قرر الجزار عبد الرحمن أن ينخرط في جمعية من جمعيات حقوق الإنسان ... وأصل هذا الموقف أن صاحبنا رغب في الحصول على بطاقة من البطاقات التي يتباهى بها بعض المثقفين ، بطاقة التعاضدية ، بطاقة... وبما أنه لم يكن موظفا فإنه لم يتمكن من الحصول إلا على بطاقة التعريف الوطنية ، وآلمه أن بعض زبنائه من أصحاب الأحذية اللامعة حينما يفتحون محافظ نقودهم يبدو منها ركام من هذه البطاقات... بطاقات بنكية ، وبطاقات إدارية ... فقرر أن ينخرط في جمعية من الجمعيات فاستفسر أحد هؤلاء الزبناء فأشار عليه بأن ينخرط في جمعية من جمعيات حقوق الإنسان ، فهي ذات هدف نبيل فضلا عن أنه قد فتح لها فرع جديد في مدينته الصغيرة ... وهو في طريقه اضطر أن يسأل المارين : الراجلين والقاعدين ـ من المسلمين طبعا ـ ... عن مكتب جديد ، وبعد عناء شديد وجد نفسه أمام عمارة تؤثث للبؤس ... صعد السلم ... وجد أمامه مكتبين ، مكتب على يمينه ومكتب على يساره ، الذي على يمينه كتب عليه عنوان : حقوق الإنسان وتحته مباشرة عنوان صغير : فرع الجمعية العالمية ... وعلى يساره لافتة كتب عليها : الجمعية العالمية لحقوق الحيوان ، فرع مدينة ... طرق الباب الذي على يمينه ، دخل ... وجد كائنا بشريا ... سلم عليه ، سأله باحترام كامل : سيدي ، أود أن أنخرط في جمعيتكم الكريمة وجئت أستفسر عن الوثائق التي علي أن أدلي بها قصد التسجيل ... سلمه الكائن البشري ورقة بيضاء فارغة ، لا خطوط ولا سطور... اكتب اسمك وعنوانك ورقم هاتفك ... سنتصل بك ريثما نتوصل بمطبوع الانخراط . حاول صاحبنا الجزار أن يستفهم عن ... قاطعه الكائن البشري : أنظر جيدا ... تأمل المكتب ... مكتب مهترئ وكرسيان ... لا آلة كاتبة ولا كمبيوتر ... ثم قال له : هذا القلم اشتريته من مالي الخاص ... نحن في الحقيقة نحتاج إلى مطبوعين : مطبوع للمنخرطين ومطبوع للمطالبة بحقوق مكتب حقوق الإنسان ... هيا انصرف ... قد لا نتصل بك قبل أسبوع . خرج صاحبنا وهو يتأبط الحزن ... قال في نفسه : المسألة مسألة تحد ، مسألة كرامة ... لقد أعلن التحدي بأنه يستطيع أن يحصل لو شاء على بطاقة من البطاقات التي يتباهى بها هؤلاء الموظفون ... لقد رفع التحدي إلى أعلى البرج ... فكيف سيكون وضعه ، صورته ، مكانته ... لو لم ... تذكر أنه ما كان عليه أن ينخرط في هذا التحدي وفي هذه القوقعة منذ البداية ... فكيف يتصرف وقد سبق السيف العدل ؟ فكر في أن يتراجع لولا كبرياؤه ... شموخه ... عزة نفسه ... كيف وهو القامع لأعتى الثيران ... يستسلم الثور الأبيض الهائج أمام سكينه ... فيذبحه كما يذبح غيره الدجاجة ... خطر بباب باله فكرة أن يطرق الباب الآخر ... دخل ... المكتب أنيق ، لوحات على الجدران ، جهاز كمبيوتر ، كرسي أنيق تمتطيه سيدة شقراء الشعر ... يبدو أنها تعتني بأسنانها بشكل مستمر ... ابتسمت ، قالت بصوت خفيض : تفضل ، حاول أن ...لا داعي ، أفهمك : تسلم المطبوع الأنيق : الاسم العائلي ، الاسم الشخصي ، المهنة... لم يكلف نفسه عناء قراءة الصفحة عن آخرها وإنما بدأ يخط خطا رديئا ، وبمشقة ، حاول أن يكتب بخط جميل ... لكن أنى لهذه الأصابع التي تعودت على الفأس والسكين والساطور ...أن تحمل القلم وتخط به خطا كوفيا ... لكن لا بأس ... بالتأني تدرك الأمور أو بعضها على الأقل ... خط هنا ... خط هناك ... توقف لحظة ، سطر غريب ، مضمونه أغرب : أنا الموقع أسفله ... ألتزم التزاما بينا واضحا ...لا رجعة فيه بأن أعمل على حماية الحيوانات وصيانة حقوقها وكرامتها ، من الأسد إلى الحمار مرورا بالخروف والتيس ... بهذا أشهد وأوقع ... وضع القلم ، والرعشة تملأ كبده ... سيدتي : كيف أوقع هنا ؟ كيف ألتزم وأنا جزار؟ وبما أنها من النساء الشاعرات اللواتي يكتبن من حين إلى حين نصا شعريا نثريا ، فقد قررت أن تخاطبه بلغة رصينة ، ومما شنفت به أذني جزارنا الكريم : سيدي الجزار المحترم ، لا تتريب عليك اليوم ، أسأل الله أن يغفر لك ما تقدم من ذنبك في حق الحيوانات صغيرها وكبيرها ... وكل ما عليك الآن هو أن تفكر فيما يأتي من عمرك ، حاول أن تبحث عن عمل آخر ، وعلى قدر استطاعتك ، كل ما يهمنا هو أن توقع ... نريد أن نملأ اللوائح ... المساعدات الدولية سخية ...
وقع صاحبنا ... خرج ، وهو في طريقه ... في غرفة نومه ، وهو في سريره لم تتوقف الأفكار عن مراودته ... استعطف النوم أن يزوره لحظة ، لكن دون جدوى ... وفي الغد بحث عن عمل آخر ولمدة أسبوع ... الحصيلة لا شيء ، وفي تمام اليوم السابع زاره شيطان الجزارين ... كان قد رق لحاله ، قال له : يا أخي ما بك ؟ إني أراك مهموما مغموما ... حكى له عبد الرحمن مشكلته فضحك شيطانهم ضحكات ... ثم قال : المسألة هينة لينة يا صاحبي ... لا تستدعي كل هذا الحزن . أجابه الجزار : كيف لا أحمل هما ؟ كيف أجمع بين الماء والنار؟ أجابه شيطان الجزارين : أنت تستطيع أن تجمع بينهما لو شئت ، جرب أن تضع الماء في القدر وتضع الاثنين معا على النار ... المسألة بسيطة كما تلاحظ . فتح الجزار كل منافذ وجهه ؛ الفم والأنف والعينين ...
ـ لم أفهم بعد ...
ـ قال الشيطان وهو يتأفف : أنصت جيدا ، بما أنك لست مسلما صالحا فانا أحبك ، وأنا أعلم أنك لست هندوسيا يقدس الحيوان ... كل ما عليك فعله هو ألا تؤذي الحيوان ... ألا تؤلمه ... أليس كذلك ؟ ... لم ينتظر منه جوابا وإنما استرسل شارحا موضحا : لا تذبحه حتى لا تؤلمه ... أتركه حتى يموت موتا طبيعيا ... آنئذ ... أنت جزار وعضو في الجمعية العالمية لحقوق الحيوان ... حك الجزار مقدمة رأسه ... واستسلم لنوم لذيذ ... أما إحدى الجرائد فقد نقلت بعد أيام خبر نقل سبعة أشخاص إلى المستشفى بسبب التسمم ...؟
د.إبراهيم ياسين .