البلاغة والأسلوبية
من المعلوم أن هناك صلة وثيقة بين الأسلوبية الحديثة أو علم الأسلوب وبين البلاغة القديمة , وهذه الصلة التي سوغت لكثير من الدارسين أن يعقدوا أوجها للمقارنة بين البلاغة والأسلوبية والذي ينظر في كلام علماء الأسلوب يجد أن حديثهم في هذا الجانب يدور حول محاور رئيسية هي :
- أوجه الاتفاق بين البلاغة والأسلوبية
- أوجه الاختلاف بين البلاغة والأسلوبية
- أوجه القصور في البلاغة القديمة التي مهدت لأن تحل محلها الدراسات الأسلوبية
أولا : أوجه الاتفاق بين البلاغة والأسلوبية :
هناك الكثير من أوجه الاتفاق بين البلاغة والأسلوبية منها :
1- أن محور البحث في كل منهما هو الأدب , فكما أن موضوع الدراسات البلاغية هو الأدب , فكذا موضوع الدراسات الأسلوبية هو الأدب.
2- أن كلا من البلاغة والأسلوبية تهتم بالقائل والمتلقي والرسالة, فلا يمكن إغفال واحد من الأركان التي يقوم عليها التوصيل .
3- أن كلا من البلاغة والأسلوبية يشترطان أن يوائم المتكلم بين طريقة الصياغة وأقدار السامعين , إذ كل منهما يفترض حضور المتلقي في العملية الإبداعية.
4- أن كلا من البلاغة والأسلوبية تظهر مواطن الجمال والقبح في النص الأدبي , وبالتالي يصدر الحكم عليه بالحسن أو الرداءة بناء على كثرة مواطن الحسن أو قلتها . . .
ثانيا: أوجه الاختلاف بين البلاغة والأسلوبية :
ذكر الدكتور سعد مصلوح في كتابه (( في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية )) عددا من أوجه الاختلاف بين البلاغة والأسلوب منها :
1- أن مادة البلاغة هي الشواهد المتفرقة والأمثلة المجتزأة , فهي بلاغة الشاهد والمثال والجملة المفردة , إذا استثنينا مبحث الفصل والوصل الذي يعالج قواعد الربط بين جملتين. أما الدرس الأسلوبي فلا يأخذ مادته من الشاهد والمثال ,وإنما يعالج نصا أو خطابا أو مجموعة من النصوص يجمعها جامع واحد من مؤلف أو موضوع أو فن أو عصر.
2- علوم البلاغة تعالج الإمكانات التعبيرية في اللغة من جهة قواعدها , أما الدرس الأسلوبي فموضوعه الكلام والأداء.
3- تختص علوم البلاغة بفحص نوع بعينه من الكلام وهو الكلام الأدبي بل وتتجه إلى الجيد والمتميز من الكلام الأدبي , أما الدراسات الأسلوبية فتمتد لتشمل أي جنس من أجناس الكلام , بل ويبحث في النص المحكوم عليه بالرداءة . . .
4- غاية البلاغة تشريعية تعليمية عملية , أما غاية الأسلوبيات فهي بحثية تشخيصية وصفية , أي أن التقويم يأتي سابقا على النظر البلاغي , ولكنه في النظر الأسلوبي لاحق في الأعم الغالب .
5- يغلب على تقسيم علوم البلاغة وترتيب مباحثها وطرق الفحص فيها الطابع التفتيتي . . . في حين تغلب على الأسلوبية تصورات البنية والنسق والعلاقات.. (ينظر : في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة د.سعد مصلوح 67 – 71 )
وهذه الفروق التي ذكرها الدكتور سعد مصلوح وغيرها مما لم أذكره إنما ترجع إلى أن النقاد وعلماء الأسلوب ينظر إلى البلاغة العربية من جانب واحد , وهو الجانب التقعيدي الذي قام به العلامة السكاكى في ((مفتاح العلوم )) حيث ضبط قواعد البلاغة وذكر أقسامها وشواهدها . . .
وهذا الجانب رغم أهميته وفائدته التي لا تُنكر ، إلا أنه وسيلة لا غاية , إذ قد صرح السكاكى في مقدمة كتابه أنه إنما فعل ذلك لأن غرضه هو تعليم بعض الناشئة بعض القواعد التي تعصمهم من الخطأ في أداء المعنى . . .
فهذا الجانب من البلاغة هو جانب تعليمي , وهو يوصل إلى الجانب الأخر من الدرس البلاغي وهو الجانب التطبيقي التحليلي وهذا الجانب هو الذي أغفله العلماء المعاصرون الذين يريدون أن تحل الدراسات الأسلوبية محل الدراسات البلاغية . . .
وعلى ذلك فالبلاغة العربية تشتمل على الجانبين معا : الجانب التعليمي الذي يتمثل في الأسس والقواعد البلاغية التي تعصم القائل من الوقوع في الخطأ في تأدية المعنى .
والجانب التحليلي التطبيقي الذي يتمثل في تطبيق الأسس والقواعد البلاغية على النص الأدبي لإبراز مواطن الحسن أو القبح فيه . . .
هذا بخلاف الدراسات الأسلوبية فهي تهتم بالجانب الثاني فقط وتغفل الجانب الأول . . مع أهميته وعدم الاستغناء عنه , حيث لم تضع الأسس والقواعد التي ينبغي على الأديب اتباعها حتى يخرج كلامه في صورة حسنة بليغة . .
ثالثا: أوجه القصور في البلاغة القديمة :
ذكر الأستاذ الشايب في كتابه الأسلوب أن البلاغة بعلومها الثلاثة (( المعاني والبيان والبديع )) لا تستوعب أصول البلاغة كما يجب أن تكون لتساير الأدب الإنشائي في أساليبه وفنونه
وأن علم البلاغة يجب أن يوضع وضعا جديدا يلائم ما انتهت إليه الحركة الأدبية في ناحيتيها العلمية والإنشائية . . .
وأن علوم البلاغة تدخل كفصول في علم الأسلوب , لا أن تدرس على أنها علوم مستقلة ... (ينظر: الأسلوب 4)
كما ذكر الدكتور محمد عبدالمطلب بعض الأوجه التي تبين قصور البلاغة العربية منها :
1- أن البلاغة معيارية خالصة اعتبر فيها البلاغيون أنفسهم أوصياء على الإبداع الأدبي من خلال توصيات قَنَّنوها وجعلوها سيفا مسلطا على رقاب الأدباء ...
2- أن الدراسات البلاغية أغفلت جوانب مهمة في الأداء الفني كالجوانب النفسية والاجتماعية
3- أن الدراسات البلاغية وقفت عند جزئيات النص , ولم تحاول الوصول إلى بحث العمل الأدبي الكامل
4- أن القواعد البلاغية أصبحت قواعد جافة متحجرة لا تفرق بين طبيعة الجمال في كل لون من ألوان الإبداع شعرا أو نثرا. . (ينظر : البلاغة والأسلوبية 258 , 260 )
كل هذه الأوجه وغيرها – عند كثير من الدارسين ـ جعلتهم يحكمون على البلاغة العربية بالجمود والتخلف , ودعوا إلى أن يحل محلها الدراسات الأسلوبية , وأن علم الأسلوب هو الوريث الشرعي للبلاغة القديمة.
والذي ينظر في هذه الأوجه وغيرها مما ذكره هؤلاء الدارسين يجد أنها مزاعم لا دليل عليها ولا سند لها , بل على العكس من ذلك يجد الناظر في البلاغة العربية أنها تستوعب الدراسات الأسلوبية , وأن البلاغة ذات جانبين ؛ جانب نظري , يتمثل في القواعد , وجانب تطبيقي يتمثل في تحليل النصوص. . .
وأن هؤلاء الدارسين نظروا إلى الجانب الأول فقط . . .
والذي ينظر في كتابي الإمام عبدالقاهر الجرجاني (( دلائل الإعجاز, وأسرار البلاغة )) يجد فيها جمال التحليل , وحسن العرض , وأن البلاغة علم جمالي قادر على استيعاب العمل الأدبي كله . . . وأنها لا تقف عند جزئيات النص كما ادعى هؤلاء الدارسين . . .
كما أن هناك الكثير من الدراسات البلاغية الجيدة التي لا تقف عند جزئيات بعينها في النص الأدبي , وإنما تتناوله كله قديما وحديثا ومن ذلك :
- شرح ديوان الحماسة للمرزوقي
- شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات للأنباري
- إعجاز القرآن للباقلاني
- معلقة زهير في ضوء نظرية النظم د/ أحمد محمد علي
كما أن قولهم : إن البلاغة لم تهتم بالجوانب النفسية و الاجتماعية قول بعيد من الصحة , لأن البلاغيين ينظرون إلى الجوانب النفسية والاجتماعية في تحليل النصوص , كما في تناول الإمام عبدالقاهر لأبيات الخنساء , وكما ستعرف بعد قليل حينما نعرض لأسس التحليل البلاغي . . .