د محمد محمد يونس علي عضو شرف
البلد : ليبيا وبلاد العرب: أوطاني عدد المساهمات : 801 نقاط : 1529 تاريخ التسجيل : 25/12/2009 المهنة : أستاذ اللسانيات المشارك
| موضوع: العربية الباقية خلال العصور الماضية 2010-01-08, 14:49 | |
| تأليف د محمد محمد يونس علي مع الامتزاج والتفاعل الذي حدث بعد الفتوحات الإسلامية بين العرب والأعاجم سكان الدول المفتوحة، فشت ظاهرة اللحن التي بدت إرهاصاتها تاريخيًّا بظهور الإسلام، وجغرافيًّا في الحجاز وغيرها من حواضن الإسلام، ويعزو اللغويون القدامى فشو اللحن إلى هذا الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم، ولئن بدأت هذه الظاهرة بانتهاكات محدودة لقواعد النحو فقد توسعت واستفحلت مع مرور الزمن باستخدام اشتقاقات شاذة، وقياسات غير صحيحة، وتوسع في استخدام الكلمات في معانيها غير الوضعية، وقد أدى ذلك باللغويين المحافظين إلى تبني رقابة مفرطة اتجاه الشعراء، وصل أحيانا إلى نقد شديد لكبارهم، ولم يسلم من هذا النقد حتى شعراء البادية المتقدمون الذين عدوا من الداخلين في الإطار الزماني والمكاني لعصر الاستشهاد، ومن ذلك انتقاد الأصمعي لذي الرمة (وهو آخر الشعراء المحتج بشعرهم-عند المضيّقين للإطار الزماني للاستشهاد- توفي 117هـ) حين استخدم أُدْمانة بدلا من صيغة التأنيث الصحيحة لهذا الجمع، وهي أدماء، وقد بالغ الأصمعي أحيانا في تخطئة هؤلاء الشعراء كما في رفضه لاستخدام زوجة بدلا من زوج.[7]
لقد كان فشو اللحن سببا كافيا لنشوء نهضة لغوية همها الحفاظ على نقاوة اللغة وسلامتها، وليس غريبا أن تكون البصرة والكوفة حاضنتين لهذه النهضة؛ إذ فيهما وفي غيرهما من المدن العراقية من الأعاجم ما حفّز الغيورين على اللغة العربية على القيام بمحاولات جادة لوضع علم يعنى بصون الكلام عن الخطأ، وهو النحو، والغريب في الأمر أن الذين تكفلوا القيام بالأمر معظمهم من الأعاجم. ولعلّ التأمل السريع في أصول النحاة الأوائل، ولاسيما الطبقة الثانية منهم تبرهن على هذه الحقيقة، بل إن أشهر النحاة كسيبويه، والكسائي، والفراء ليسوا من أصل عربي. ومما يدعو إلى الإعجاب بهذه الطائفة من النحاة حرصهم الشديد على أن تكون المادة اللغوية المجموعة لصوغ قواعد النحو مأخوذة من الأعراب، وهذا ما بدا واضحا في إصرار سيبويه على عدم الاستشهاد بغير "العرب الموثوق بعربيتهم" بحسب وصفه.[8]
ولعل من التحولات البارزة في تاريخ اللغة العربية، ولاسيما في مجال النثر تلك النهضة العلمية التي شهدتها الحقبة العباسية، فقد أورث الثراء الثقافي الناشئ عن الاحتكاك بالثقافات الأجنبية كمّا كبيرا من النثر الفني والعلمي، أسهمت في ازدهاره حركة الترجمة التي لقيت دعما سخيا من خلفاء الدولة العباسية. ومن الأسماء المشهورة التي يعود لها الفضل في إتحاف العربية بنماذج من الأدب الأجنبي في القرن الهجري الثاني عبد الله بن المقفع (142هـ)، الذي آلى على نفسه القيام بترجمة عدد من الكتب الفارسية من أهمها وأشهرها كتاب "كليلة ودمنة" الذي اشتمل على قصص رمزية للحيوانات. وربما لا تقتصر أهمية هذا العمل على المضمون القصصي الجديد الذي أدخله ابن المقفع في العربية، بل تعدته إلى الخروج عما ألف في لغة الأدب الإسلامي، والأموي، من اتسامها بالطابع البدوي، وغلبة جزالة اللفظ عليها، وما تبع ذلك من تعقيد في تركيب الجملة. وهكذا استطاع ابن المقفع أن يسهم في عصرنة اللغة باستخدام لغة ميسرة بعيدة عن حوشي الكلام وغريبة. وواكب هذا التطور النثري محاولات تحديثية أخرى في مجال الشعر، تولى أمرها بجرأة غير معهودة الشاعر العباسي المشهور بشار بن برد (167هـ)، فقد آثر قرض الشعر في بحور خفيفة، وبلغة ميسرة تنزع أحيانا إلى استخدام كلمات أو عبارات سوقية مبتذلة.[9] ومما ينسب إليه من الشعر الخفيف:
رباب ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
وليس غريبا أن يتولّى هذا التحديث في نثر العربيّة وشعرها هذان الأديبان الفارسيّان اللذان عرفا بنزعتهما الشعوبيّة، وربما حُفزت محاولاتهما التحديثية –مع ما فيها من إيجابيات- بهذه النزعة لانتهاك النمط البدويّ للغة العربيّة، وربما أضيف إلى ذلك عامل آخر ذكره مايكل زويتلر،[10] وهو عامل التعليم الذي حفّز الأدباء على الخروج على تقليد القدماء.
ومع ذلك استمر العرب في أوائل العصر العباسي في محافظتهم على قوانين العربية في كل مستوياتها الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية، أما المولدون فقد عرف عنهم الخلط بين بعض الأصوات، ولاسيما تلك التي يفرق بينها الإطباق والانفتاح كالسين والصاد، والتاء والطاء، كما عرف عن أهل الكتاب القاطنين في الأقطار المفتوحة خارج جزيرة العرب استخدامهم لغة شعبية لا ترقى في نقاوتها، وأساليبها، وتمسكها بالإعراب، والرتبة، وقواعد المطابقة إلى الفصحى التي يستخدمها المثقفون، وأهل البادية.
وعندما جاء المأمون إلى السلطة في نهاية القرن الثاني الهجري وفي العقدين الأولين من القرن الثالث ازدهرت الحياة الثقافية والعلمية بفضل الدعم الكبير الذي تهيّا للكتاب والعلماء والأدباء من هذا الخليفة المغرم بالثقافة، والأدب. وقد كان للاهتمام الكبير الذي غمر به المترجمين آثار إيجابية قل نظيرها في تاريخ الدول. ومن ذلك التوسع في نقل الفلسفة، والعلوم اليونانية.
كل ذلك أسهم في توسيع معجم العربية، وعزّز قاموسها الاصطلاحي، ووسمها بالطابع العلمي بعد أن غلب عليها الطابع الأدبي منذ قرون مضت، فدخلت بذلك مصطلحات جديدة مثل العرض، والجوهر، وعُرّبت طائفة من الكلمات مثل فلسفة، وتأثر المؤلفون بالمناهج المنطقية والفلسفية، كالسبر والتقسيم، والقياس، ونحو ذلك.
وثمة عامل آخر كان له أثره الواضح في تطوير أساليب الحجاج، والمناظرات، وهو ازدهار المؤلفات الكلامية التي بادر بكتابتها المعتزلة للرد على شبهات الفلاسفة وغيرهم ضد العقائد الإسلامية، ثم تبعهم في ذلك الأشاعرة الذين ردوا على المعتزلة.
ورافق ذلك مزيد من التغيير في اللغة المحكية، فكثرت المخالفات القواعدية في بناء الكلمة والجملة، وزادت الصعوبات النطقية على المستعربين، وقد نقل الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أمثلة كثيرة لما اشتهر في ذلك العصر من لحن عند عامة الشعب. وفي مقابل ذلك كانت هناك محاولات تجديدية في قرض الشعر تصنف في الدراسات اللسانية الحديثة في علم الأسلوبية، ومن ذلك ما اشتهر به أبو تمام حبيب بن أوس (ت 231هـ/846م) من جرأة في استخدام الاستعارة، والمحسنات البديعية.
وفي نهاية القرن الثالث الهجري بدأت الفصحى تفسح المجال للهجات المحلية إلى أن توسع الناس في استعمالها في القرن الرابع، وهو ما وثّقه المقدسي (ت 378هـ/985م) عند حديثه عن وضع العربية في أقطار العالم الإسلامي، ولعله من الغريب أن نعلم من كلامه أنّ أفصح اللهجات آنذاك ما كان سائدا في إيران بفضل العناية الكبيرة بدراسة النحو.[11]
وربما كان من أسباب تدهور الفصحى ميل الناس إلى التمدين، والتحضر الذي كان يقتضي (بحكم أنّ من تولى زمامه في ذلك العصر هم الموالي) التخلص من الطابع البدوي في كل مظاهره، وإن كان ذلك يعني التخلي عن النقاوة والفصاحة اللغوية، بل وصل الأمر إلى عدّ أولئك المتمسكين بالفصحى المعربة في أحاديثهم بالمتفيهقين،[12] بيد أن ذلك لم يكن العامل المهم في الاتجاه نحو تفضيل الحديث بالعامية، بل كان العامل الرئيس في ذلك هو كون الغلبة العِرقية في البلاد الإسلامية من نصيب الأعاجم، فضلا عن ظهور النزعات الشعوبية التي كان بعضها ناشئا عن رغبة من دعاتها في إحياء أمجاد حضاراتهم السابقة للإسلام، وبعضها لا يتعدى كونه ردود أفعال سياسية، واجتماعية، وحضارية، للتميز العرقي العربي في العصر الأموي.
ومع ضعف السيطرة العباسية على مقاليد الأمور في أواخر خلافتهم، وبدء ظهور الحكومات الأسرية المستقلة، زاد النزوع نحو العامية، فتوسعت رقعة استخدامها، تحت تأثير العزلة، والتباعد الجغرافي، وتفشي الأمية، ولعل من أمثلة ذلك ما حدث إبان العصر السلجوقي في الحقبة الواقعة بين القرن الخامس والسابع الهجريين، من صراع بين الفصحى والعامية.
وعلى الرغم من كل ما سبق، ظهرت أنواع جديدة من الأدب أثْرت به اللغة الفصيحة، ومن ذلك أدب المقامات الذي كان من أبرز روّاده الحريري (ت 516هـ). اعتمدت المقامات (التي اتسمت بطابع الهزل) على السرد الوصفي مع استخدام جمل قصيرة غلب عليها السجع والجرس الموسيقي.
وفي العصر الذي تولي فيه المماليك زمام الأمور في مصر في النصف الثاني من القرن السابع ظهرت كتابات استعملت في بعضها اللهجة المحلية، ولاسيما في المستوى المعجمي. وغلب على التأليف طابع التوسّع في كتابة الحواشي والشروح، وسادت الأمية والجهل عند عامة الناس. وقد مهّد ذلك لنشأة ظاهرة غريبة شهدها التاريخ اللغوي للعربية في نهاية القرن الثامن، فيها الكثير من الجرأة، والثورة على التقاليد العربية المحافظة، ومن أهم مظاهر هذه الجرأة استخدام اللهجات المحكية في الكتابة، وقد برز ذلك بوضوح في الكتابات الشعبية لسيرة عنترة، وسيرة بني هلال. واستمر هذا الانحطاط اللغوي في العصر العثماني، الذي تزحزحت فيه مكانة العربية لصالح اللغة التركية، واقتصرت أهميّة العربية على ممارسة الشعائر الدينية، وحافظت إلى حدّ كبير على مكانتها المقدّسة في قلوب الناس دون أن ينعكس ذلك في الجوانب التخاطبيّة والتعليميّة.
|
|