تحليق في سماء القصيدة العذرية
عمار زعبل الزريقي
إن الشعر هو الصورة التعبيرية الأولى التي ظهرت في حياة الإنسان منذ العصور الأولى للبشرية، وهذه الأقدمية التي للشعر ترجع إلى أنه كان في تلك العصور ضرورة حيوية وبيولوجية.
لذلك خلق الإنسان وهو بحاجة للفن والإبداع، فينابيع الحياة تجف، أو قد تصير ملحاً أجاجاً، بالطبع عندما يغيب الفن، ويضمحل الجمال، وتتبخر الأشواق، وتوه الإبداع، وينضب الخلق والابتكار من عالمنا الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بأحسن صورة، وزينه بالعقل، فهو للجمال حياته أنى حل أو ارتحل:
إني امرؤ مولع بالحسن اتبعه
لاحظ لي فيه إلا لذة النظر
ونصيب جمالنا كانت القصيدة من دون الأمم، فهي الطريقة الوحيدة التي أهتدى إليها الإنسان بحكم تكوينه البيولوجي والنفسي، للتعبير والتنفيس عن انفعالاته، ومن هنا ارتبطت الانفعالات بالشعر والأفكار بالنثر.
فالقصيدة من قبل الإسلام تمثل كل تقاليد وأعراف المجتمع العربي حينذاك، حيث لم يكن لامسرح ولاملاحم فحياة العربي كانت صحراء وخيمة وقصيدة وامرأة إن وجدت، وإلا كانت حاضرة في الخيال وفي ثنايا القصيدة فالقصيدة العربية هي عشق للجمال بعيدة عن الأدلجة والتأثيرات الأخرى، فهي بسيطة بساطة الصحراء، وعذبة كعذوبة ألحان المطر، ومشعة كأشعة القمر التي تنسدل باستحياء على أرداف الصحراء العربية.
فالقصيدة العربية هي النظم والإيقاع والتشكيل والإبداع والجمال، العقد الذي زين حياتنا منذ القدم وإلى الآن فقد عبرت عن الجاهلي ـ جدنا الأول ـ بأدواته ورؤاه التي أبدع من خلالها، عالمه وسحره الغريب في البراري والوهاد، يترقب للمعشوقة، ويتأهب للإغارة ويصيخ أذنه للنجدة.
وهكذا كانت القصيدة مع الإنسان العربي ترتحل معه في ملكوت السماء المقمرة، وهجير الأرض الملتهبة في زوايا الصحراء المترامية الأطراف لتعبر عنه وعن عالمه، عن أحلامه وطموحاته، هزائمه وانتكاساته حبه وعشقه، ورحيله وراء الأحباب الذين ارتحلوا بحثاً عن الماء والكلأ.
إن الشعر بالطبع له طبيعة مرنة تتشكل بحسب رغبة كل إنسان وفهمه، ولذلك فإننا سنحاول الولوج إلى عالم شعر شغل النقاد العرب على مختلف العصور وهو الشعر العذري، وكيف اكتسبت القصيدة مجداً سيبقى في عالم القصيدة على مختلف العصور.
فالقصيدة العذرية اتسمت ببعض السمات الفنية الخاصة التي تنبع من طبيعة التجربة العاطفية، ومن هذه السمات مايتصل ببناء القصيدة نفسها، ومنها مايتصل بلغتها وبناء عباراتها وصورها الشعرية.
أما بناء القصيدة فقد تحققت له الوحدة الفنية في الموضوع، فالقصيدة العذرية تصور أحاسيس في الحب تعبر عن حالات شعورية متقاربة من الشوق والوجدان والحرمان والذكريات مما تحقق لها من وحدة واضحة في جوها العام.
على أن هذه الوحدة تتفاوت في ترتيب أجزائها وتماسكها من قصيدة إلى أخرى، ومن شاعر إلى آخر، ونلاحظ أنه كلما طالت القصيدة قل هذا التماسك، واختل ذلك الترتيب، وأصبحت الصورة الشعرية جزئيات شعورية لايرتبط بينها إلا طبيعة التجربة العاطفية العامة، وكلما كانت القصيدة أقرب إلى القصر أو إلى شكل المقطوعة زادت وحدتها الشعورية والفنية معاً.
ويرجع ضعف التكامل بين جزئيات القصيدة الواحدة إلى أن هؤلاء الشعراء كانوا يعبرون عن الحب تعبيراً مطلقاً، فالشعر العذري يكاد يخلو من الالتفات إلى الطبيعة كإطار للصورة الشعرية.
فالقصيدة العذرية في أبسط تعريف لها أنها اكتسبت شخصية خاصة بها، لها حيوية ولها فعاليتها وهذا الارتباط بالنسبة للألفاظ التي استخدمت فكانت العلاقات الجديدة التي تتمثل لنا في صور التعبير العذري، واستطاعت أن تشكل الصورة العذرية في القصيدة.
فمثلاً الشاعر العذري عندما يلتفت إلى مظاهر الطبيعة كالليل أو الصباح أو الشمس أو القمر أو الضباء أو الحمائم، فإنه يربطها ربطاً سريعاً بالتجرية العاطفية دون أية محاولة للتفنن في توظيف الطبيعة في التعبير عن تجربته الشعرية.
فالليل والقمر والنجوم والرياح عند الشاعر العذري مجرد رموز سريعة للجمال أو الهموم والأحزان أو الشوق المبرح، وكأن التجربة الفنية العاطفية عندهم منطوية على ذاتها داخل نفس الشاعر وخياله.
وهكذا تصبح القصيدة الطويلة عند هؤلاء الشعراء تعبيراً مجرداً عن معاني الحب الذي تختلط جزئياته بلا ترتيب مقصود، فتصور الحرمان والأشواق، وقد تعرج على البخل، أو الوشاة، أو تتحدث عن أمنيات الشاعر، ثم تعود إلى حيث مابدأت به بحيث لانحس بما يرتبط بينها إلا هذا التصور المجرد المطلق للحب على النحو الذي فرضته طبيعة المجتمع والعصر حينذاك ولكن المقطوعات القصيرة من الشعر العذري تبدو أكثر تماسكاً وأكثر استقصاء للصورة الشعرية، إذ تعبر عن خاطرة واحدة أو حالة نفسية متميزة تكشف عن عاطفة الشوق الملح والوفاء الدائم، ومن هذه الأبيات التي تنسب إلى مجنون بني عامر وتوبة بن الحمير أو قيس بن ذريح، وتصور حالة من الحنين الفريد والقوي الذي يرتبط ببعض مظاهر الطبيعة ورموزها:
رعاة الليل مافعل الصباح
ومافعلت أوائله الملاح
ومابال الذين سبوا فؤادي
أقاموا؟ أم أجد بهم رواح
ومابال النجوم معلقاتٍ
بقلبِّ الصّب، ليس لها براح
كأن القلب حين يقال يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطأة غرها شرك، فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
فلا بالليل نالت ماترجى
ولافي الصبح كان لها براح
فنلاحظ الفطرة والعواطف الصادقة في هذه الصور الفنية التي فيها من الحس المرهف أو الدقة البالغة أو البصيرة الناقدة، فهذه الصور كأنها ومضات تنقدح في خاطر الشاعر ثم تشرق في أبيات قليلة فهم لايحلقون في الخي الكثيراً، وليس هم على مقدرة في ابتداع الصور الشعرية الأكثر عمقاً ودلالة، إنما هي ومضات تعبر عن مستواهم المألوف، وحياتهم البسيطة في قلب الصحراء أو عند مساقط الأمطار وجريان الغيول.
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى
وفاضت له من مقلتي غروب
وماذاك إلا حين أيقنت أنه
يكون بوادٍ أنت فيه قريب
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
ففي هذه المقطوعة صورة فنية جميلة تستهوي كثيراً من الأذواق، لصدقها وعذوبتها وإن كان فيها من المبالغة، وهي صورة نادرة في شعر العذريين، وذلك لقوة العاطفة وإيحاء الألفاظ المرتبطة بالمشاعر والانفعالات فالفاظ الشعراء العذريين فيها من اللوعة والحرارة وصدق المشاعر، وقوة العاطفة مايجعل صورهم الشعرية كأنها صور جديدة غير مألوفة في الشعر القديم.
فهذه هي الصورة الغالبة على القصيدة العذرية، الظاهرة الأدبية المتميزة في الشعر العربي، التي تنسب إلى طائفة من الشعراء يشتركون في سمات فنية ونفسية خاصة مما أوجد كل ذلك الإشعاع في صورهم الشعرية وإن كنا نجد لها جذوراً عند شعراء صدر الإسلام والشعراء الجاهليين.