المدرسَة البَغدَاديّة عِند المعاصرين - د.محمد عطا موعد
يسهل على أي دارس لتاريخ النحو العربي أن يستخرج هاتيك المعالم الواضحة لكلٍّ من مدرستي البصرة والكوفة من حيث الأصول والمنهج والمصطلحات.
فهل كان هناك مدرسة بغدادية لها مثل ما للمدرستين من أصول أو منهج مستقل أو مصطلحات خاصة بها؟.
وهل عُرف عن مدرسة بغداد- إن صحّت التسمية- أعلام اشتهروا، فنافحوا عن أصول مدرستهم، ودافعوا عن منهجها؟.
إن عدداً من الباحثين المعاصرين تحدثوا عن وجود مدرسة بغدادية، فجعلوا بعض النحاة ينضوون تحت لوائها.
فقد صنف الدكتور محمود حسني محمود كتاباً سمّاه (المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي)، على حين أن الأستاذ الدكتور شوقي ضيف عقد فصلاً خاصاً لهذه المدرسة في مصنفه المشهور: (المدارس النحوية)، فذكر أن "نحاة بغداد في القرن الرابع الهجري اتبعوا نهجاً جديداً في دراساتهم ومصنفاتهم النحوية، يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعاً، وكان من أهم ما هيأ لهذا الاتجاه الجديد أن أوائل هؤلاء النحاة تلمذوا للمبرد وثعلب، وبذلك نشأ جيل من النحاة يحمل آراء مدرستيهما، ويعنى بالتعمق في مصنفات أصحابهما، والنفوذ من خلال ذلك إلى كثير من الآراء النحوية الجديدة.
وكان من هذا الجيل مَنْ يغلب عليه الميل إلى الآراء الكوفية، ومن يغلب عليه الميل إلى الآراء البصرية"(1).
وهذا دفع الدكتور مهدي المخزومي إلى الحكم على المذهب البغدادي بقوله: "فليس المذهب البغدادي إذن إلا مذهباً انتخابياً، فيه الخصائص المنهجية للمدرستين جميعاً، على نحو ما فعل ابن مالك في محاولته الجمع بين المذهبين، وانتهاجه منهجاً وسطاً بينهما"(2).
أما الأستاذ Howell فقد تكلم على المدرسة البغدادية فقال: "إن مدرستي البصرة والكوفة ظلتا منفصلتين حتى نهاية القرن الثالث، أو منتصف القرن الرابع حيث اندمجتا في مدرسة بغداد الجديدة"(3).
وقال أيضاً: "وكان اندماج تعاليم المدرستين في الجيل التالي من النحويين الذين أسسوا مدرسة بغداد"(4).
إن انتخاب بعض النحاة من المذهبين البصري والكوفي، واندماج المدرستين فيما بعد، لا يعني بالضرورة نشوء مدرسة جديدة هي المدرسة البغدادية، لأنه لو وُجد مثل هذه المدرسة لكان لها ما يميزها من معالم واضحة القسمات، بينة الملامح، من حيث أصولها ومنهجها ومصطلحاتها، بل يعني "بقاء المذهبين البصري والكوفي في بغداد جنباً إلى جنب بقاءً لا أثر فيه للتناقض الشخصي أو التناحر... فلقد كانت هناك كثرة من علماء بغداد أخذت من المذهب البصري أخذَ بحثٍ واقتناعٍ، لا أخذ هوى وتعصب، وكانت هناك قلة منهم أخذت بمذهب الكوفة وناصرته".(5)
وإذا عدنا إلى مصنف د.محمود حسني محمود عن (المدرسة البغدادية) ألفيناه يجعل الأخفش الأوسط (ت 215هـ) من مؤسسي هذه المدرسة، فيقول: "الأخفش بغدادي، يزرع هذه البذرة لمّا عاد سيبويه من بغداد، وعلم الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة خبره عزم على أن يثأر له، فذهب متحمساً إلى بغداد"(6).
ففي زعم د.محمود أن الذي غرس الغرسة الأولى للمدرسة البغدادية هو الأخفش، وهذا احتجاج لا يقوم، لأن الأخفش يعد من أكابر أئمة النحو البصري بعد سيبويه، فهو أحد نحاة البصرة(7)، وكان يقول: "ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه عليّ، وكان يرى أنه أعلم به مني، وأنا اليوم أعلم به منه"(8).
ونعت المبرد (ت 286هـ) الأخفش قائلاً: إنه أحفظ من أخذ عن سيبويه(9).
لكن هذا لا يعني أن الأخفش لم يكن بينه وبين أصحابه البصريين خلاف، فقد كان بينهم من الخلاف ما كان، والتأمل في مظان النحو يشهد لذلك، إذ نرى فيها عبارات من نحو: "ذهب البصريون إلا الأخفش"(10).
وفي رأي د.ضيف أن الأخفش هو الذي فتح أبواب الخلاف على النحو البصري(11). غير أن هذا لا يعني أن الأخفش يعدُّ من الذين أسسوا المدرسة البغدادية، كما قيل، لأن مخالفته لأقرانه البصريين أحياناً لا تعني بالضرورة أن الأخفش أسس مذهباً نحوياً جديداً.
وكذا جعل د.محمود بن كيسان (ت 299هـ) مع أعلام النحاة البغداديين(12)، ومثل هذا فعله د.ضيف، إذ عدّه من أول أئمة المدرسة البغدادية(13).
وهذا يحمل على معاودة النظر في ترجمة ابن كيسان. فقد نقل السيوطي (ت 911هـ) عن الخطيب قوله عن ابن كيسان إنه يحفظ المذهب البصري والكوفي في النحو، لأنه أخذ عن المبرد وثعلب، وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: إنه أنحى منهما(14).
أما ياقوت فقال عنه: "لكنه إلى مذهب البصريين أميل"(15).
وكان ابن الأنباري يقول: "خلط المذهبين فلم يضبط منهما شيئاً"(16).
وقيل: "إنه كان متبحراً في مذهب البصريين"(17).
أما خالد بن عبد الله الأزهري (ت 905هـ) فقد نسبه إلى الكوفيين(18).
وهذه الأقاويل مجتمعة تؤذن ببطلان ما قيل عن ابن كيسان أنه من أول أئمة المدرسة البغدادية، فليس هناك ما يثبت ذلك، فهو يحفظ المذهب البصري والكوفي، وهذا لا يجعل الرجل في طليعة البغداديين، لأن حفظه للمذهبين لا يعني أنه بغدادي المذهب، هذا إن تجاوزنا رأي مَنْ جعله أميل إلى مذهب البصريين، أو رأى من عزاه إلى الكوفيين، أو رأى من اتهمه بأنه خلط بين المذهبين فلم يضبط شيئاً منهما.
وإذا مضينا مع د. محمود ألفيناه يجعل عدداً من نحاة القرون: الرابع والخامس والسادس والسابع ينتمون إلى المدرسة البغدادية. فهو ينسب أبا بكر بن السراج (ت 316هـ) إلى تلك المدرسة(19).
ولعل الذي جعل د. محمود يعد ابن السراج في البغداديين أن ابن السراج نشأ في بغداد ومات فيها، لكن هذا لا يعني أنه بغدادي المذهب، فهو بصري كما يقول محقق كتاب الأصول: "أو هكذا ارتضى لنفسه أن يكون من البصريين، لأن الأسس التي يرجع إليها والمصطلحات والمسائل الخلافية التي يستعملها ليست بغدادية، لأنه لا توجد مدرسة "بغدادية" بهذا المعنى.
إن ابن السراج يقول بآراء البصريين، ويعدُّ نفسه بصرياً، ويعتمد الأسس البصرية، ويستعمل مصطلحاتهم...
فهو يعتمد الوجهة البصرية، وهو كالنحاة البصريين يعتمد القبائل العربية الفصيحة، ولا يقيس على القليل أو النادر...
وفي كتاب الأصول الكثير من ذكر البصريين، وأحياناً يسميهم بأصحابنا"(20).
فظاهر ما ذكره محقق كتاب الأصول لأبي بكر بن السراج يوحي بأن الرجل بصري، وليس بغدادياً كما زعم د. محمود.
ويعاضد ذلك أن الزبيدي (ت 379هـ) في طبقاته(21) وابن النديم (ت 438هـ) في الفهرست(22) جعلا ابن السراج من البصريين.
ومن نحاة القرن الرابع الذين عدّهم د.ضيف في البغداديين عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت 337هـ)(23)، وقد جاء كلامه عنه متبايناً، فبعد أن حكم عليه بأنه ينتمي إلى المدرسة البغدادية يقول: إنه "كان يسلك نفسه في البصريين"(24). وقال عنه في موضع آخر: "ونحسّ في وضوح أنه يقف مع البصريين مناضلاً مدافعاً، مما يؤكد نزعة بصرية قوية في مباحثه، وكأنه كان استهلالاً لانصراف البغداديين عن النزعة الكوفية إلى النزعة البصرية التي سادت بعده إلا قليلاً"(25).
وحكم د.ضيف على كتاب الجمل للزجاجي بقوله: "وكتاب الجمل أفرده لقواعد النحو والصرف، وحظي بشهرة مدوية لدقته ووضوح عبارته واستيعابه لدقائق النحو البصري التي يحتاجها الناشئة... وهو فيه بعامة يتبع نظام النحو البصري..."(26).
ولا أدري كيف عزب عن د.ضيف وبعد أن ساق هذه النصوص أن يحكم على الزجاجي بأن هواه مع البغداديين، على حين أن هذه الأقاويل التي عوّل عليها تحمل على جعل الرجل في البصريين، ولا ريب أن هذه الأقاويل تتضافر على توكيد هذه الحقيقة.
وهذا لا يعني أن الزجاجي أحجم نهائياً عن الكوفيين، فالناظر في مصنفاته يرى أنه استعار بعض مصطلحاتهم(27)، وأنه تابعهم في بعض آرائهم(28).
فالرجل بصري إذن، وليس بغدادياً، ولعل د.ضيف حكم عليه بذلك لأنه سلك مسلك البصريين، وتابع الكوفيين في عدد من آرائهم ومصطلحاتهم، وهذا في رأيي لا ينفي أن الرجل بصري المذهب، لأن مخالفته لأصحابه البصريين أحياناً لا تعني خروجه عنهم، وتحوله إلى البغداديين، بل هو واحد من أولئك النحاة الذين نظروا في المذهبين البصري والكوفي، فمال إلى المذهب البصري، وأخذ به أخذ بحث واقتناع، لا أخذ هوى وتعصب، وصنيعه هذا لا يُدخله في البغداديين.
ويعاضد هذا ما ساقه الأزهري (ت 905هـ) في كتابه (التصريح بمضمون التوضيح) فقال في قول رؤبة:
أو تَحْلِفي بربّكِ العَليّ
أنّي أبو ذَيالك الصَّبيّ(29)
"يروى بكسر (إن) وفتحها، ، فالكسر على الجواب للقسم، والبصريون يوجبونه، واختاره الزجاجي(30)، والفتح عند الكسائي والبغداديين، وأوجبه أبو عبد الله الطُّوال بتقدير (على)..."(31).
فلو كان الزجاجي بغدادياً لاستثناه الأزهري من البغداديين، وربما كانت عبارته عندئذ: والفتح عند الكسائي والبغداديين، إلا الزجاجي منهم حيث اختار الكسر.
وقد عدَّ د.محمود حسني محمود أبا علي الفارسي (ت 366هـ) بغدادياً، فعقد له فصلاً كاملاً(32)، وكذا فعل د.ضيف أيضاً، إذ عدَّ الفارسي وابن جني (392هـ) في البغداديين، فقال: "ولا يكفي أن ينسب ابن جني وأبو علي الفارسي في البصريين، لنعدّهما حقاً منهم، فإنهما اتّبعا في مصنفاتهما المذهب البغدادي الانتخابي، وإن كانت قد غلبت عليهما النزعة البصرية، وهي لا تخرجهما عن دوائر الاتجاه البغدادي القائم على الانتخاب من آراء البصريين والكوفيين"(33).
كذا قيل عن مذهب أبي علي وابن جني. وإن نظرة في كتبهما تكشف عن بصرية واضحة القسمات، بينة الملامح لديهما، وهذه براهين تجعل النفس تطمئن لبصريتهما.
ففي قول الشاعر:
أنْ تقْرآنِ على أسْماءَ وَيْحكُمَا
مِنِّي السَّلامَ وأنْ لا تُعْلِما أحَدا(34)
ذكر ابن جني ما نصه: "وسألت أبا علي عن قول الشاعر... البيت. فقلت له: لمَ رفع (تقرآن)؟ فقال: أراد (أنّ) الثقيلة، أي: أنكما تقرآنِ، هذا مذهب أصحابنا. وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى في تفسير (أن تقرآنِ) قال: شبّه (أن) بـ(ما)، فلم يُعملها في صلتِها، وهذا مذهب البغداديين. وفي هذا بُعدٌ، وذلك أنَّ (أنْ) لا تقع إذا وُصلت حالاً أبداً، إنما هي للمضي أو الاستقبال، نحو: سرني أن قام زيد، ويسرني أن يقوم غداً، ولا تقول: يسرني أن يقوم، وهو في حال قيامٍ، و(ما) إذاً وُصلت بالفعل فكانت مصدراً فهي للحال أبداً، نحو قولك: ما تقوم حَسنٌ، أي: قيامك الذي أنت عليه حسَنٌ، فيبعدُ تشبيه واحدة منهما بالأخرى، وكل واحدة منهما لا تقع موقع صاحبتها.
قال أبو علي: وأولى (أن) المخففة من الثقيلة الفعل بلا عوضٍ ضرورةً، وهذا على كل حال وإن كان فيه بعض الصنعة أسهل مما ارتكبه الكوفيون"(35).
بيّن مما سلف أن مذهب أبي علي هو بصري، فهو يشير إليه بقوله: "وهذا مذهب أصحابنا". ويؤكد هذا أن أبا علي كان أشدَّ تفرداً بكتاب سيبويه، وأشدَّ إكباباً عليه، وأبعدَ من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين(36)، وأنه لما حدث حريق ببغداد فذهب به جميع علم البصريين قال أبو علي: "وكنت قد كتبت ذلك كله بخطي وقرأته على أصحابنا"(37).
ومن هنا كان أبو علي يقول: "قياس أصحابنا كذا، وقياس البغداديين كذا"(38).
مما يعني أن نسبة أبي علي إلى البغداديين يشوبها الضَّعف، لأنه لم ينتصر لقياسهم كما هو بيّن، ولأنه صرح عن بصريته في مظانه كما سلف.
وفي عودة إلى كلام أبي علي على البيت الذي ساقه ابن جني يلاحظ أن الرجل لم يتابع البغداديين فيما ذهبوا إليه، وأنه لو كان بغدادياً لاستثناه ابن جني منهم، وأنه عنى بالبغداديين متأخري النحاة من الكوفيين، لأنه نقل عن أحمد بن يحيى ثعلب الذي يعد من متأخري نحاة الكوفة كما هو معروف، ويدل على ذلك أيضاً أنه سمى الكوفيين في أول النص بالبغداديين، على حين أنه أطلق عليهم لفظ الكوفيين في آخره، "وهذا أسهل مما ارتكبه الكوفيون".
ومما يؤكد أن أبا علي عنى بالبغداديين متأخري النحاة من الكوفيين ما ذكره البغدادي (ت 1093هـ) في قول الشاعر:
فلا تَلْحَني فيها فانَّ بحبِّها
أخاكَ مُصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه(39)
فقال: "وأورده- يعني أبا علي- أيضاً في موضعين من التذكرة القصرية.
قال في الأول: مسألة: إن قال قائل: لمَ لا يكون المحذوف في التقدير مؤخراً، كأنه قال: إن في الدار زيداً، فلا يسقط بذلك حكم ما يعلّق بالظرف؟. قيل: يقبح هذا الفصل كما: كانت زيداً الحمى تأخذ، فإن قيل: فقد قال: فإن بحبها أخاك مصاب القلب؟. قد قيل: روى البغداديون: هذا مصابَ القلب، فذا يدلك على استكراههم الرفع لما فيه من الفصل، فعدلوا عنه إلى النَّصب، ويجوز أن يقول: إن الظرف قد فصل به في أماكن، فيجوز أن يكون هذا مثلها.
وقال في الموضوع الثاني: مسألة: ما كان فيها أحد خير منك، (فيها) متعلقة بـ(كان) إذا نصبت (خيراً منك) ومتعلقة بمحذوف إذا كان مستقراً، ويجوز أن تنصبها بـ(خيراً منك) وإن تقدم عليه لشبهه بالفعل، وليس الفصل بـ(فيها) إذا علّقتها بـ(خير منك) يقبح، لأن أبا الحسن قد أنشد في (المسائل الصغيرة).
... ... فإنَّ بحبِّها
أخاكَ مُصابُ القلب ...
ورواه الكوفيون: مصابَ القلب، وأظنهم هربوا من الفصل، فنصبوا مخافة أن يجرى مجرى: كانت زيداً الحمى تأخذُ، وأتى أبو الحسن بمسائل هناك يفصل فيها بالظرف المتعلق بالخبر"(40).
فقد تحدث أبو علي عن هذا البيت في موضعين من كتابه (التذكرة القصرية) ذكر في الموضع الأول أن البغداديين رووا البيت بنصب (مصابَ)، وذكر في الموضع الثاني أن الكوفيين رووا البيت بنصب (مصابَ) أيضاً. ويلاحظ أنه سمى الكوفيين بالبغداديين في الموضع الأول، على حين أنه سماهم بالكوفيين في الموضع الثاني، مما يدل على أنه عنى بالبغداديين الكوفيين.
وكذا فعل أبو الفتح عثمان بن جني أيضاً فقال: "فأما قول من قال في قول تأبط شراً:(41)
كأنما حثحثوا حُصَّاً قوادمُه
أو أمَّ خِشْفٍ بذي شثٍ وطُبّاقِ
إنه أراد حثَّثوا، فأبدل من التاء الوسطى حاء، فمردود عندنا، وإنما ذهب إلى هذا البغداديون وأبو بكر معهم أيضاً.
وسألت أبا علي عن فساده فقال: العلة في فساده أن أصل القلب في الحروف إنما هو فيما تقارب منها، وذلك الدال والطاء والتاء، والذال والظاء والثاء، والهاء والهمزة، والميم والنون، وغير ذلك مما تدانت مخارجه.
فأما الحاء فبعيدة من الثاء، وبينهما تفاوت يمنع من قلب إحداهما إلى أختها. قال: وإنما (حَثْحَثَ) أصل رباعي، و(حثَّثَ) أصل ثلاثي، وليس واحداً منهما من لفظ صاحبه، إلا أن (حثحث) من مضاعف الأربعة، و(حثّث) من مضاعف الثلاثة، فلما تضارعا بالتضعيف الذي فيهما اشتبه على بعض الناس أمرهما، وهذا هو حقيقة مذهبنا، ألا ترى أن أبا العباس قال في قول عنترة(42):
جادَتْ عليه كلّ بكر ثرّةٍ
فتركْنَ كلَّ قرارةٍ كالدرهمِ
ليس (ثرّة) عند النحويين من لفظ: ثرثارة، وإن كانت من معناها، هذا هو الصواب، وهو قول كافة أصحابنا، على أن أبا بكر محمد بن السري قد كان تابع الكوفيين، وقال بقولهم"(43).
فابن جني يرد مذهب البغداديين، ويعلل فساده، ويبين حقيقة مذهب البصريين من خلال كلام أبي العباس المبرد، ثم يشير إلى أن هذا هو قول البصريين، ما خلا أبا بكر محمد بن السري بن السراج الذي تابع الكوفيين، وقال بقولهم.
وبيّن من النص الذي ساقه ابن جني أنه سمى الكوفيين بالبغداديين في الموضع الأول منه، ثم سماهم بالكوفيين في الموضع الثاني، ويبدو أيضاً أن أبا علي يصرح ببصريته بقوله: "وهذا حقيقة مذهبنا". وبقوله: "وهذا هو الصواب، وهو قول كافة أصحابنا".
وكذا سمّى ابن جني أيضاً الكوفيين بالبغداديين، فقد ذكر في الخصائص قول البغداديين: إن الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذكره، نحو: زيدٌ مررتُ به، وأخوك أكرمته، وذكر أن ارتفاعه عندهم إنما هو لأن عائداً عاد عليه، فارتفع بذلك العائد، ثم ذكر أن إسقاط هذا الدليل أن يقال لهم: فنحن نقول: زيدٌ هل ضربته، وأخوكَ متى كلّمته، ومعلوم أن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله"(44).
وفي موضع آخر من الخصائص قال: "ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن علة رفع (زيد) من نحو قولنا: زيد قام أخوه، فقال لك: ارتفع بالابتداء، لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره لقلت: هذا قول الكوفيين"(45).