جـزيــرة النســـاء- ريم العيساوي
عينان تتقدان ، تشعّان نورا صافيا ، حاجبان بارزان كثيفا الشعر داكنان ، أنف مستقيم شامخ في كبرياء ، فم رقيق الشفتين .. انزوى في ركن من أركان عربة القطار والظلام بدأ يطارد النّور ، أغمض عينيه ، صوت عجلات القطار يبعث فيه رغبة النوم استسلم لتيار من الخواطر والذكريات .. احتواه شعور بالوحشة .. مرّت لحظات تأمُّـلٍ فصلتها رائحة عطر قويّ أشاعتها امرأة ملتحفة لا يظهر من تحت حاجبها إ سوى عينين جميلتين . دغدغت رائحة العطر أنفاسه ، تململ قليلا ثمّ عاد إلى تناومه في لا مبالاة ، فتح عينيه ، مسحهما بكفه وأنزل ستار النافذة يبحث عن نسمة باردة تخرجه من حلمه . تفحّص المرأة الملتحفة ، أدرك ملامح أنوثة جذّابة فيها ... صمتها خجلها حبلان يشدّانه إلى التدقيق في هيئة تكوينها . اللّحاف لا يخفي نهديها الكاعبين ولا قدّها المكتنـز ، ولا بشرتها الصقيلة . ركّز نظره على عينيها ، أحسّ بسحر واهتزاز . ابتسم لها .. ردّت على ابتسامته بابتسامة عجلى . لم يطق صبرا أمام هذا الجمال فبادرها بالسؤال مثبتا عينيه فيها بانبهار .
- أين ذاهبة يا سيّـدتي ؟
- أنا قاصدة جزيرة النساء .
- هل هناك جزيرة تدعى بهذا الاسـم ؟
- نعم هذه البلدة غير مرسومة على الخارطة الجغرافية ، بل أسستها جمعيتنا النسائية الداعية إلى الانفصال والوحدة .
- لقد شوقتني إلى رؤية هذه الجزيرة ، إنها لا تكون إلا مكانا جميلا مثل جمالك وروعتك .
- أنا أستضيفك لزيارة جزيرتنا ، ولكن بشروط واضحة ومشروعة في سجلّ أحكامنا المدنية .
- وهل لكم هيكلة إدارية ؟
- لا أقول إدارة . ولكن قواعد نتعامل بها عند اقتضاء الحاجة .
- عالم غريب عالمكنّ !
- في المحطّة المقبلة ، أنا أنزل وأنت اتبعني وسأقنع زميلاتي بزيارتك وبأنّك صحفي تريد أن تسجّل تحقيقا عن جزيرتنا .
- أنت والله رائعة وذكيّـة .
- أنصحك إذا دخلت جزيرتنا أن تتجرّد من كلّ عواطفك .
- مـا معنى هـذا ؟
- أن تنظر إلى الجمـال وتكبح عواطفك . وأن تنظر إلى الواحدة منّا وكأنّك تنظر إلى رجل مثلك . هذا هو قانوننا . وبصورة أوضح أن تتصرّف بعقلك . إذن أدعوك إلى ترك العواطف خارج جزيرتنا ، كما أنصحك ألاّ تشعل نار الغيرة في قلوب بنات جزيرتنا ، إذا نظرت إلى واحدة فلا تنظر إليها إلاّ بقدر ما تنظر إلى غيرها من أخواتها . وإذا مدحت واحدة فلا تبالغ في مدحها ، بل وزّع مدحك أقساطا متساوية .
- إنّهـا والله لمغامرة طريفة !
- أنت صحفي ووظيفة الصحافة تقتضي الصبر والشجاعة ... ها إنّنا وصلنا ..
نزلت المرأة في أناة ... مشى عن يمينها ، شعر بثقل خطاه ، شيء خفي يشدّ رجليه إلى الأرض ، كان يدور في خاطره شريط رحلة في أدغال إفريقيا ، تبعثرت خطاه في الظلام ، كاد يهوي ، مسكت الحسناء بيده كي لا يتدحرج ... سارا ساعة حتّى أشرفا على الشاطئ ... كانت السماء مُقمِرة وقارب صغير تداعبه مويجات هادئة . شعر الرجل بخوف وتصدّعٍ أمام هذا المرسى الصغير ... وجد نفسه جالسا على خشبة القارب والحسناء نزعت لحافها وأخذت تجدّف به في حركة جميلة منسقة .. بعث صوت الماء في نفسه شعورا بالطمأنينة . فتذكر صباه وعشقه للبحر وولعه بالسباحة . دائرة زئبقية مترقرقة يبعثها نور القمر على صفحة الماء . تألقت أمام عينيه تلك الحسناء الغريبة كلؤلؤة قذف بها المحار .. خصلات شعرها تتأرجح كخيوط من الإبريز الخالص يداها تحركان المجدافين في مهارة البحّار . حدّث نفسـه : " إنّـها صيادة بارعة ... لقد اصطادتني كما تصطاد السمكة . ها أنا واقع في شصّها .. ها أنا أتخبّط في حبال شباكها صيادة وسمكة آدميّـة وقارب يتماوج على صفحة الماء يا للروعة !! القمر شاهد على مصرعي أمام هذا الجمال الفينوسي .. " مدّ يده ، مـرّر أنامله على أصابع يدها .. دسّ أصابعه في شعرها .. استمرّت في التجديف دون مبالاة ، تعجّب من برودتها ، قالت له :
- لا تبحث عن الحرارة في جزيرتنا ولا عن الحبّ ، نحن ألفنا الصوم عن هذه الأعمال البشرية ، نحن نجهل معنى اللّذة .
قهقه عاليا وقال :
- أنتن متمردات على الطبيعة ، اعلمي أن هذا التمرّد شذوذ ، لأنـكنّ حكمتنّ على أنوثتكن بالمحق . وهذه جريمة في حق الإنسانية . رسا القارب على رصيف ، تكدّست فيه الحجارة ، تنيره منارة ساطعة الضوء .. تراءى له شبح امرأة تحمل مصباحا صغيرا ، اقتبلتهما وسار الثلاثة في هدأة الليل .. الرّجل يتوسط المرأتين ، سلكوا طرقات معبّدة منارة بمصابيح كهربائية . لاحظ الزائر في مدخل الجزيرة لافتة كتب عليها بحروف سوداء – يمنع الدخول على الرجال – أحسّ بشعـور اختـراق قانـون رسمـي وتظـاهر بالشّجاعـة . قالت الأولى :
- إنّـه صحفيّ جاء ليحدّث الصحافة عنّا .
قالت الثانيـة :
- نحن لا نريد أن ترسم صورنا وصور جزيرتنا على صفحات الجرائـد .
أجاب الرجـل :
- لا سيداتي ليس لي آلة تصوير ، كلّ ما أملكه قلمي ... وساد صمت ثقيل ضاعفته رتابة وقع الخطى على الطريق . وصل الثالوث دارا كبيرة كتب على بابهـا " التجرّد من العواطف نجاح المرء في كلّ أعماله " توقف الرجل مرتجفا يترقب قرار المجموعة النسائية وتمكينه من أداء وظيفته ... تردّد .. تلعثم . تكسّرت الكلمات على شفتيه واستعاد شجاعته ببطء وقال :
- أيـام قليلة فقط أقضيها في ربوعكنّ حتّى أسجل ارتساماتي عن جزيرتكنّ المصونة .
عند سماع هذا الكلام علت ضحكات النسوة فارتبك الرّجل وكاد يفقد توازنه ثمّ ساد صمت طويل قطعه الإعلان عن قبول هذا الزائر الدّخيل . قضى الرّجل ثلاثة أيّام في عالم غريب .. كانت رغبته في تسجيل معلومات عن هذه الجزيرة النسائية عظيمة لما في الموضوع من طرافة . لكنّه كاد يفقد عقله من تصرفات ساكنات هذه الجزيرة . أخرسته إحداهنّ بقولها : " اسكت أنت تتحدّث عن العواطف " وثانية وضعت له عصابة على عينيه بدعوى أنه أطال النظر في صاحبتها ، وثالثة تضرب رأسه قائلة : إنّ في دماغك تجول أحاسيس وعواطف . ورابعة تقيّد رجليه قائلة : " إنّ عواطفك أدّت بك إلى السير نحو جزيرة التجرّد من العواطف " وأعادت ذلك خامسة وسادسة وسابعة . كانت هذه الجملة قاعدة وميزانا لكلّ الأشياء . وكاد الرّجل يجنّ إلى أن نجا بجلده فارّا بعواطفه بين يديه بعد أن كتب على معلقة الباب " إنّ التجرّد من العواطف جنون المرء في كل أحواله " .