وهي اللغة التي ورد بها الشعر الجاهلي، ويعود ما وصلنا منها مكتوبا إلى حقبة قصيرة قبل الإسلام، ربما لا يتجاوز ثلاثة قرون قبل نزول الوحي، وسميت بالباقية؛ لأنها مازالت حية حتى الآن، ويطلق على هذه اللغة في شكلها البدوي القديم النقي "اللغة الفصيحة" بمعنى اللغة الواضحة الخالصة البيّنة، وهو معنى قريب مما تدلّ عليه pişū الآشورية التي تعني "خالص أو ساطع"، وكذلك paşşīħ الآراميّة التي تعني "ساطع ومشرق".[2] وربما كان هو المعنى المقصود بقوله تعالى: "وهذا لسان عربي مبين".[3] وقد مرّت بمراحل تاريخية مختلفة كان من أبرزها مرحلة التوحّد الذي اتسمت به قبيل الإسلام حين هذبت بتأثير من النفوذ الديني والسياسي للقرشيين، بعد أن كانت متسمة بالتنوع اللهجي، حيث شاعت اللهجة الحجازية في غربي الجزيرة وجنوبها، واللهجة البدوية النجدية في وسط الجزيرة وشرقها. وإذا كان الشعر الجاهلي الذي جمعه رواة اللغة ونحاتها هو الحافظ، والشاهد لهذه اللغة قبل الإسلام، فلا غرو أن كانت العناية بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والأدب العربي خلال العصور أهم عامل لاستمرارها، والمحافظة عليها، علاوة على الأثر الإيجابي الذي تركه القرآن الكريم في توسيع معجمها، وإدخال مصطلحات جديدة ضمن ثروتها اللفظية.
بعد الفتوحات الإسلامية هيمنت اللغة العربية على اللغات واللهجات التي كانت تستعملها شعوب المناطق المفتوحة، ففي الشام مثلا حيث كان الناس يتحدثون الآرامية، والإغريقية، فضلا عن العربية التي شاعت في البوادي كان للعربية قبول كبير زكّاه ابتهاج السكان المحليين بالإسلام، وقد كان لوجود العربية القديم في تلك المناطق، والتقارب بين الخصائص البنيوية، والتاريخية للغتين الآرامية والعربية (الناشئ عن انحدارهما عن فصيلة واحدة هي الفصيلة السامية) أثر فعال في هيمنة العربية على غيرها من اللغات المستعملة في الشام. وفي العراق الذي اقتصر الوجود العربي فيه على القبائل العربية التي سكنت البادية، وكانت السيطرة اللغوية فيه في المدن للآرامية والفارسية البهلوية، بدأت العربية تسود تدريجيا، وتطغى على غيرها من اللغات المحلية إلى أن أصبحت اللغة المسيطرة ليس فقط في البادية، بل في المدن العراقية نفسها. وربما انطبق هذا الأمر جزئيا على إيران، حيث ساعد الوجود العربي قبل الإسلام وبعده على الضفة الإيرانية من الخليج وفي خراسان وقم على احتضان العربية في تلك المناطق. أما في مصر فقد كانت اللغة القبطية هي اللغة التي يتكلمها معظم السكان، وإن كانت الإغريقية مفضلة في الإدارة، علاوة على العربية التي كانت موجودة في سيناء وقنا والصحراء الشرقية وغيرها من المناطق المصرية، وعندما تقبّل المصريون الإسلام، ودخلوا فيه أفواجا توسعت رقعة استخدام العربية، إلى أن أصبحت لها السيادة الكاملة على اللغة القبطية في الأراضي المصرية كافة"حتى تلاشت تماما في القرن السادس".[4] وفي شمال أفريقيا الذي عاشت فيه أغلبية من الأمازيغ (أو البربر كما يحلو لغيرهم أن يسميهم) جنبا إلى جنب مع شعوب عربية هاجرت في حقب مختلفة قبل الإسلام، استطاعت العربية أن تصهر اللغة البربرية في بوتقتها بعد انتقال المهاجرين إلى هناك، وتوالت الهجرات العربية بعد ذلك، وإن احتفظ البرابرة بلهجاتهم المحلية في بعض المناطق، ولاسيما الجبلية منها حتى يومنا هذا.[5] كما فقدت اللغتان اللاتينية التي كانت لغة الإدارة، واليونانية المنافسة لها مكانتهما عند هؤلاء السكان.[6]
ولعل الجدير بالاهتمام عند دراسة العربية وتطورها خلال العصور أن لغويي العربية لم يعيروا اللهجات المحكية اهتماما يذكر، بل كان كل اهتمامهم منصبا على العربية الفصيحة يدفعهم إلى ذلك إعجاب شديد ببلاغتها، وحرص ديني وقومي على المحافظة عليها، وهو ما يحول دون تقديم تصور علمي موثق للخصائص البنيوية لتلك اللهجات المحكية، ناهيك عن وصف دقيق للأنظمة الصوتية والقواعدية والمعجمية لتلك اللهجات. ولذا فسنقتصر في تقديمنا لمحة إلى تطور العربية على اللغة المكتوبة.
لمعرفة المزيد http://takhatub.blogspot.com/2009/06/blog-post_14.html#ixzz0bytQgLoo