حروف المعاني بين المتقدمين والمتأخرين المعاصرين
المحور الخامس:
حروف المعاني بين المتقدمين والمتأخرين المعاصرين
لقد ألفت في مجال حروف المعاني مؤلفات عدة، وبطرق ومنهجيات مختلفة، وقد تبدو أحيانا متداخلة أو متعارضة، في وجهة نظرها للمعاني التي تأتي عليها هذه الحروف. كما شكلت أرضية خصبة للاختلاف، بين أطياف مختلفة من العلماء، سواءً أكانوا نحاةً أو بلاغيين أو لغويين أو مفسريين. بالإضافة إلى من حاول مقاربتها، من وجهة نظر بعض المدارس اللسانية المعاصرة كالتداوليات(pragmatique)، وخصوصا في بعدها الاستدلالي. وهذا ما سنحاول أن نسلط الضوء عليه في هذا المحور، متسائلين عن طرق ومناهج المقاربة المعتمدة في مجال حروف المعاني، سواء عند المتقدمين منهم، أو المتأخرين، أو المعاصرين.
من الكتب المتقدمة التي ألفت في حروف المعاني، نجد كتاب سيبويه، الذي أفرد لها بابا خاصاً سماه باب عدة ما عليه الكلم، "وقد خص عددا من الحروف بالدراسة الصوتية والتركيبة والدلالية، في مواضع متفرقة من الكتاب. كما تطرق إلى بعض أبوابها ابن السراج في كتابه (الأصول في النحو)، وتكلم عنها الزجاجي(ت337ه)، في كتابه(الجمل في النحو). وأبو على الفارسي في كتاب (الإيضاح العصدي). وابن جني في(اللمع في العربية). وابن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة). والمبرِّد في كتابه (المقتضب ). والزمخشري في كتابه(المفصل والأنموذج). وابن يعيش في كتابه (شرح المفصل). وابن حاجب في (الإيضاح في شرح المفصل) . بالإضافة إلى كتب تفسير القرآن وإعرابه؛ كما هو الحال عند الفراء في كتابه ( معاني القرآن). والزمخشري في كتابه(الكشاف)، وابن قتيبة في كتابه (تأويل مشكل القرآن). . .
وميزة هذه الكتب، أنها لم تتخصص في دراسة معاني الحروف فقط؛ وإنما كانت تتحدث عنها في أبواب مختلفة، نجد مثلا أن سيبويه يقول في إحدى أبوبه، "حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام وحروف الأمر والنهي "(م1/ص145). أو قوله"باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده(إنَّ وأخواتها)(ص5/131). والأمر نفسه عند باقي النحاة المتقدمين، وكذا المفسرين الذين اهتموا بمعاني القرآن وإعرابه. على اعتبار أن علم "معاني الأدوات علم نشأ في ركاب تفسير القرآن الكريم، حين كان علماء العربية والمفسرون يفصلون المعاني المختلفة للأدوات الواحدة في النصوص القرآنية، ثم شب هذا العلم، وترعرع حتى استقل بميدانه الخاص والمتميز. "
ومن الكتب التي ألفت في حروف المعاني بشكل مستقل، نذكر هاهنا كتاب "معاني الحروف "لأبي الحسن الرماني(ت384)؛ وقسمه إلى حروف أحادية، ثم الثنائية، فالثلاثية والرباعية، وحاول أن يورد جميع المعاني التي يأتي عليه الحرف مشيراً إلى أحكامها الإعرابية، ويستشهد على ما يقوله من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وما يستدل به من الشعر العربي، مبيناً أقوال النحاة واختلافاتهم في تلك المعاني والأحكام، إلاّ أنه وكما أشار أستاذنا أحمد كروم، "لم يستقصي ولم يفصل في معاني الحروف فكان بحثه مشابها لما قبله" .
وصنف"الهروي (ت415) كتاب (الأزهرية في علم حروف). وكان منهجه يصدر عن تسلسل غير منتظم لارتباطه بآراء بعض النحاة، فلم يلزم منهجا واضحا ومتسقا في عرض موضوعه، فقد خلط بين الثنائيات والثلاثيات من الحروف، وبينها وبين الرباعيات والأحاديات أيضا، وأدخل فيه بعض الأسماء والأفعال وهذا لا يتسق مع عنوان الكتاب" . أما الزجاجي(ت337)في كتابه اللامات، فهو يمثل رغبة النحويين في جميع الأحكام التي تتعلق بحرف معين وذلك عن طريق فصل ما تناثر من هذه الأحكام عن الكتب العامة وضمَّها في كتاب خاص.
كما صنف المالقي (ت702) كتابه، "رصف المباني في شرح حروف المعاني"، ورتبه على حسب الترتيب المعتمد في المعجم، لكي يمتاز بالبساطة، ويسهل على القارئ فهمه والبحث فيه. وهذا ما يتضح في قوله: "ونضمته على ترتيب حروف المعجم، ليكون في التأليف أنبل وعلى تفهمه أسهل وذكرتُ. . . منها على ما هو عليه في النطق من حرف واحد وأزيد، حتى انتهيت إلى آخر حرف فيه، وعلى الترتيب المذكور أتبعتُ أول حرف منه-إذا كان مركبا-ما يليه، من ذلك الترتيب، وما كان ناقصا(من حروف المعجم)، وما كان مركباً نبهتُ عليه ب غُفْل" .
ويبن المالقي غرضهُ من تأليف هذا الكتاب فقال:"يتأتى في مقصودين: الأول في الكلام في حروف المعاني على الجملة، والثاني في الكلام فيها على التفصيل". لقد كانت محاولة المالقي تتغيى الإحاطة والشمول، وهذا ما أكد عليه مححق كتابه الخراط بقوله:"إن المالقي أراد أن يكون أكثر تركيزاً في بحته فاختص بالحروف، وبحثها على نهج شامل لجميع حروف العربية، فأهمل بذلك الأسماء وتركها لكتب أخرى" .
كما ألف المرادي بدر الدين بن القاسم الأسفوي المغربي (ت749ه) كتابه (الجنى الداني في حروف المعاني)، وهو كتاب يشتمل على مقدمة وخمسة أبواب. حيث خصص فيه المرادي بابا للأحادي من الحروف، وبابا للثنائي منها وبابا للثلاثي، وبابا للرباعي ثم الخماسي. "وكان تركيزه على معاني الحروف واضحا ومتسلسلا، فلم يورد من غير الحروف سوى
عسى وليس ومتى وأيمن وبعض ضمائر) كما لم يسهب الكلام فيها، وذلك لأن غرضه الإلمام بالأدوات من حيت معانيها، ودورها في سياق الكلام" .
"وبعد ذلك ألف ابن هشام الأنصاري (ت761ه)، كتابه(مغني اللبيب عن كتب الأعاريب )وقسمه إلى قسمين كبيرين خصص الأول للمفردات، والثاني للجمل وأشباه الجمل، وختم الكتاب بأمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها. وقد شمل باب حروف المعاني، والمفردات، ما يزيد على نصف الكتاب، الشيء الذي جعله من أغنى مصادر هذا الموضوع" .
ومن الكتب المعاصرة المؤلفة في هذا المجال، نجد كتاب "حروف المعاني بين الأصالة والحداثة للدكتور حسن عباس، في محاولة منه إثبات أصالة الحرف العربي التي تتجلى في خصائصه، ومعانيه الفطرية، ولقد كتب في نهجين اثنين: الأول بالعودة إلى جذور كل من الحرف العربي والإنسان العربي في الطبيعة والتاريخ والحس، والنفس، والمجتمع؛ في محاولة مقاربة الحرف العربي بالشخصية العربية، أما النهج الثاني فقد حاول فيه تثبيت توافق خصائص الحروف العربية مع معانيها الفطرية، على واقع المجامع اللغوية، كما أشار في مقدمة كتابه، وقسم كتابه إلى قسمين، القسم الأول تحدث فيه عن حروف المعاني وأصول استعمالاتها.
وهي في الحقيقة نظرة جديدة، تحاول سبر أغوار النفس العربية، عن طريق الحرف العربي، في محاولة ربط الرمز بالدلالة في بعدها الوجودي.
وألف أستاذنا أحمد كروم، كتابا عَنْونَهُ بــــ "الاستدلال في معاني الحروف"، ويعد من الكتب المعاصرة في هذا المجال، وذلك من خلال منهج الطرح لهذا الموضوع، حيث حاول وكما يقول عن نفسه أن يثير "أهم الجوانب القديمة والحديثة، في إطار الوصف العام والجرد للدراسات الأصولية الاستدلالية " . لذلك حاول "المزاوجة بين اللغة والأصول، في هذا الموضوع، لما يظهر من عناية القدامى بالمجهود الاستنباطي لاستخراج دلالات اللفظ ومعانيه من النص القرآني" .
لذلك فقد حاول جاهدا التركيز على أهم الظواهر التي يمثلها معنى الحرف، من خلال المواضيع التي يكون له دور فيها. كما قسم كتابه هذا إلى ثلاثة أبواب، الباب الأول حاول فيه الإحاطة بالإطار العام لمادة الحروف، وضمنها حروف المعاني وما تثيره من قضايا متميزة في المجلين اللغوي والأصولي، أما الباب الثاني فحاول فيه الوقوف عند "الاستدلال بالحروف بين ظواهر النحو وبيان الأصول، لإبراز علاقة معاني الحروف بالغير البياني في مواضيع نحوية أصولية، أخيرا الباب الثالث حاول فيه دراسة معاني الحروف في ظل النظرية التداولية في بعدها الاستدلالي.
شكل كروم بهذا نقلة نوعية في مجال حروف المعاني، حيث ركز على المعنى في سياق استعماله في محاولة البحث عن البعد الاستدلالي. وهذا من طبيعة الحال نابع من إيمانه بأن الكلمة تستفاد من التركيب وتضام.
وجدير بتدوين هاهنا، "أن أول كتاب جامع في هذا الموضوع، كان على يد محمد ابن جعفر التميمي المعروف بالقزاز، بأمر من القفطي للقزاز بتأليف كتاب يجمع فيه سائر الحروف التي ذكر النحويون، أن الكلام كلمة واسم وفعل وحرف جاء لمعنى" . إلا أن هناك من يذهب إلى أن أبا إسحاق الزجاجي، هو أول من ألف في هذا العلم باعتبار وفاته التي كانت سنة 337ه، قبل تأليف القزاز [الذي توفي سنة 412ه] وأن الزجاجي ألف في هذا الفن كتابه المشهور (حروف المعاني والأدوات)" . بالنظر إلى الفرق الزمني بين القزاز والزجاجي، نرجح بأن الزجاجي أول من كتب في معاني الحروف بشكل جامع، وإن كان من الصعوبة بمكان الحسم في هذه المسألة، لأن المؤلفات التي وضعت في هذا الموضوع، تتشابه في مناهجها، وتتداخل في معطيتها، مما لا يترك الشك في نقل بعضهم عن بعض أو أخذهم من نفس المصدر، وهو الأمر نفسه الذي وقع بين عالمين جليلين هما أبو القاسم المرادي، وابن هشام الأنصاري .
إلى جانب هذه الكتب المتخصصة في معاني الحروف، هناك كتب أخرى ذكرت في المصادر التاريخية، ولم يرى لها وجود بسبب الفقدان أو التلف، ككتاب (معاني الحروف وأقسامها) لأبي القاسم حسين ابن الوليد ابن العريف (ت390ه). ذكر في فهرسات ابن خير الإشبيلي (ج3/32)، وكتاب (معاني الحروف) لعبد الجليل بن فيروزبن الحسن الغزنوي النحوي، ذكره السيوطي في البُغْيَة(ج2/13) و(شرح معاني الحروف ) لعلي بن فضال بن علي المجاشعي (ت419ه)، ذكره ياقوت في معجم الأدباء (ج14/92)، وقد من الله على كتاب (مصابيح المعاني في حروف المعاني)، لمحمد بن على بن ابراهيم بن الخطيب الموزعي، المعروف ببن نور الدين (ت825ه)، بأن يرى النور محققا من طرف عائض بن نافع عام1993 بالمدينة المنورة
. لقد اهتم علماؤنا القدماء بحروف المعاني؛ وهذا نابع من إيمانهم بأن لها دور في استنباط المعنى من الكلام، لذلك عدّها الإمام السيوطي من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر بقوله. "ومعرفة ذلك من المهمات المطلوبة لاختلاف مواقعها ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها" .