الفلسفة المعاصرة في أوروبا
1-مصادرها
*القرن التاسع عشر:
تنتمي الفلسفة الأوروبية الحديثة (1600-1900) إلى التاريخ ، ولكن الفلسفة الأوروبية في القرن العشرين إنما نشأت على المجابهة معها ، وهي مجابهة فيها اختلاف و صراع لكنها تتضمن معنى الاستمرارية، ولهذا وجب علينا معرفة الفلسفة الأوروبية الحديثة.
ولدت الفلسفة الأوروبية الحديثة من انهيار الفكر المدرسي في العصر الأوروبي الوسيط حيث تميز هذا الأخير بعدة سمات ، هي قوله بالمذهب التعددي (أي قبوله بوجود وحدات وجودية متعددة وبدرجات مختلفة من الوجود)و أخذه بالاتجاه الشخصاني (أي الاعتراف بأولوية القيم الإنسانية للشخص على ما عداها) وتصوره العضوي للوجود ، كل ذلك إضافة إلى اتجاهه الأساسي المتمثل في مركزية الإله.
أما من ناحية المنهج الذي اعتمدته الفلسفة المدرسية الوسيطة ، فقد أخذت بطريقة التحليل المنطقي المفضل للمشكلات الجزئية.
فجاءت الفلسفة الأوروبية الحديثة و عارضت كل هذه السمات و الاتجاهات ذلك أن مبادئها الجوهرية هي القول بالاتجاه الميكانيكي الذي يستبعد التصور العضوي و التدرجي للوجود و بالاتجاه الذاتي الذي يجعل الإنسان مستقلا عن الإله ومن حيث المنهج فإن الفلسفة الحديثة استبعدت المنطق الصوري.
و قد كان من نصيب الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (1596-1650) أن يكون أول من وضع هذه الثورة الفكرية في قالبها الأكمل، ذلك أنه ميكانيكي و هو إذ يقول بوجود درجتين للوجود : العقل و المادة ،فهو يختزل الحقيقة غير العقلية إلى مفاهيم ميكانيكية خالصة، كما أنه يعتمد الاتجاه الذاتي، إلى جانب أخذه بالمذهب الاسمي، وأخيرا فإن ديكارت كان خصما لدودا للمنطق الصوري، فهو لا يعرف أي منهج يكون خاصا بالفلسفة، ويرى أن تطبق على كافة مجالات المعرفة طرائق العلوم الرياضية في دراستها للطبيعة.
و إذا ما قبل المرء بهذه المبادئ فإنه يجد نفسه أمام مشكلات لا حل لها:
- فإذا كان العالم مجرد تجمع للذرات وتكوينه يقارن بتكوين الآلة فكيف نفسر وجود عناصر روحية فيه؟
- كيف تكون المعرفة ممكنة إذا كنا لا نعرف إلا الجزئيات؟.............
-الفيلسوف الألماني كانت:
في هذا الإطار ظهر كانت (1724-1804) حيث قبل بالمذهب الميكانيكي كما هو، و عنده أنه يحكم العالم التجريبي و أحداثه بما في ذلك الفكر الذاتي.
و لكن كانت كان يرى أن هذا العالم التجريبي هو نتاج تركيب قامت به الذات الترنسندنتالية {بمعنى المتعالي ، أي يعلو على التجربة، استخدمها كانت أولا ليعاد استعمالها في القرن العشرين و معناها الأساسي عند كانت "ما يحصر الفكر وحده و ينصب على المبادئ و الصور الأولية ويقابل التجريبي"} معتمدة على كم هائل من الاحساسات ينقصه التنظيم. بمعنى أن القوانين تحكم العالم بفعل العقل دون أن تحكمه ، فالعقل مشرع له.
ولكن في ظل هذه الشروط تصبح المعرفة الشيء في ذاته/ النومين، وتصبح إقامة علم للميتافيزيقا أمرا مستحيلا على المستوى المعرفي،ذلك أن لا المعرفة و لا علم –في رأي كانت- خارج نطاق المحسوسات، وموضوعات الميتافيزيقا و أهمها الإله و النفس والحرية،غير محسوسة.
وبالتالي فإن الفلسفة الكانتية تقوم على العنصرين الجوهريين للفلسفة الحديثة وهما : الاتجاه الميكانيكي و الاتجاه الذاتي/المثالي{القول بأولوية العقل و الفكر على المادة}.
وتقوم فلسفة كانت على موقف تصوري متطرف فالذات الترنسندنتالية، باعتبارها مبداأ منظما، هي التي تخلق المضمون العقلي، و هذا المضمون يختزل في النهاية إلى عدد من العلاقات لا أكثر.
وهكذا تنقسم الحقيقة إلى ميدانين: العالم التجريبي/عالم الظواهر و عالم الوجود في ذاته/النومين الذي لا قدرة لنا على معرفته معرفة عقلية.
لقد كان من نصيب كانت أن يضع الفلسفة الغربية في صورتها الأوفى ، ومهما قال المؤرخون في حق تأثير فلسفته على الفلسفة الغربية فلن يوفوها حقها، فهي تقف موقف المنبع من التيارات الفلسفية الكبرى في القرن التاسع و العشرين، حيث لم يترك أمام المعرفة إلا واحدا من طريقين : إما أن تدرك العالم بمناهج العلوم و إما أن تدرس الخطوات التي بها يتكون العالم ابتداء بمبادئ العقل، فنتج عن الأول المذهب الوضعي والمذهب المادي و عن الثاني المذهب المثالي.
- الرومانتيكية: {بدأت مع أواخر القرن الثامن عشر كانت أدبية في الأول و تقصد إلى وجود قوى أخرى للإنسان عدا العقل أهمها العاطفة و الحدس}
الاتجاه الرومانتيكي في جوهره تمجيد للنفس و الحياة ظهر مضادا للمذاهب الميكانيكية، و قد احتفظت إثر هذا على تأثيرها القوي على الفلسفة الغربية.
التيارات الرئيسية:
من أهم سمات القرن التاسع عشر الاتجاه نحو بناء نظم فلسفية ، فالتركيب يعلو على التحليل
1- المثالية الألمانية: نتجت عن مزج لفكرتي "الوظيفة الخلاقة للعقل"/كانت و "الصيرورة الدائمة للفكر"/الرومانتيكية ، من أهم فلاسفتها : هيجل(1770-1831).
2- المادية الألمانية: متأثرة بالعلم ، نفت وجود العقل ذاته و دافعت عن الحتمية الشاملة.
3- الوضعية الفرنسية: أسسها أوجست كونت(1798-1857) و يتبعه جون ستيوارت مل (1806-1873) في إنجلترا، ...، حيث ترى أن الفلسفة ليست تجميعا لنتائج العلم بالمعنى الميكانيكي.
و قد تأيد هذان الاتجاهان تأييدا عظيما بمذهب الإنجليزي دارون الذي فسر تطور الأنواع تفسيرا ميكانيكيا بحتا.
وهكذا يمكن أن نحدد ثلاثة مراحل لتطور الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر و هي : المثالية ثم مذهب التطور على الطريقة العلمية ثم تعايش التيارين معا، وهما رغم التعارض يشتركان في خصائص جوهرية هي مايشكل هيئة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر:
- الاتجاه نحو بناء نظم فلسفية.
- اتجاه عقلي واضح نحو العالم التجريبي.
- رفض النفاذ إلى العالم الذي يعلو الظواهر و كذا نفي وجود مثل هذا العالم.
- الاتجاه الواحدي الذي يذيب الشخص الإنساني في المطلق أو في التطور الكلي.
- التيارات الجانبية:
1-الاتجاه اللاعقلي: نتج عن الحركة الرومانتيكية ليعارض المذهب العقلي الهيجلي، ممثله الفيلسوف الألماني شوبنهاور(1788-1860) الذي يرى أن المطلق ليس العقل بل إرادة عمياء و لا عقلية، وفي مرحلة تالية يعارض هذا الاتجاه المذهب العقلي العلمي معتمدا على نظرية التطور عند دارون ، مثل هذا الاتجاه نيتشه(1844-1900) الذي يعلن عن أولوية الاندفاع الحيوي على العقل، ويطالب بمراجعة كل القيم وينادي بعبادة الرجل العظيم.
2-الاتجاه الميتافيزيقي: دعوى فلاسفته تقوم في أنهم قادرون على الوصول إلى عالم فوق الظواهر، لم يشكل هذا الاتجاه مدارسا بل اكتفى بمفكرين فرادى من بينهم فون هارتمان (1842-1906).
ونلحظ أن الأخيرين يشتركان في اعتمادهما على فلسفة كانت، من حيث مقولة عدم إمكانية النفاذ إلى العالم الميتافيزيقي ، وتأثيرات من المذهب الميكانيكي في صورته الداروينية.
2-الأزمة:
دخلت الفلسفة الغربية الحديثة دور الأزمة مع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين بظهور حركات معارضة للمذهبين الأهمين في الفكر الحديث (المذهب الميكانيكي و المذهب الذاتي.
و يتفق المؤرخون على أن بداية القرن العشرين هي إسدال للستار على الفلسفة الغربية الحديثة.
و عموما يمكن رد أسباب هذه الأزمة إلى ثلاث مجموعات هي:
- المجموعة الأولى: تحوي علم الطبيعة و علم الرياضيات ، و مثالنا عن علم الطبيعة أن فلاسفة القرن التاسع عشر كانوا يعتقدون بالتصور المطلق للعلم الطبيعي (مع نيوتن) ولكن مع نهاية هذا القرن أخذ بعض المفكرين في التشكك في قيمة هذا التصور، ما أدى إلى ظهور نظريتي النسبية و الكوانتم، أما عن علم الرياضيات، فقد أدت الاكتشافات فيه إلى عودة المنطق الصوري بعدما أهملته الفلسفة الغربية الحديثة، ولكن تحت أسماء جديدة : المنطق الرمزي و المنطق الرياضي، هذا الأخير أثبت نجاعته في تحليله الدقيق و في إمكانية تطبيق نتائجه على ميادين أخرى.
-
- المجموعة الثانية : تضم ظهور منهجين جديدين للبحث: المنهج الرياضي المنطقي و المنهج الفينومينولوجي حيث أدى هو الآخر (المنهج الفينومينولوجي) إلى قطع الجسور مع الفلسفة الحديثة ، وإذا استخدمنا هذا الاصطلاح استخداما صارما فغنه لا ينطبق إلا على منهج إدمند هسرل(1859-1938)، ولكن الباحثين يستخدمونه للإشارة إلى مجموعة كبيرة من المفكرين الذين يمثلون اتجاها مماثلا، وممثل هذه الحركة هو الفيلسوف الألماني فرانز برنتانو(1838-1917) الذي خلف ثلاثة تلاميذ كان لهم تأثيرهم الكبير و هم: تفاردفسكي و مينونج و هسرل.
يقوم هذا المنهج على تحليل جوهر المعطى/ الظاهرة، حيث أبح الأكثر انتشارا مع المطق الرياضي بعد الحرب العالمية الأولى.
-المجموعة الثالثة:تتكون من عدد من التصورات للعالم الجديد أهمها التصور اللاعقلي والتصور الميتافيزيقي الواقعي الجديد أدى إلى ظهورهما السخط على الصورة الواحدية و الحتمية للعلم في القرن التاسع عشر، يبرز بصفة غير مباشرة في كتابين لفيلسوفين هما وليم جمس الأمريكي و برجسون الفرنسي، أما بالنسبة للميتافيزيقية الواقعية الجديدة فقد أدت و لأول مرة إلى نسف المبادئ الكانتية التي أخذت في النضوب مع مطلع القرن العشرين بعدما حكمت الفلسفة كلها في القرن التاسع عشر، و يظهر في المحل الأول الواقعية النقدية التي هي في الحقيقة من إنتاج برنتانو و تلامذته ، بالأخص هسرل الذي يبرز دوره في صرف انتباه المفكرين إلى تحليل المعطيات العقلية.
و إذا لم ينل التيار الواقعي الجديد نفس الشعبية التي حظي بها التيار اللاعقلي إلا أنه أخرج الميتافيزيقا من الثانوي في القرن التاسع عشر إلى الرئيسي في القرن العشرين
و تترابط هذه الحركات الفكرية في غالب الأحيان رغم اختلاف ظروفها التاريخية و غاياتها ، ويمكن القول إن الظهر المتآني لهذه الحركات شكل ظاهرة لا مثيل لها في الفكر الإنساني كما أنها أحدثت تحويلا شاملا في الفلسفة الغربية.
وقد تميزت هذه الحقبة أيضا بالعودة إل التأمل الفلسفي، بالأخص إلى المذهب التعددي (الذي يعترف بوجود درجات عدة للوجود وبأن هناك كثرة من الموجودات المستقلة) و الشخصاني حيث تعود للإنسان حقوقه القديمة فيصبح محور الاهتمام، ثم تأخذ مشكلات العقل في استثارة الفكر، فتعلن أزمة 1900 السيادة الواضحة للاتجاه نحو مذهب شخصاني روحي.
ومع ذلك فإن هذه الأفكار كانت أبعد من ان تجد لها قبولا عاما في الربع الأول من القرن العشرين.