بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة النبوية مفهوم يتجاوز حدود الزمان إلى التوسع في المكان وإصلاح الإنسان

القراءة في المفهوم.
إن لضبط المفاهيم والمصطلحات وربطها بأحداثها ودلالاتها في الخلفية الاجتماعية للأمة أهمية كبرى في تحصين الهوية والثقافة، وبناء الحضارة وفهم الواقع واستشراف المستقبل، خاصة في هذا العصر الذي أصبحنا نعيش فيه فوضى في استعمال المفاهيم والمصطلحات، مما أدى إلى تجريد الكثير منها من حمولتها الثقافية والدينية وأضحت بلا معنى ولا فائدة
وبناء على ذلك فإن مفهوم الهجرة النبوية الذي يحمل دلالات دينية وثقافية وحضارية تلعب دورا محوريا في التربية والتزكية والتوجيه والإصلاح والتغير فإنه يستوجب الدراسة والتحليل وحسن الفهم والتنزيل.
ومن ثم فإن مفهوم الهجرة النبوية ليس مصطلحا جغرافيا يعني الانتقال من مكان إلى مكان آخر هروبا من واقع مرير، أو ظروف قاهرة، أو تحديات خاصة وانتهت صلاحيته وصار علما على تأريخ المسلمين لوقائعهم وأحداثهم؛ وإنما هو مفهوم شرعي وفريضة إسلامية تتجاوز في أبعادها ومقاصدها التنقل الجغرافي وتغيير المكان، إلى مفهوم أشمل وأوسع يتجاوز حدود المكان إلى التوسع والاستمرار في الزمن وتغيير الإنسان والارتقاء به إلى تحقيق الأهداف والغايات الكبرى التي خلق من أجلها وهي:
الهدف الأول: تحقيق العبودية لله تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزق ذو القوة المتين}:
الهدف الثاني: الخلافة في الأرض: قال الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليقة}
الهدف الثالث: عمارة الأرض: قال الله تعالى: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه}
ولتحقيق هذه الأهداف الكبرى فقد ارتبطت الهجرة على مستويات متعددة ومختلفة تعطيها مفهوما أوسع وأشمل وأكمل يمهد الطريق للوصول إلى هذه الغايات ويرسم خريطتها.
أولا: على مستوى الاختيار والتخطيط والمواكبة.
إن اختيار زمان الهجرة ووجهتها ومكانها والتخطيط لها كان مرتبطا كله بالوحي في أمور كثيرة منها:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هو الذي اختار دار هجرته، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار له دار هجرته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين» [ ]
2. أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة المكرمة من تلقاء نفسه حينما أتيحت له الفرصة؛ وإنما انتظر أمر الله تعالى وإذنه، فقد كان يقول لأبي بكر الصديق على رسلك إني أرجو أن يؤذن لي [ ].
3. أن الوحي هو الذي رسم خطوطها ومنطلقها ومسارها ومنتهاها، فحينما جاء وقت الهجرة جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تبت هذه الليلة في الفراش الذي كنت تبيت فيه.
4. أن مكان انتهاء الهجرة كان من اختيار الله تعالى أيضا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة كان الأنصار رضي الله عنهم يتلقونه ويدعونه إلى بيوتهم ويعدونه بالنصر والمنعة وكان عليه السلام يدعو لهم بالخير ويقول ذروها فإنها مأمورة [ ]
5. أن الله تعالى هو الذي تكفل بحماية النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين من أول خطوة في الهجرة إلى آخر خطوة فيها قال الله تعالى في ذلك: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. وقال أيضا: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين}. مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته خرجوا من مكة المكرمة منصورين طاعة وتعبدا لله تعالى ولم يخرجوا مهزومين فارين كما قد يظن البعض، قال الله تعالى: { إلا تنصروه فقد نصره الله}
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا لا يلغي تخطيط الصحابة رضي الله عنهم جميعا؛ وإنما كان تخطيطهم مرتبطا بالوحي وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: على مستوى التناول القرآني للمفهوم والأحداث.
إن القرآن الكريم حينما تحدث عن الهجرة وأحداثها تحدث عنها في أبعادها الإيمانية ومقاصده التعبدية حيث ربطها بطاعة الله والخروج في سبيله والبذل والعطاء والتضحية لنصرة الدين ولم يتحدث عنها في بعدها الجغرافي ولا المكاني.
كما في قوله تعالى:﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ﴾
 وقوله:﴿ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾
 وقوله:﴿ إن الذي آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سيبل الله ﴾
 وقوله:﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله يم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ﴾
كما تحدث عنها أيضا بأنها سلسلة متواصلة الحلقات ومترابطة الأطراف:
 قال تعالى:﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ...والذين جاءوا من بعدهم ﴾ومعنى الآية أن الهجرة للمهاجرين الذين خرجوا في السبيل الله، والنصرة والإيواء للأنصار الذين ابتغوا مرضاة الله، والدعوة والاتباع والسير على المنهج للذين جاءوا من بعدهم إلى يوم الدين طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم وسع المفهوم أكثر ليتجاوز طاعة الخروج في سبيل الله والضرب في الأرض إلى طاعة العطاء والبذل والفرار بالدين، والإيواء والنصرة بين المسلمين:
 قال تعالى في شأن البذل والعطاء كما في الآيات السابقة ((للفقراء المهاجرين)) بمعنى أن الهجرة الحقيقية هي بذل المال والتضحية في سبيل الله ونصرة دينه
 وقال تعالى في شأن الفرار بالدين(إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهم))
 وقال في شأن النصرة والإيواء(إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أو لياء بعض)) مما يدل على أن الهجرة لم تكن تعني الخروج من الوطن وترك البلدان فقط؛ وإنما كانت تعني الامتثال لأمر الله تعالى وطاعته وحمل لواء الدين والانتصار له، لأنها اعتبرت وقتئذ ولاية بين المسلمين ومن لم يهاجر لم يكن داخلا تحث تلك الولاية، قال الله تعالى( والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا))
ومن ثم فإن الهجرة النبوية ليس حدثا معزولا عن النبوة، ولا مشهدا منفصلا عن الرسالة، ولا واقعة انتهت صلاحيتها وصارت علما على تأريخ المسلمين لوقائعهم وأحداثهم؛ وإنما هي منهج أمة ومنطلقها، وفلسفة مجتمع، وأساس حضارة متكاملة غايتها الأخذ بيد الإنسان نحو التصحيح والتغيير والبناء.
ثالثا: على مستوى توسيع النبي صلى الله عليه وسلم للمفهوم وإعطائه أبعاد أخرى.
لقد وسع النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الهجرة وأعطاه معنى واسعا وبعدا يتجاوز حدود المكان ويتسع في الزمان، فحينما حزن صحابته الكرام على انقطاع الهجرة وفوات فضلها، قال صلى الله عليه وسلم:" لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" مما يعني أن الهجرة باقية إلى يوم الدين، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» [ ] قال ابن بطال:" قال أبو الزناد: لما انقطعت الهجرة، وفضلها حزن على فواتها من لم يدركها من أصحاب الرسول، صلى الله عليه وسلم، فأعملهم أن المهاجر على الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه، وقال غيره: أعلم المهاجرين أنه واجب عليهم أن يلتزموا هجر ما نهى الله عنه، ولا يتكلوا على الهجرة فقط. » [ ]
ولتبقى الهجرة مفهوما حيا في الذاكرة الاجتماعية للأمة وسع النبي صلى الله عليه وسلم مفهومها ومستمرة في شؤونها وأحوالها، وأعطاه معاني وأبعاد أخرى تبني الإنسان وتضبط سلوكه وتصرفاته وأفعاله في أحاديث كثيرة وفي مناسبات مختلفة ومتعددة منها قوله عليه الصلاة والسلام للذي جاء يبايعه على الهجرة: "لا هجرة بعد الفتح وإنما هي جهاد ونية" أي إذا كنت مخلصا في عملك صادقا في نيتك سليما في قلبك صابرا على دينك في السراء والضراء والسر والعلن كما كان أولئك الذين هاجروا صادقين صابرين تاركين أموالهم وأولادهم وأوطانهم فأنت مهاجر في سبيل الله، وقد حدد صلى الله عليه وسلم المعنى الحقيقي للهجرة بمفهومها الواسع وبين مقاصدها وأغراضها في قوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقوله للأعرابي الذي سأله عن الهجرة: «ويحك، إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟» قال: نعم، قال: «فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا» [ ] بمعنى إذا أطعت الله في مالك واديته حقه الذي له عليك فيه كما أطاعه أوليك المهاجرون في الخروج من ديارهم وأموالهم فأنت مهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأنك إذا كنت تؤدي فرض الله عليك في نفسك ومالك فلا يضرك مكان إقامتك مهما كان بعيدا.
وهكذا فإن مفهوم الهجرة وأحداثها التي عاشها المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم تحمل في طياتها بذورا إيمانية وأخلاقية وروحية، واجتماعية، وتعبدية بصفة عامة يمكن استنباتها في أي أرض قابلة لاحتواء الدعوة الإسلامية على مر الزمان فهي بذور تتجدد وتتغير وتتطور تحتاج إلى قابل، وحامل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات قابل الدعوة: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» [ ]
وقال في صفات حاملها: «رحم الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل، ومناصحة ذوي الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تكون من ورائهم» [ ]
رابعا: الأهداف والمقاصد المنهجية.
بما أن الهجرة مفهوم واسع وشامل يتجاوز حدود المكان ويمتد في الزمان، لا بد وأن نستخلص منه بعض الأسس المنهجية التي تضيء طريقنا كقيمين دينيين تحملوا مسؤولية البلاغ وحمل المقالة
1. الإخلاص في القصد والصدق في القول والاجتهاد في العمل
2. الصبر والتحمل والتضحية
3. الهجرة توسعة وفسحة وأمل واحتواء وينبغي أن تكون هذه المفاهيم أساسيات خطابنا الذي نوجهه للناس، بعيدا عن خطاب التشدد المؤدي إلى التيئيس والقنط من رحمة الله، والتمييع الذي يؤدي إلى ضياع الدين وفساد الأخلاق.
4. إعادة النظر في الأولويات وقراءة الواقع باستمرار لإيجاد حلول ناجعة وفتح آفاق جديدة، لا الاكتفاء بالتمسك بالمكان والالتصاق به.
5. السعي الدائم والحثيث في تجديد الخطاب وقواعده، لأنكم تعلمون جميعا أن خطاب القرآن الكريم تغير في أهدافه ومقاصده ومواضعه بعد الهجرة، لذلك فرق العلماء بين القرآن المكي والمدني، لأن الخطاب المكي كان خطاب إصلاح العقيد وتجديد الإيمان في عمومه، والخطاب المدني كان خطاب بناء المجتمع وسن الأحكام والقوانين ورسم خريطة الأمة الوسط (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله)) ألا فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وأدوا ما استأمنكم الله عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته