تأليف محمد محمد يونس علي
يقصد بالمعنى الإدراكي أوالدلالة الإدراكية ما يشمل كل أنواع المعنى التي تحدثنا عنها في شرحنا لأنواع المعنى أو الدلالة. والجامع المشترك بين تلك الدلالات الذي يميزها عن الدلالة الإيحائية
1- اشتراك أفراد البيئة اللغوية عادة في فهمها.
2- إدراكها إدراك عقلي محض يتوقف على معرفة الوضع، أو الاستنباط المنطقي، أو الاستعانة بأصول التخاطب والتعاون.
3- تؤدي وظيفة الإبلاغ.
أما الدلالة الإيحائية فيقصد بها المعنى العاطفي الزائد عن المعنى الإدراكي، ومن خصائصها:
1- أنها تختلف باختلاف الأفراد.
2- أن إدراكها إدراك عاطفي.
3- أنها تؤدي وظيفة التأثير.
وبناء على ما سبق فإن الدلالة الإدراكية لكلمة ‘أم’ هي الوالدة أو ما يرادفها من المعاني، أما دلالاتها الإيحائية فتختلف باختلاف الأفراد (الحنان، العطف، العناية …إلخ). وكذا فإن الدلالة الإدراكية لكلمة ‘ليل’ هي الوقت الممتد من المغرب إلى الفجر، أما دلالاتها الإيحائية فقد تكون (السهر، القلق، الخوف، السكون …إلخ).
ويستخدم اللسانيون مصطلحات مختلفة لما أطلق عليه هنا الدلالة الإدراكية والدلالة الإيحائية، فإبراهيم أنيس مثلا يستخدم الدلالة المركزية والدلالة الهامشية، وقد ذكر أن أفراد البيئة اللغوية الواحدة يقنعون في حياتهم "بقدر مشترك من الدلالة يصل بهم إلى نوع من الفهم التقريبي الذي يكتفي به الناس في حياتهم العامة. وهذا القدر المشترك من الدلالة هو الذي يسجله اللغوي في معجمه"،[1] أما الدلالة الهامشية فعرفها بأنها "تلك الظلال التي تختلف باختلاف الأفراد وتجاربهم وأمزجتهم وتركيب أجسامهم وما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم".[2]
وقد شاع بين الغربيين استخدام مصطلحي الإحالة denotation والإيحاء connotation للدلالة الإدراكية والإيحائية. ومن تعريفاتهم للإيحاء ما يراه لاينز بأنه "المكون العاطفي أو الوجداني الزائد عن المعنى المركزي"، وإذا كان لاينز يقصر الإيحاء على الظلال العاطفية، فقد أدخل هنري لوفيغر الجوانب العقلية أيضا، حيث عرفه بأنه "أصداء العلامات الانفعالية والعقلية". ويتفق هارتمان وستورك مع لوفيغر في ذلك حيث عرفا الإيحاء بأنه المعنى "المؤسس على المشاعر والأفكار التي تلوح في عقل المتكلم (أو الكاتب) أو السامع (أو القارئ)".
وقد انصب اهتمام مارتينيه في تعريفه للإيحاء على معيار الشيوع وعدمه في التفريق بين الإحالة والإيحاء حين ذكر أن الإيحاء هو "كل ما في استعمال كلمة ما ، مما لا تشمله تجربة جميع مستعملي تلك الكلمة في تلك اللغة".
وينبغي ألا يفهم أن الدلالة الإيحائية مقتصرة على ما يحوم حول المعنى المعجمي للكلمات من إيحاءات، بل تشمل أيضا ما يترتب على الأنماط الأسلوبية والتغييرات القواعدية من ظلال أسلوبية مرتبطة بها. ومن ذلك التنغيم، والتقديم والتأخير، وأساليب التعجب، والمدح والذم، وقطع النعت للترحم أو المبالغة في المدح والذم.
كما أن بعض اللواحق والصيغ الصرفية قد تضفي على المعنى ظلالا عاطفية، ومن ذلك صيغ التصغير الدالة على التحقير أو التعظيم أو نحو ذلك، واللاحقة ‘يّة’ التي تشحن المصادر الصناعية بقوة عاطفية مؤثرة، كما في اشتراكية، وحرية، وتقدمية ورجعية.
عوامل الشحن العاطفي
لعلّ من أهم العوامل التي تلصق بالكلمة أو العبارة ظلالا عاطفية عامل الاستخدام، فتداول اللفظ بين الناس يصبغه بمشاعر مستخدميه ويكسبه رصيد انفعاليا، ومن أدلة ذلك ما اكتسبته كلمة ‘جثمان’ من ظلال ميّزته من مرادفتها كلمة ‘جسم’ بسبب تخصيصها في الاستخدامات المتأخرة لجسم الميّت، وشبيه بذلك كلمة ‘عصابة’ التي قصرها الاستخدام الحديث على الجماعة الخارجة عن القانون، مع أن استخداماتها القديمة لا تدل على ذلك، فقد وردت في شعر حسّان بن ثابت في المدح، حيث يقول:
لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول
ومن العوامل التي تكنز اللفظ بإيحاءات انفعالية الطبيعة العاطفية للمدلولات نفسها، كما في الكلمات الدالة على القيم كالحرية والعدل والمساواة والكرامة والأنفة، وكذلك الصفات المستهجنة أو المحببة للنفس مثل حقير وسافل وبغيض، وعظيم وجميل ورائع.
ومن عوامل الشحن العاطفي أيضا طبيعة التركيب الصوتي للكلمة أو العبارة، كما في قول دريد بن الصمة يرثي أخاه:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه فلما علاه قال للباطل: ابعد
فالوقع الصوتي والجرس الموسيقي والنمط التركيبي لعبارة "صبا ما صبا" ألبست المعنى ثوبا من العاطفة لاءم المعنى الأساسي الذي يعبر عنه الشاعر، وأسهم من جهة أخرى في إظهار حسرته وحرقته على وفاة أخيه.
ومنها أيضا عامل الارتباط النفسي بين كلمة (أو عبارة) وأخرى، حيث يجر استخدامها ما يحوم حول الأخرى من ظلال عاطفية، وهو ما يفسر تحفّظ حفاظ القرآن من استخدام عبارات نحو "كبيرهم هذا" و"أنا خير من .." لما تستدعيانه من إيحاءات مستهجنة بسبب ما جاء في القرآن من نحو "قال بل فعله كبيرهم هذا" إشارة إلى كبير الأصنام، و"كبيرهم الذي علمهم السحر"، وما ورد على لسان الشيطان عن آدم "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". وشبيه ما هذا ما يقوم به مستخدمو اللغة حين يتجنبون استعمال ألفاظ معينة في بعض المواقف التخاطبية لما تجلبه من إيحاءات مستهجنة قد تكون مرتبطة بالمعاني الأخرى التي تدل عليها الكلمة أو العبارة. ومنه أيضا الارتباط الزماني والمكاني بين كلمتين تستدعي إحداهما الأخرى عادة، كما في ‘عام الفيل’ التي قد يؤدي ذكرها إلى استدعاء مولد الرسول – ص- إلى الذهن، وكما في ‘مكة’ التي قد توقظ في الذهن ذكر المدينة، وفي كلتا الحالتين فإن المشاعر المرتبطة بالكلمة المستدعاة قد تنسحب على الكلمة المستعملة.
[1] دلالة الألفاظ، ص 107.
[2] دلالة الألفاظ، ص 106.