنه عندك خال لازم أتزوره .
عبيدان : أنا اسمي عبيد ..وأنا ما عندي خال لازم أزوره .
رجل(1): كان يقول يوعان عنك أنك يابس شري مثل أبوك ..كلها بركات الشويبة خالك .. وإلا أنت مالك يلسة هني .
وبعد محاولة رجل(1) صدهما معتبرا كلامهما لا معنى له تصرح سليمة : كلامنا ماله معنى ..اشحقه كل ها الناس اللي ويايه حتى عبيد والبلماء كلهم شهود على أن يوعان جذاب ..تذكرون يوم قلتلكم الله بيبليكم بمصيبة ..يوعان هو السبب ..هو اللي خلى الحرمة تحمل ..والولد اللي بينولد ولد يوعان .(ص 40)
ويصور الكاتب اشتداد حدة الحوار بين سليمة ورجل(1) ناصحا بعدم الشك في سيرة يوعان، وينتهي هذا المشهد برسوخ اعتقاد الناس ببركة المطوع وقدراته المعجزة:
أحد الأهالي : والله أذبح ذبيحة ان استويت بخير .
أحد الأهالي : يالله بحق وليك الصالح أنك تعافيني .
رجل -1 : لا تخافون كل اللي عنده مشكلة ما بيظهر إلا وهو بخير .. ( ص 43 ).
مشهد – 12 : مشهد كثيف الدلالات يصور فيه الكاتب مرض المطوع المزيف يمعان
صحبة رجل -1 ورجل -2 والأهالي ، يشكو المطوع من إصابته من المرأة البلماء :
يوعان : من شفتها وأنا حالتي جديه جنها ضربتني بعين ..أنا ميهود ومريض وأحس أني ما بقوم من الفراش بها اليوم .
رجل -2 : قلتلكم هاك اليوم ..هاي البنت فتنة وشر وين تسير وراها المصائب ..لو سمعتوا شوري وخليتوا الوحوش تاكلها جان احنا مرتاحين وحتى مطوعنا يوعان ما سلم منها .ص 44
ألا يؤكد الكاتب على زيف المطوع ؟! كيف يكون صاحب قدرات ويعجز على رد أثر البلماء ! ويصف الكاتب خوف الأهالي على مصيرهم بعد موت المطوع يوعان ، وفي حالة وهن يوصي يوعان الناس بالحفاظ على القبر .
رجل-1: لازم حد يحرص القبر ويقابله عقبك .
يوعان : كلام صحيح ..لكن محد يستاهل يكون مكاني ، انتو تعرفون هذا علم ..مب أي واحد يستوي ولي بين يوم وليلة .. هذه سنوات خبرة ووراثة .( ص44)
وبعد التشاور في أمر وراثة الولاية عن يمعان يوصي الأخير بوضعه عند موته على ظهر الحمار و" البيت اللي بوقف عنده الحمار .هو المكان اللي يستوي مزار دفنوني فيه ويستوي من هاك اليوم قبر الولي يوعان " ( ص 45 ).
رجل 2 : انزين يستوي ها الشي يعني يستوي قبرين .
يوعان : نعم يستوي ..شو يضركم إذا كثروا الصالحين في أرضكم .. ومثل ما قلت .. البيت اللي يوقف عنده الحمار يستوي مزار ...
رجل -1 : انشا الله يكون بيتي ..علشان أتبارك فيه وبتبارك فيك .
يوعان : الشور مب عندي ..الشور عند الحمار ..
هذا الطرح الكاريكاتوري الساخر من قبل الكاتب لتهديم رواسب الفكر الخرافي ، ولعل ثنائية المزار والحمار تشير لموقف الكاتب ، وبراعته في تشكيل صورة المطوع تتماهى مع صورة الحمار . ومن هنا نلاحظ الجرأة في معالجة هذه الظاهرة المبنية على فكر
متحجر ، وبدائي .
مشهد- 13: مشهد صامت ، قصير لكنه معبر ومشحون بالدلالات ،الحمار يصل إلى المزار القديم وهو يحمل جثة يوعان يدفنونه في نفس مكان قبر الولي ،تدخل المرأة الحامل وقد أنجبت طفلا تقدمه لضريح المطوع يوعان .
لقد تناول الكاتب قضايا ترتبط بالفكر الأسطوري وعالجها بجرأة فائقة ،وهي ثورة وتحطيم لكل الرواسب البائدة واتبع الأسلوب الساخر في تعريتها ، كيف جعل من الحمار شخصية خارقة ؟ وكيف جعله المقرر نبابة عن يوعان ؟ إنها مهزلة الاعتقادات السخيفة التي تتعلق بأشياء لا وجود لها ..