ثانيا : سياقات التقديم والتأخير:
من المعروف أن اللغة العربية لا تشترط حتمية في ترتيب أجزاء الجملة بحيث لا يجوز للمتكلم أن يخرج من هذا الترتيب إلى في القليل النادر ، ومن هنا فإن المتكلم حينما يقدم بعض الأجزاء لا بد وأن يقصد إلى غرض معين من هذا التقديم .
والذي ينظر في كلام العلماء من قبل عبد القاهر يجد أنهم يقصرون الغرض من التقديم على الاهتمام وذلك ظاهر من قول سيبويه : " كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعاً يهمّانهم ويعنيانهم " .
ولكن الإمام عبد القاهر ذكر أن هذا لا يكفي في تعليل التقديم ، لأن الشأن أن يعرف في كل شيء قدم في موضع الكلام من أين كانت تلك العناية ، ولم كان أهم. (ينظر : دلائل الإعجاز 138 ).
ففي كل تقديم ينبغي أن نعرف وجه العناية والاهتمام بالمقدم وما لذي يترتب على تقديمه ، وهل المعنى مع التقديم كالمعنى مع التأخير . أم إن هناك فرقاً بين التقديم والتأخير ؟ وما هو هذا الفرق ؟
ومن هنا ذكر الإمام عبد القاهر السياقات التي يرد فيها تقديم المسند إليه ، منها :
1- ما سبق فيه إنكار منكر :
كقولهم هو يعلم ذلك وإن أنكر ، وهو يعلم أن الكذب فيما قال وإن حلف عليه . ومن ذلك قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ) (آل عمران) ، أي يعلمون كذبهم وينكرون كذبهم كما ينكرون علمهم بكذبهم، لأن الكاذب لا يعترف بكذبه .... والتقديم يقتضي توكيد الحكم .
2- مقام التكذيب و إبطال دعوى مبدع :
كما في قوله تعالى: " وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) )(المائدة) ، فقولهم : (( آمنا )) دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به ، فالمقام مقام تكذيب يقتضي التأكيد إبطالاً لما ادعوه ولذا قدم المسند إليه (( وهم قد خرجوا به )) .
3- فيما القياس فيما مثله ألا يكون :
كقوله تعالى : ((وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20))) (النحل) . وذلك أن عبادتهم للأصنام من دون الله تقتضي أنها تخلق ، إذ المعبود من شأنه أن يكون خالقاً لا مخلوقاً وهم وإن كانوا لا ينكرون أنها مخلوقه . إلا أنهم نزلوا منزلة من ينكر ذلك .فأكد لهم الكلام تنبيهاً إلى خطئهم وضلالهم .
4- إذا كان الخبر غريباً لوقوعه على خلاف العادة
كقولك : البقرة تكلمت ، والجبان يصارع الأسود ...
5- في مقام الوعد والضمان :
كقول الرجل : أنا أعطيك ، أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر ، وذلك من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد ، وفي الوفاء به ، فهو في حاجة إلى التأكيد .
6- في مقام المدح والفخر :
كقولك : هو يعطى الجزيل ، وأنت تقري الضيف ،
ومنه قول الشاعر :
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا نرى الأدب فينا ينـتقر
ويقول آخر :
هما يلبسان المجد أحسن لبسة شحيحان ما استطاعا عليه كلاهما
و إنما احتاج المدح والفخر إلى التوكيد : لأن من شأن المادح والمفتخر أن يلقيا الخبر مؤكداً كلما امتلأت به أنفسهما ، وأن يمنعا السامعين من الشك فيه والارتياب . (ينظر : الدلائل 160 ، 161 ).
7- تقديم مثل وغير إذا أريد بهما الكناية من غير تعريض :
كما في قول الشاعر :
مثلك يثني المزن عن صوبه ويسترد الدمع من غربه
فقد كنى المتنبي عن الممدوح بقوله " مثلك " ولم يرد بمثل شخصاً آخر مماثلاً له، وقد صرح بهذا في نفس القصيدة بقوله :
وَلَمْ أَقُلْ مِثلُكَ أَعْني بِه سِواكَ يا فَرْدًا بِلا مُشْبِه
ومنه قول أبي تمام :
وغيري يأكل المعروف سحتاًَ وتشحب عنده بيض الأيادي
فلم يرد أبو تمام شخصاً آخر مغايراً له هو الذي يصنع ذلك ، بل أراد الكناية عن نفسه ، وأنه لا يفعل ما ذكر ...
* أما تأخير المسند إليه وتقديم المسند فيكون لأغراض بلاغية من أهمها :
1- إفادة القصر:
أي القصر المسند إليه على المسند المقدم كما في قوله تعال : ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) )) (الكافرون)، وقوله : ((إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)))(الغاشية)، وقوله : ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)))(آل عمران).
2- إفادة التشويق إلى ذكر المسند إليه:
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (( منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال )) وقول الشاعر : ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
3- إفادة التفاؤل :
كما في قول الشاعر :
سَعِدَتْ بغرة وجهك الأيام وتزينت ببقائك الأعوام
* تقدم المتعلقات على المسند لأغراض كثيرة منها :
1- قصد الاختصاص :
كما في قوله تعالى : ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)))(الفاتحة) ومنه قول الشاعر:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يُبن مُلك على جهل وإقلال .
2- المحافظة على الفواصل والتنغيم الصوتي :
كما في قوله تعالى: ((خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)))(الحاقة) وقوله : ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5))) (المدثر)
3- كونه محل الإنكار :
كما في قوله تعال : ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ))(الأنعام/164) فمحل الإنكار وهو كون الله بمثابة أن يبتغى ربا ولذا قدم همزة الاستفهام .
4- التوكيد والاهتمام بالمقدم وتقوية الحكم .
كما في قوله تعالى : ((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(10))) (الضحى)
ثالثا : سياقات التعريف والتنكير
من المعلوم أن الكلام يختلف تبعا لاختلاف أركانه من حيث التعريف والتنكير , فقولنا "محمد فائز" بتنكير فائز يختلف عن قولنا "محمد الفائز" بتعريف الفائز لأن الكلام الأول "محمد فائز" تقوله لمن لم يعلم أن فوزا كان لا من محمد ولا من غيره , فتفيده ذلك ابتداءً ....
أما الكلام الثاني "محمد الفائز" تقوله لمن يعرف أن فوزاً كان ، إما من محمد ، وإما من غيره , فتعلمه أنه كان من محمد دون غيره .
وتنكير المسند إليه يأتي لأغراض كثيرة منها :
1- الدلالة على الفردية أو النوعية :
فالدلالة على الفردية أي إن المسند إليه فرد واحد معين من الأفراد التي يطلق عليها مفهوم اللفظ , كما في قولك : جاءني رجل، أي: فرد من أشخاص الرجال ....
أما النوعية فهي الدلالة على أن المسند إليه نوع معين يختلف عما هو متعارف عليه كما في قوله تعالى "وعلى أبصارهم غشاوة" أي غشاوة من نوع معين
وكما في قول الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
أي : دواء خاص يصلح له
2- التعظيم أو التحقير :
كما في قول الشاعر :
لهُ حاجب عن كلّ أمرٍ يشينُهُ و ليس له عن طالب العرف حاجب
فتنكير حاجب الأول للتعظيم وتنكير الحاجب الثاني للتحقير .
3- التقليل أو التكثير :
فالتقليل كما في قوله تعالى ( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ) (الأنبياء/46) ومثال التكثير قوله تعالى ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) )(الأعراف)
وقول الشاعر:
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجلّ من الدهر
وفي السماء نجوم لا عداد لها وليس يكسف إلا الشمس والقمر
4-قصد التمويه والإخفاء :
كما في قولك " أخبرني فلان عنك بكذا ... حتى لا يصيبه أذى أو مكروه
5-كراهة أن ينسب الفعل إلى المخاطب :
وهذا يكثر في مقام المدح والفخر , ومنه قول الشاعر:
إذ سئمت مهنده يمين لطول الحمل بدّله شمالا
الأصل أن يقول : إذا سئمت مهنده يمينه ، ولكنه نكر حتى لا ينسب المثل إلى يد الممدوح...
أما التعريف فإنه يختلف تبعا لاختلاف نوع التعريف :
فيعرف بالضمير لأغراض كثيرة من أشهرها أن يكون الحديث في مقام التكلم أو الخطاب أو الغيبة :
1_ فمقام التكلم يقتضي التعريف بضمير المتكلم كما تقول "أنا فعلت كذا وكذا" ومنه قوله تعالى (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ... (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ... (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14))(طه)
2_ ومقام الخطاب يقتضي التعريف بضمير المخاطب كما في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) (القلم)
3_ وإذا كان المتحدث يتكلم عن غائب فإن ذلك يقتضي ضمير الغائب كما في قوله تعالى: (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)) (الأعراف)
ج
والتعريف بالموصولية يأتي لأغراض كثيرة من أهمها :
1- تنبيه المخاطب على خطئه :
كقول عبده بن الطبيب :
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
2- قصد المدح أو الذم :
كما في قول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أي: بيتا عظيما...
3- تقرير الغرض المسوق له الكلام :
كما في قوله تعالى: ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ)(يوسف/23)، فالغرض هنا هو تقرير نزاهة سيدنا يوسف عليه السلام , وامتناعه عن فعل الفاحشة مع كونه في بيتها وهي متمكنة منه..
4-التفخيم والتهويل :
كما في قوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)) (طه)
- والتعريف بالإشارة يأتي لأغراض كثيرة من أشهرها :
1- تمييز المشار إليه أكمل تمييز :
ومن ذلك قول الشاعر :
هذا أبو الصقر فردٌ في محاسنه من نسل شيبان بين الضّالِ والسُّلَمِ
وقول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
2- قصد التحقير :
كما في قوله تعالى على لسان الكفار : ( أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا(41))(الفرقان) .
وقول الشاعر يحكي قول امرأته:
تقول ودقت نحرها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
3- قصد التعظيم :
كما في قوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(البقرة)
وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83))(القصص).
4- تجسيد المعنويات :
كما في قوله تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ(44))(النور).
ويعرف بالعلمية لأغراض كثيرة من أهمها :
1_ القصد إلى إحضاره باسمه العلم :
كما في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)(البقرة/127)
2_ التبرك والتلذذ بنطق العلم :
كقولك : الله ربي ، ومحمد نبيي، وقول الشاعر :
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر
3_ قصد التفاؤل :
كما في قولك : ( سعد في دارك)
4_ لقصد العموم أو الاستغراق :
كما في قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2))(العصر)
5_ لقصد الإشارة إلى معهود بين المتكلم والمخاطب :
كما في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(الفتح/18) أي : الشجرة المعينة المعهودة..
ويعرف بالإضافة إلى أغراض كثيرة منها :
1_ قصد الإيجاز :
كما في قولك " كتابي مفيد" ومنه قول الشاعر :
هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
2_ أن تكون الإضافة مغنية عن تفصيل متعذر :
كقولك "اتفق أهل الرأي على كذا" فتفصيل أهل الرأي وتعدادهم متعذر .
أو تكون مغنية عن تفصيل تركه أولى كما في قول الشاعر :
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
3_ تعظيم المضاف :
كما في قوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ)(الجن/19)
وقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)(الفرقان/63)
أو المضاف إليه كقولك: "خادمي جاء".