هل التراث...؟! - د.علي عقلة عرسان
هل التراث مجرد نفق مظلم يمتد بين باصرة التاريخ المعاصرة وذاكرته القاصرة، يدخله الباحث فيه أو العاشق له، فيضيع في متاهاته ويزيد من تعقيد تلك المتاهات، حتى ليخال المرء ألاّ خروج منه بعد دخوله فيه، وأنه ثاني المحبسين للمبصر وثالث المحابس لمن فقد البصر، وألاّ لقاء مع العصر بعد ولوج أبوابه التي تفتح سجن الماضي؟! وهل هو نوع من إعادة إنتاج الماضي واجتراره، دون تداخل أو تفاعل يذكر مع الأداة العصرية المنتجة والمادة التي تدخل دائرة الإنتاج؟!
وهل هو مما يستقر في مدى بعيد عن الحاضر، قد تجاوزته حاجة الناس، ولم يعد نافعاً ولا ضرورياً، ولا مما يصرف فيه الجهد ويستثمر فيه الزمن؟!
وبالنسبة لنا نحن العرب، في هذا القرن العشرين الذي يلفظ أنفاسه، هل التراث مجرد أوراق صفراء حكمتنا وتحكمت بنا، وألقتنا خارج العصر وكل عصر، فكانت لنا قيداً وقوقعة ومنفى أكثر منها جذراً حياً، ومستنبتاً غنياً، ومثابة قوية، ومستجماً للعقل والذاكرة والروح؟!
وهل يكون خلاصنا مما نحن فيه من تخلف وخلف، بنبذ تلك الأوراق الصفراء التي هي –حسب رأي أهل "معرفة ورأي"- مصدر كل تخلف وخلف؟! وهل لا يقدّم لنا تراثنا، لدى عودتنا إليه، إلا:
1-متاريس "لسلفية متحجرة" ضارة، ضاربة في عمق الصحراء والماضي الرمادي، وفي مدى الجهل بكل مفاتيح التقدم والمثاقفة والانفتاح، والتجاهل لها؟؟!
2-ومناهل للأصولية التي تتجذر في أصول "ما عادت هي الأصول المقبولة والمنقذة"، في زمن تعصف فيه بالناس رياح المتغيرات وعواصف عصر التقانة والمعلوماتية، وغِيِرُ الأحوال وتلوناتها بألوان اللحظة، تلك التي تشهد في كل ثانية من ثوانيها تقدماً علمياً، يرافقه أو ينتج عنه تغيير أو دفع باتجاه التغيير، حتى فيما ثبت من أصول وفروع نبتت على تلك الأصول، فضلاً عن كون تلك الأصول –من وجهة نظر "أهل رأي ونظر"- تنتج "إرهاباً" غير مقبول، في عصر أصبحت فيه حماية الناس من الإرهاب ومن العدوان على العنصرية "والديمقراطية" مسؤولية دولية؟!!
3-عودة بالناس إلى ما وراء الزمن، وإدارة الظهر لكل ما في واقعهم وزمانهم من معطيات وحقائق ومعلومات. وجعلهم يعيشون في دوامة مقولات لا تدفع باتجاه التلاؤم مع واقع جديد يفرض نفسه على العالم، واقع لا يستطيع أن يتجاهله من يريد أن يعيش زمانه، وأن يحتل موقعاً في ذلك الزمان.
4-هرباً من مواجهة الواقع وأسئلته وأزماته ومشكلات أناسيه، ونوعاً من الردود على معطيات: المكان والزمان، هنا والآن، بأقوال ووقائع ومعالجات واقتباسات واستنباطات وقياسات وفصل وخطاب من: كنا وكان، لا ينير ظلمة، ولا يرفع غمة، ولا ينقذ أمة، وهو في "نهاية المطاف" لا يدفع عنا عدواً، ولا يستنقذنا من جوع، فما الذي يفيدنا إليه رجوع إذن؟!
تلك أسئلة محمولة على نعوش ألسنة وعقول، تجول في فضاء الوقت والإعلام، وتغزل شرانق من كلام، تدفعها أفواه مدججة بالاتهام، في وجوه من يأخذون من تراث أمتهم بقبس، ويهتمون بالتواصل معه وبتصاعد تأثيره ليبقى عرق النسغ موصولاً ومليئاً بمقومات الحياة، وسائغاً وغنياً، تروح فيه وتجيء قوافل "الجينات" محملة بقيم ومقومات هوية تصل ما بين حبيبات الجذور المنتشرة في عمق تربة الثقافة، وبين براعم تتشكل في نهايات الأغصان الدقيقة من شجرة الأمة، إبّان تشكلها وتفتحها، في آخر دقيقة من فجر كل يوم نحياه مع تدفق الحياة من حولنا، وتدفقها في دمنا.
وتلك الأسئلة التي تلجّ بها ألسنة تقطر ذلقاً أسود، لا ينفع معها تجاهل لها ولا إغضاء عنها، لأن أصحابها يظنون عندئذ أنهم حبسوا الآخرين في سجون منطقهم، وأن حججهم أتت على كل الحجج، تلقفها لقفاً، فعل عصا موسى إذ ألقيت، بسحر سحرة فرعون(؟!؟) وما ذلك بصحيح من جهة، ولا هو جائز من جهة أخرى، ولا هو مما يمكن أن تشق له الطرق ليستقر في النفوس وينمو في شعابها بأمان واطمئنان.
فالتراث ليس نفقاً مظلماً يضيع فيه الهداة، بل هو –من بعض الوجوه- النور الذي تجده في نهاية نفق مظلم يضعك فيه الجهل أو العداة.
ولا يكون التراث متاهة إلا لمن يغرق في شبر ماء ويضل عن رؤية الحق والسماء، ويبحث عن سفاسف الأمور التي يغص بها كل عصر من العصور، ولا يكون من الهداة من لا يملك بصراً أو بصيرة، ولا يعرف الفرق بين شخصيته والحصيرة، إنما يكون ذلك من صنف الأدعياء، ويكون "هديه" نوعاً من التكوكؤ على عصا من توهم تنغرس في مهاوي الضلال والضباب.
والتراث العربي، سواء طال عمره وامتد إلى عهد سومر وآكد، والعموريين والآراميين وصولاً إلى العرب الجاهليين، أو انطلق –عند بعض ذوي الرأي والرؤى- من رسالة الإسلام وما أقرته من عادات الجاهلية وتداولته من آداب أهلها، وما سجلته الأقلام والعقول بعد ذلك من آراء واجتهادات وإبداع وابتداع، فهو جزء من شخصية الأمة، والعمود الفقري لجسمها الثقافي، وهو الرئة التي يلتقي في حويصلاتها قديم بجديد، وتحدث فيها التنقية من خلال تفاعل حيوي يخدم الحياة ويؤدي إلى استمرارها.
وسواء كتب على حجر أو رق، ووصل إلينا مصفراً أو مخضراً فهو جزء من تكويننا الذي لا يعيبنا بل يشرفنا، ولا يعوقنا عن التقدم إلا بمقدار ما نكون معوقين أصلاً وغير قادرين على امتلاك الرؤية والمنطق والقدرة العقلية التي تغربل الآراء والأفكار والأقوال، وتفصل القمح عن الزؤان بدراية واقتدار، وتأخذ ما ينفع الناس لتبذره من جديد في نفوس خصبة، وتلقي الغلث بعيداً عن دروبهم، وتشق لهم تلك الدروب.