أسئلة الحداثة والتّراث - د.علي عقلة عرسان
ما يكون في الحداثة ومنها اليوم قد يصبح، مع الزمن، في التراث ومنه، وما يشكل قوام التراث يكون جذراً لساق وأغصان تورق عليها الحداثة، فلماذا يقوم الرفض أحياناً بين الحداثة والتراث؟! وهل يمكن أن يؤدي ذلك الرفض إلى عطالة في أداء النسغ الدائب السريان بين جذر وساق وأوراق، بين تراث ومعاصرة وحداثة؟!
أطرح السؤال وأنا مقتنع بضرورة التفريق بين حداثة وحداثة، بين فوضوية تدميرية، ضائعة أو ترمي إلى التضييع، وبين بحث جاد وشوق متوثب إلى الكشف وجلاء الرؤى وارتياد العوالم البكر، بين محتطب بليل تتخطفه نوازع شتى وتقوده يداه وقدماه الغارقتان في الظلام عبر مهاوي الظلام، فيسحق الزهر ويدمر الثمر أحياناً، وبين سار على ضوء بصيرته، ينير قلبه لعينيه الطريق، وتتقرى أنامله بساط الكشف على نور البصيرة، فيتدفق بين يديه نهر الإبداع الذي يتواصل ماؤه مع بحر التراث.
أطرح السؤال وأنا أفرق تفريقاً دقيقاً بين حداثة عمياء تحركها حماسة هوجاء، ولا تملك من أدواتها ومسالكها شيئاً، وقد تدفعها إلى ذلك دوافع تنطوي على الإغواء إلى الإيقاع بالثقافة والإبداع بأيدي من ينتمون لهما بينما المحرك معاد أو دخيل، وبين حداثة تملك أدواتها وتدرك أهدافها وتعرف مسالكها وكيف تصل إلى ما تريد مع الحفاظ على الانتماء والاتصال، وتنبع من حب الإنسان للتجديد، ورؤية في الأعماق تسكن قلوب المبدعين وتوجههم في حقول الإنتاج سعياً وراء الإغناء والاغتناء.
كما أطرح السؤال على أرضية الإيمان بضرورة التجديد، الذي هو صراط الحداثة الحقة، وبأهميته سواء سمي حداثة أم لم يسم، وعلى أرضية الاقتناع التام بأن الإنسان، في كل عصر ومكان، لا بد له من أن يكون ابن بيئته الثقافية، وخصوصيته القومية، وهو يسعى ليؤكد ذاته ويقدم للآخرين مكتشفاته، من خلال الخروج على المألوف خروجاً واعياً لأهدافه وغاياته، يرمي إلى البناء وإلى ترك بصمة في مجالات ذلك المألوف تزينه أو تحركه نحو ما يغنيه وما يزيده فعالية وجمالاً وتأثيراً وحيوية، ونحو ما يثري قدراته على إغناء الناس والحياة والإبداع الإنساني.
وطرحي لسؤال التراث والحداثة نابع من شعوري بوجود هوة بينهما وقيام أزمة ثقة وأزمة تواصل واعتراف متبادل بين ممثلي كل فريق- على تفاوت فيما بينهم- وتزايد عثرات في طريق التفاهم والتعاون والتكامل، يؤدي إلى تضخمها وتنكر بعض ممثلي كل فريق للفريق الآخر، ورفضهما لاستقرار معيار بحكم الأمور.
وعلى الرغم من أن جسر اللقاء متحقق في الاتفاق حول شرعية التجديد ومشروعيته، إلا أن لكل فريق نظرته لمفهوم التجديد ومداه وحدوده، ولكيفية الوصول إليه وتحقيق أهدافه.
فالحداثي يصل أحياناً إلى رفض كل معيار ومفهوم مستقر، ويرتمي في أحضان التمرد المطلق حتى ليصل في حالات إلى فوضى التدمير مأخوذاً بالاحتجاج على القيود منطلقاً على أجنحة ترفض تقييد الحرية، والتراثي قد يصل إلى حدود رفض الخروج على أبسط تفاصيل القواعد والمفاهيم المستقرة. ويستمر الأداء في الاتجاهين دون الالتفات إلى حقيقة وجود جسر التواصل المأمون القائم في التجديد المعترف به، والذي ينضح به تاريخ الأدب.
ففي تاريخ الأدب العربي مراحل، كل من أسس مرحلة أو دفع باتجاه تأسيسها كان مجدداً من جهة وخارجاً على ما أسسه السابقون إلى حد الاتهام له في بعض الحالات من جهة أخرى، وربما كان خروجه ذاك "حداثياً" بالمعنى السلبي أو الإيجابي للكلمة، حسب تداول المصطلح ومدلولاته اليوم، بالنسبة لشرائح من المهتمين والمتلقين في ذلك الزمان.
فالشعر العربي في العصر الأموي، مثلاً، فيه خروج على ما تآلف عليه شعراء الجاهلية ونقاد الشعر ومتلقوه في ذلك الزمان، وفي العباسي خروج على الأموي وعلى رصانة الشعر وأغراضه في بعض الحالات والأزمنة، وفي الشعر الأندلسي "الموشحات مثلاً" خروج على بعض معايير الشعر العربي، وقس على ذلك ما شئت أن تقيس، حتى تصل إلى الشعر الحر، أو شعر التفعيلة وإلى ما يسمى "قصيدة النثر" وضروب أخرى من الإنتاج الذي يلصق بالأدب العربي اليوم.
وعليه فإن سؤال الحداثة والتراث، سؤال يكاد يكون قديماً حديثاً في آن معاً، إذا ما حملنا كلمة الحداثة على ما فيها من تجديد أو خروج على المألوف، ولكن حداثة اليوم، من بعض الوجوه والمسارب تأخذ على عاتقها التدمير وإشاعة الفوضى، ويخرج قصار القامة ممن يسيرون في تظاهراتها على كل شيء، حتى على سلامة اللغة وقواعدها، وبالتالي لا يملك بعضهم أدوات الصنعة ولا يحسن استخدامها إذا ما وضعت بين يديه، فضلاً عن عجزه الظاهر عن استخدام المواد التي تكوِّن الإبداع أو يتكون منها الإبداع، فكيف يصل إلى التشكيل الفني المتفوق، والتكوين والتلوين والموسقة العذبة، وإلى السحر الذي يشيعه في النفس توافق سحر الماء وسحر الإناء، سحر المضمون والشكل، وتناغم إيقاع عميق الغور بين النص والمتلقي فتكون متعة التلقي وشرارة التغيير العميق في نفس المتلقي، وبالتالي أداء الوظائف العامة للأدب والإبداع؟!!
يقول حداثيُّ اليوم: إنني أكتب لأجيال قادمة يصعب على من يعيشون في الماضي ويحيطون أنفسهم بأسواره أن يتعرف على احتياجاتها وتطلعاتها، وإنني أعيش حالة خاصة في عصر متطور يفوق تقدمه كل توقع ولذلك فإنني لا ألزم نفسي بأي قيد وأجد أن انطلاقتي ينبغي ألا تحكم بشيء، وحتى بعدم فهم المعاصرين لما أقول.
وحين يواجه ذلك القائل بإمكانية ألا يكون لما ينتج أية قيمة في المستقبل وربما في الحاضر، يصعّر خده ويمشي في الأرض مرحاً غير آبه بما سيكون.
ومسار التراث يطرح أمامه حقائق منها أن في التراث الأدبي، الذي يشكل جذر الأدب ومنهله وقوامه العام ومخزونه الحيوي الهائل، إنتاجاً تم تخزينه في مخابئه أكله الغبار وتداولته الأقدام، ونسيه الخلق، ولم يعد له تأثير أو حضور، وربما ولد أصلاً دون حيوية أو تأثير أو حضور، وصار شيئاً مما يتراكم على عتبات الإبداع ويسد الطريق إليه وعليه في بعض الفترات، ولا شك في أن ذلك عديم التأثير في مجرى النسغ الحي المتواصل بين قديم وجديد، وربما هو عديم القيمة، فهل يصح أن يكون ذلك عنواناً للأدب وللتراث، من وجهة نظر الحداثيين الذين ينعون على التراث احتواءه بعض ما لا يهضم ولا يفهم ولا يصح تسويغه أو تسويقه؟!