أسس التحليل البلاغي
((هذه الأسس منقولة من كتاب "التحليل البلاغي بين النظرية والتطبيق" للدكتور/علي عبد الحميد عيسى مطبعة السلاموني 1425 هـ - 2004 م طبعة أولى))
إن تحليل أي نص لابد له من مقومات يقوم عليها هذا التحليل , بحيث إذا أغفل واحد من هذه المقومات أدى إلى عدم فهم النص أصلا , أو فهمه فهما خاطئا , أو فهما ناقصا غير مكتمل.
والأسس العامة لتحليل النصوص مكتملة ومترابطة , لا يجوز أخذ بعضها وإهمال البعض الآخر , إلا أنه يمكنه أن يقدم بعضها على بعض وفق طبيعة النص وما يمليه عليه , فليس تسلسلها قاطعا, ولكنها تبدأ من جذور النص وأعماقه وهو اعتقاد صاحبه وعاداته التي أثرت في قوله . . . وختمت بالعوامل الخارجة عنه والتي قد يغفلها الكثير في النظر إلى النص لما قد يتوهم منها بعدها عن مجال التحليل البلاغي . . .
كما أن هذه الأسس ليست جامدة , بل هي خاضعة لعامل الذوق الفردي للكاتب , ومن ثم فإنها قابلة للزيادة أو النقص حسبما يقتضيه طبيعة النص.
وهذه الأسس والضوابط يمكن إجمالها فيما يلي :
1- فقه العادات الاجتماعية والاعتقادات التي انبنى عليها القول.
2- معرفة سنن العرب في نظمها وطريقتها في كلامها.
3- معرفة الأحوال النفسية التي أحاطت بالنص.
4- فقه السياق الكلي والجزئي للنص .
5- التناسب بين ألفاظ النص وجمله ومقاطعه.
6- مراعاة دقة الكلمة ومدى دلالتها على الغرض المراد.
7- تجلية المقام والإحاطة به.
8- المقارنة بين ما عليه النظم وما يحتمله في تحقيق الغرض المراد.
9- النظر إلى العوامل الخارجية .
أولا : فقه العادات الاجتماعية والاعتقادات التي بني عليها القول :
هناك الكثير من النصوص لا تبنى على الواقع , بل على الاعتقاد , فإذا ذهبتَ بها إلى مراعاة الواقع خرجت عن المقصود من الكلام , ولم ترَ وجهها صحيحا لتحليل النص , وذلك أمر مركوز في الطباع عند أولي الألباب.
وذلك أن أساليب البيان تصاغ على وفق ما يعتقده الناس لا على ما يقرره الواقع ويثبته العلم , وهذا تجده واقعا في الذكر الحكيم , تجد ذلك في قوله تعالى: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)(الأحزاب/10) فهذه كناية عن شدة الخوف , وهي مبنية على ما كان يعتقد القوم من أن الخائف يتقلص قلبه ويجتمع ويلتصق بالحنجرة , وتنتفخ رئته من شدة ما يجد , وإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب بارتفاعها . . . فبلوغ القلوب الحناجر من لوازم هذه الأحوال ولذ وقع كناية عنها ...
فالواقع والطب يقرران أن القلب لا يتحرك من مكانه , فضلا عن أنه يتصاعد حتى يبلغ الحنجرة , ولكن هذه الكناية بنيت على ما يعتقده القوم .
ولهذا فإذا لم يكن عندك بصر باعتقادهم في قولهم لا يتأتى لك إدراك وجه كلامهم , بل ربما تحمله على غير وجهه . . . تدبر قول عروة بن الورد :
فإني وإن عشَّرتُ من خشية الردَّى نهاق حمار إنَّني لجزوع
فإنك إذا لم تدرك العادة والاعتقاد الذي بني عليه عروة تشبيهه لا ترى وجها للتشبيه , بل ربما عبته , ولكن إذا علمت العادة والاعتقاد الذي بنى عليه وهو أن الرجل في الجاهلية كان إذا دخل أرضا موبَئَة وضع يده على قفاه ونهق عشر مرات نهاق الحمير حتى ينجو من وبائها ، رأيت وجه التشبيه وحسنه . . . وأنه مصور لحال نفسه وقلق فؤاده أتم تصوير وأبلغه . . .
ومن عادات العرب أن الحرَّة لا تسْفِر عن وجهها صونا لها وحفظا , وإنما تكشف الإماء وجوههن لعدم صيانتهن . . . ولكن في وقت الشدة قد يفعلن فعل الإماء حتى يأمنَّ السباء .. ومن هنا قال الشاعر:
ونسوتكم في الروع باد وجوهها يُخلن إماء والإماء حرائر
فتشبيه نسوتهم بالإماء – في وقت الروع – إنما جاء من عادتهم في كشف الإماء وجوهها , فلدهشتهم أو خوفهم من النساء تشبهن بهن .
وإنما قال ذلك لأنهم كانوا يقصدون بسبي من يسبون من النساء إلحاق العار , لا اغتنام الغذاء والمال , ولما كان الأسر على هذا فالحرة كانت في مثل ذلك الوقت تتشبه بالأَمة يزهد في سبيها . . . .
ثانيا : معرفة سنن العرب في نظمها وطريقتها في كلامها:
العرب لها سنن معروفة وطرائق مألوفة في نظمها , حيث صارت هذه السنن كالعادة عندهم , فاطَّرَدَ عليها كلامهم ؛ لاتفاقهم على حسنها وحلاوة نظمها . . . فجاء نظمهم على وتيرة واحدة عليها . . .
وهذا الاطراد في كلام العرب له مغزى لطيف , ومذاق بديع , فإنك ترى به النظم كاشفًا عما في نفس المنشئ , مبينا عن الغرض المراد منه , وتجده كأنه يكرر لك اللفظ وهو يعطيك فائدة أخرى ...
ومن ذلك ما ذكرناه من اطراد حذف المسند إليه في سياق القطع والاستئناف لقصد المدح أو الذم . . .
وكذا حذف المسند إليه في ذكر الديار والأطلال.
ومن ذلك أيضا تقديم (( مثل )) و (( غير )) إذا أريد بها الكناية , كما في قول المتنبي :
مثلك يثني المزن عن صوبه ويسترد الدمع عن غربه
وقول أبي تمام :
وغيري يأكل المعروف سحتا وتشحب عنده بيض الأيادي
والذي ينظر في كلام النقاد يجد أنهم ينبهون على أن سنة كل طائفة في كلامها تخالف غيرها , فتجد طريقة أرباب الهوى والحكام على مدعي العشق ... يجري كلامهم على سنن إظهار شدة العشق , و ومكابدة الصبابة , وأن تكون لذته في الهوى , وأن يكون لتلك البسطة في الأمر والتمكن من التصريف فيما يسوءه أو يسره . . .
وعلى تلك السنة بنو كلامهم , فلا تَعرف أن الأمر للتسوية قول كثير عزة :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
ما لم تعرف سنـتهم في الحب , وعدم تغير الأمر عندهم بالإساءة أو الإحسان , وتمكن الحب منه , وأن لذته فيه , سواء ساءه ذلك أو سره . . .
كذلك تجد النقاد يذكرون عادة الشعراء في افتتاح الرثاء والمدح , ... فيذكرون أنه ليس من عادتهم و سننهم أن يقدموا قبل الرثاء نسيبا , كما يصنعون ذلك في المدح والهجاء . .
ويعللون ذلك بأن الأخذ في الرثاء يجب أن يكون مشغولا عن النسيب بما هو فيه من الحسرة والألم والاهتمام بالمصيبة ...
وقالوا : لا نعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة في رثاء أخيه عبدالله :
أرثَّ جديد الحبل من أم معبد بعاقبة وأخلفت كل موعد
وبانت ولم أحمد إليك جوراها ولم ترجُ فينا ردة اليوم أو غد
وقد بدأها بما يلائم الرثاء من ذكر البين وقطع العهد , وأنه لن يرجع إليها . . . وهذا يتلاقى مع الرثاء وما فيه من القطع وعدم التلاقي . . .
وهكذا إذا نظرت إلى القرآن الكريم _ وهو في أعلى مراتب الفصاحة_ وجدت أنه يسلك طريقة معينة في التعبير , فمثلا في سياق الحديث عن الرعب عند الكفار يتخذ طريقا يختلف عن الرعب عند اليهود. . .
فتجد (( قذف الرعب )) خاصا باليهود , وهذا يتلاقى مع حال اليهود وشدة خوفهم , وقد جاء ذلك في موضعين (وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)(الأحزاب/26) ، وقوله: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ(2))(الحشر) وقذف الرعب فيه من القوة والشدة ما لا يوجد في مجرد الإلقاء , وهذا مناسب لحال اليهود. . .
بينما يأتي التعبير مع الكفار والمشركين بالإلقاء وقد جاء أيضا في موضعين : قوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)(آل عمران/151) ثم قال: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(12))(الأنفال)
فإلقاء الرعب أقل من قذفه في الدلالة على معنى القهر والإذلال ؛ لأن حال المشركين في قتالهم للمؤمنين مكاشفة دال على ذلك ، بخلاف حال اليهود وتحصنهم في حصونهم لفرط جبنهم وشدة فزعهم .. .. ..
(ينظر : من أسرار التعبير القرآني دراسة تحليلية لسورة الأحزاب 217 , 218 )
ثالثا : معرفة الأحوال النفسية التي أحاطت بالنص :
من المسلم به أن معرفة نفس المنشئ والمخاطب ذو أهمية جليلة في فقه النص وفهمه ؛ إذ يتوقف عليه فهم مراميه ومقاصده . . . ومن ثم تحديد مسار نظمه وبناء تراكيبه , فالفرح الطروب يختلف في نظمه عن الباكي الحزين , حتى وإن اقتضى أدب الدرس اشتراكهما في غرض واحد .. لمخاطب واحد . . .
فمثلا شعر المتنبي تجده متلائما مع نفس المتنبي العالية التي تُصغِّر كثيرا من الأشياء حولها , إذ هو يرى نفسه وقلبه من الملوك , وقد صرح بذلك في قوله :
وفؤادي من الملوك وإن كا ن لساني يُرى من الشعراء
فهذه عقيدته التي توشك أن تكون مفتاح نفسه وشعره ... ومن ثم بنى شعره على مراعاة ذلك , فمن نظر إلى شعر المتنبي دون أن يضع نصب عينيه ذلك الأمر لا يفهم شعر المتنبي على وجهه الصحيح . . .
ولذلك تجد المتنبي مولعا بالتصغير في شعره , لا يقنع منه بالقليل , ولا ملامة عليه في ذلك إنما هي عادة صارت كالطبع , وهذا ملائم لحال نفسه التي تشعر بالعظمة , وعلو الهمة والقدر , ومن ثم فهي تستصغر الأشياء دونها . . .
كما تجد عنده الفخر الطاغي , الذي يدل على النفس المستعلية , التي تطلب لشرفها ومكانتها , وأن الذي يبعد عنها هو الخاسر النادم . . .
انظر إلى قوله :
أنا الذي نظرَ الأعمَى إلى أدبِي وأسْمَعَتْ كَلِماتِي مَن بِهِ صَمَمُ
أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شَوارِدِها ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويَختَصِمُ
كَمْ تَطْلُبوُنَ لَنا عَيْـبًا فيُعجِزُكم ويَكْرَهُ الله ما تأتُونَ والكَرَمُ
ما أبعَدَ العَيْبَ والنُقْصانَ عَنْ شَرَفِي أنا الثُرَيَّا وذَانِ الشَيبُ والهَرَمُ
لَئِن تَرَكْنَ ضُمَيْرًا عَنْ مَيَامِنِنَا لَيَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعْتُهُمْ نَدَمُ
إذا تَرَحَّلْتَ عن قَومٍ وقد قَدَرُوا أن لا تُفَارِقَهم فالراحِلُونَ هُمُ
فانظر إلى هذا الفخر الطاغي , وما فيه من نفس مستعلية قوية , هي المطلوبة التي يندم ويخسر من فارقها أو ابتعد عنها...
وهكذا إذا نظرت _ مثلا _ في شعر الفرزدق تجد أن مدحه للأمويين يختلف عن مدحه للعلويين , ولذلك تجد التعقيد قد بلغ غايته في مدحه لخال هشام ابن عبدالملك في قوله :
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
فهذا التعقيد يتلاقى مع نفسية الفرزدق التي لا تطاوعه في ولائه لبني أمية ...
- تجد هذا ظاهرا إذا قارنته بمدائحه للعلويين , انظر إلى قوله في مدح لعلي زين العابدين :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاءه نعم
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء ويغضي من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
فمدحه الأول فيه التواء و تعقيد يشي بالتواء نفس الفرزدق واستكراه نفسه على المدح . . . والثاني يدل على طواعية نفس وسماحة قلب , لذا جاء نظمه على ما ترى ..
وإذا نظرت في القرآن الكريم تجد مراعاة الأحوال النفسية ظاهرة في النظم , ومن ذلك _ مثلا _ إذا استقصيت الحلف في الذكر الحكيم رأيت أكثره من المنافقين ,لأنه نابع من نفس قلقه تتوهم الإنكار وتتوقعه, فتجد مادة (( حلف )) وردت في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة , اختص المنافقون منها بعشر مرات , ومن ذلك قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا)(التوبة/74)، وقوله
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ)(التوبة/62)، وقوله
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى)(التوبة/107).
وقد تجد التأكيد بغير الحلف أيضا دلالة على نفسيتهم القلقة , تدبر قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14))(البقرة)، تجد النظم قد راعى نفس المنافقين في التوكيد والإطلاق , إذ إن أنفسهم لا تساعدهم على التأكيد في جانب المؤمنين , إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك , وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية _ كما يقول الزمخشري _ وصدق رغبة واعتقاد , فلذا جاء خاليا من المؤكدات.
على حين أنهم في مخاطبة إخوانهم قد أكدوا الكلام لأنهم على صدق ووفور نشاط وارتياح للتكلم به , وما قالوا من ذلك فهو رائج عندهم , فيقبل منهم , فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد.