دمشق والتّراث ـــ د.علي عقلة عرسان
دمشق والتراث: حالتان من تفجر العشق وعناقه، تخطران وتتماهيان وتنسربان في متون الوقت والقلب، من شفق الفجر إلى تناومات الغسق، ولا تنفكان عن الحضور وتفعيله، تجمعان المدى والزمن عند عتبة القلب ليزداد بصيرة وإبصاراً، وعبرة واستذكاراً. فإذا ذكرت دمشق ذكرت التراث، وإذا ذكرت التراث برزت لك دمشق بألف حلة قشيبة وحلة، وبألف ذؤابة مليسة وذؤابة، بينهما وجه جميل أصيل يعمق فيك معنى الحياة وحبها، ويقيمك معافى في أرض "الريف والحمامات والشهوات" بين ماء وثمر وقمر.
لا أعرف بداية موفقة تكون مدخلاً طيباً إلى هذه الدارة البهية: دارة دمشق –التراث، وربما لهذا السبب أسلمت قياد نفسي للعشق، يقودني في مغانيها على هواه، فأنا المأخوذ من ناصية القلب، وفي مثل حالتي هذه يسقط كل عتب ولوم.
إن قلت متى بدأ تاريخ المدينة: هل مع الآراميين أم من قبلهم بعقود وقرون، فلا أصل إلا إلى ضمائم من تراث تشمخ به جبهة الحجر، وتسجله طرائق تسجيل البشر، يقول: منذ ما قبل التاريخ المكتوب كان لدمشق تاريخ. وإذا قلت إنها تعاصر الآموريين وتعتصرهم في خوابيها وتمتد إلى ما يقرب من زمن البابليين والسومريين، نهضت التلال الآثارية المحيطة بها –الغسول وسواها- محتجة على الإجحاف والتجاهل، معلنة حرب الوثائق على الظلم والجهل، رافعة أشرعتها المتماوجة في بحر الزمن لتؤكد تواصل التاريخ الحضاري للمنطقة وامتداده من الخطوات الأولى في سهل نطوف –قرب أريحا- في الألف العاشر قبل الميلاد وامتداداً إلى تل حلف في الشمال الشرقي من سورية.
وحين يعجز المرء عن تحديد البدايات، ويتجاوز تلك العقبة الكأداء، أو يقفز فوقها، سالكاً مع الزمن طريقه الطبيعية الهينة، ملتمساً في التاريخ ما يحدده حرف مكتوب وظل بشري مسكوب في نقش وعمارة وشكل من أشكال الحضارة، يجد نفسه بين لمسات وبصمات وإشارات ومعطيات، تمتد من الكتابة المقطعية المسمارية إلى أبجدية أوغاريت، ومن هذه الأخيرة إلى دوامة هذا العصر، ويجد في كل ذلك تسجيلاً وتوثيقاً وتحققاً لتلاقح حضاري مع الحضارات والأمم والأقوام: العصر اليوناني القديم والهلنستي والروماني والبيزنطي على أرضية الكنعانية والآرامية والسريانية والنبطية والتدمرية، مغشَّى بأصالة أهل المنطقة الذين لم يخرجوا في تكوينهم وانتمائهم ونسيجهم الثقافي والاجتماعي، عن دائرة الأمم والأقوام التي نبتت من الأرومة العربية أو على جذع تلك الأرومة، سواء كانت من العرب الذين شرَّشوا في المنطقة منذ القديم، وتفاعلت فيها لهجاتهم و "شفتهم"، وقيل لغاتهم، أو من تفاعلهم وتواصلهم مع الآخرين في جولاتهم وهجراتهم الداخلية في الجغرافيا والبيئة العربيتين، ذينك الممتدتين في مستنبت الحضارة القديم هذا، الذي يضاهي الفرعونية القديمة ويجاورها ويحاورها ويأخذ منها ويعطيها ويكوّن معها أرض العالم القديم وسقفه والفضاء الذي بين الأرض والسقف.
وهم يتفاعلون مع الحضارات والأمم والثقافات فيأخذون ويعطون بثقة وتفتح، وتبقى لهم شخصيتهم ودمشقيتهم، ويبقى لهم حضورهم الذي يمتد ما امتد بالإنسانية تاريخ وحضور حي، سواء باتجاه الشرق حيث كان زهو الفرس ومجدهم وحضور الهند والصين، أو باتجاه الغرب حيث أعطت الفتاة "أوربة" أخت القدموسيين وسليلتهم، للقارة الجديدة اسمها، وحيث هاجر إليها من نسل "الكادميين" الكنعانيين أو الآموريين عامة، أقوام أقاموا دعائم حضارة وثقافة لم تكونا بعيدتين بحال من الأحوال عن تأثير هذا الجزء من أرض البشر، الذي كان مهد الحضارة ولم يكن مجرد ملتقى للحضارات كما يحب بعض الغربيين أن يقول.
وهذا هيرودوتس يعيد لهذه المنطقة من العالم فضل نشر الميثولوجيا القديمة في اليونان ومن ثمة في الغرب كله، فيقول: "وأنا أقرر الآن أن ميلامبوس MELAMPUS –بمعنى الأسود القدمين- ذلك الرجل الحكيم الذي أوجد العرافة، قد تعلَّم من المصريين أشياء عديدة مختلفة، نقل منها إلى بلاد اليونانيين –بعد تعديل طفيف- ما يختص بديونيزوس، وأنا لا أومن مطلقاً بأن الاتفاق بين شعائر ديونيزوس في مصر وفي بلاد اليونان وليد المصادفة، وإلا لانسجمت هذه الشعائر مع طباع اليونانيين، وكان دخولها عندهم حديث العهد. ولن أقول أبداً أن المصريين نقلوا هذه الشعائر عن اليونانيين، لا هي ولا غيرها من العادات، ولكن من المحتمل جداً –كما يخيل إليَّ- أن ميلامبوس تعلم هذه الشعائر من كادموس الصوري، ومن أولئك الذين هاجروا معه إلى البلاد التي تسمى حالياً: بيؤوسيا"1.
ويضيف هيرودوتس: "لم يعرف اليونانيون أصل واحد من الآلهة، ولا تاريخ وجودها القديم جميعاً، ولا ما هي أشكالها، لم يعرفوا ذلك إلا بالأمس وبالأمس القريب كما يقولون. وأنا أعتقد أن هسيودوس وهوميروس عاشا قبل عصري بأربعمئة سنة لا أكثر –نهاية القرن التاسع ق.م- وهما اللذان دوَّنا لليونانيين أنساب الآلهة وسمياها بألقابها... الخ"2.
وهذا لا يترك مجالاً للشك في أبوة وأمومة ثقافة هذه المنطقة لثقافة الغرب القديمة كما أنه يدعونا إلى مزيد من التقصي والبحث والتدقيق للوقوف على الدور الحضاري الذي لهذه الأمة، التي ينال منها اليوم الضعف، وينخر فيها السوس، ويرين على ذاكرتها ووعيها الجهل، ويتأكَّلها الإهمال والتدابر وفساد القلب والنية والرأي.
لقد تداخل في دمشق المعبد الوثني القديم –معبد حدد وسواه ممن سبقه وتلاه من آلهة هذه البلاد- والكنيس، والكنيسة والمسجد، وهي بهذا الغنى والتنوع والتداخل، لم تكن مجرد حاضرة من حواضر العالم القديم التي شاركت في احتضان العقائد والثقافات وساهمت في نمو الوعي والإيمان فقط، وإنما كانت سرة الأرض التي شهدت صراع الوثنيات فيما بينها، وصراعها مع الديانات السماوية، وصراع الديانات السماوية فيما بينها ثم تآخيها وسبوغ التسامح عليها. فهي جارة ايلياء وخدنها، وهي جنَّة الأرض التي نبَّه إليها رسل، وهي الدار التي تعززت فيها رسالة الإسلام بنوعية من التآخي والتسامح مع الديانات السماوية، لم تشهدها إلا مدن عريقة قليلة، وهي التي تداخل فيها النسيج المعماري والحضاري وحتى الاجتماعي الأقدم والقديم في تكوين حضاري عضوي ثبت شخصية ثقافية نوعية من خلال تراكمية ثقافية مجدية، كما تداخل فيها القديم مع الجديد والمستجد، ولكن ذلك المعطى الثقافي والحضاري العام والمتنوع كان يدخل دائماً بوتقة واحدة تصهره وتسبغ عليه في النهاية ثوبه، الثوب الدمشقي –العربي، ليعطي هوية وخصوصية وشخصية للمدينة يجلوه تراثها، وليعطي للتراث شمرخة زاهية تجلو هي شخوصه وتحدد هويته وانتماءه.
لقد كان الفتح الإسلامي لدمشق في السنة الرابعة عشرة للهجرة –القرن السابع للميلاد- فهل تراه دخل دياراً لم تكن العروبة مستقرة فيها؟ أم تراه وجد من أهل الديار عوناً له، وترحيباً به، وتعرفاً عليه، واعترافاً بأصالة سنديانته في الأرض وعبق ريحانته في الدور والقصور، وعلى ضفاف بردى، وفي بساتين الشام الريانة والمزدانة بالذكريات وبوشم الانتماء العربي الصراح؟!
ربما كانت لذلك مناصفة عاشت دمشق في ظلها قروناً من قبل ومن بعد، وتكاد تكون علامة عليها، فيوم سبح خالد بن الوليد ومذعور بن عدي والقعقاع بن عمر في ماء خندق دمشق وكبروا فوق سورها القديم، وفتحوا الباب الشرقي للجند، فتحوها عنوة من هذا الجانب ولكن الذين فتحوا لجند يزيد بن أبي سفيان وأبي عبيدة بن الجراح أبواب دمشق الأخرى كانوا يصالحون ويميلون، وربما ينتمون، وكان اللقاء بين العنوة والصلح، بين الحرب والسلم، بين الموت والحياة، في درب الريحان. ويبدو أن لدمشق حظها الوافر، في كل العصور، من ثنائية ملحوظة الوجود والتأثير، أو من تلك "النصفيّة" التي تجعل الضدين يلتقيان ويتوقفان وينكسران في آن وذروة ومكان، ولا أدري أهي خصوصية دمشقية أم هو قانون خفي تفرضه الطبيعة العامة للحياة في مرتكزات التجمع البشري والحضاري!؟! فلدمشق سباسب ريحانها التي تواكب سيوفها الدمشقية الشهيرة، أو تقطع عنها حدود السيوف، ولها حريرها وفولاذها الأشهران، ولها قلعتها الجهمة العصية، وبساتينها الرضية الرخية، لها ماؤها وصحراؤها، جبلها وغوطتها، عُمرُها ويزيدها، فضلاؤها وفجارها، لها أطباؤها وعلماؤها، وأدباؤها وشعراؤها، ولها أيضاً جهَّالها وجهلتها، وكان فيها "الزعران والعوانية والبلاصيّة والغوغاء ومشايخ الحارات وعرفاؤها"3، لها من تيمورلنك نصيب ومن صلاح الدين ونور الدين الشهيد نصيب، فيها الأموي والظاهرية والمدارس والزوايا والتكايا قديماً، والجامعات والمكتبات العامة حديثاً، وكان فيها أيضاً سوق الخيل وما هو على شاكلته مؤدياً لوظيفته قديماً وحديثاً. ولها نصيب من الزهاد والمتصوفة وأهل الرأي على امتداد الزمن وتلون العهود.