*** يكابدُ الإنسانُ - طيلة تاريخه - رغبةً عارمةً في كسرِ قيودِه الطبيعيّة ... قيودِه البيولوجية التي تحرمُه من التحليق في السماء والغوصِ في الموج وخرقِ الأرض ... قيوده التي تحرمه - وهو الإنسانُ - من لذّة التفوق على السمكة والدّودة والعصفور ... إنَّ الإنسانَ - طيلة تاريخه - محمومٌ بالرغبة في كسرِ القيودِ والعيشِ بلا ... حدود ...
*** أضاعَ الإنسانُ حقبا من تاريخه في حسد الطيور لامتلاكها القدرة على التحليق والتطوّح في جنبات الرياح ... وحسد كائنات البحر لقدرتها على الغوص في الأعماق والتّثني والتّنزّه بين طيّات الموج ... وامتلأ صدرُه غيظا لقدرة الديدان - التي يأنفُ منها - وجذور الأشجار- وغيرها - على الولوج إلى أعماق الأرض وقراءة أفكار التُّربة... بينما يُعلنُ هو عجزه الصّارخ عن مطاولة هذه الآفاق وخرق هذه الأعماق ...
*** ظلّ الإنسانُ حقباً مؤرّقا بتحقيق حلمه بأنْ يكونَ طائراً مميّزا وسمكةً ماهرةً ودودةً ناجحة ... ودَاَبَ في تحقيقِ حلمه حتّى زاحَم ساكنِي الرّياح وساكني الموجِ وأعماق الأرض ...وأزعجَ بطائراته وغوّاصاته وحَفّاراته وضجيجه وغروره - وفظاظَتِهِ - سكّانَ هذه الممالكَ وسلَبهم سَكينة عوالِمِهم الوادِعة ...
*** إنّ الحدود الماثلة في أجواز السماوات والأرض ليست الحدود الوحيدة التي طمح الإنسان إلى تحدّيها واجتيازها ، فقد نزع الإنسانُ إلى تحطيم حدود تكوينه وقدراته الجسدية والفسيولوجية ... نزَع إلى تجاهل إمكانياته التي تؤطّر كثيراً من سلوكه المادّي والمعنوي ... تجاهَل وتعامى عن أنّه لا يمتلك إلاّ معدة واحدة محدودة المساحة والقدرة الاستيعابيّة للطّعام ... تَجاهَل أنَّ قامته - مهما استطالت - محدودة بقياسٍ ... تجاهَل أنَّ عمره محدودٌ محدودٌ بأجلٍ لا يتجاوزُه ولا يستطيعُ الفرارَ منه ... بل تجاهلَ أنَّ هذا العمرَ - ذاتَه - عمرٌ افتراضيٌ يضيعُ جزءٌ منه في طفولة غيرِ واعية ... ويضيعُ جزءٌ منه في شيخوخة عاجزة ... وما بين الجهل والعجز يضيعُ ثُلثا هذا العُمر ولا يتبَّقى إلاَّ القليلُ الذي يتمتّعُ فيه الإنسانُ بالقوّة والقدرة معاً ...يتجاهلُ الإنسانُ أنّهُ لا يمتلكُ من العمرِ إلاَّ هذا القليلِ الزَّمني ...الذي يتمتَّعُ فيه بقدرٍ ما من الفتوّة الجسدية والنّشاطِ العقلي والوعي الكافي ... ورغمَ هذه الحدود التي تؤكّدُ لهُ أنَّهُ محدوووووود فإنّه ينزع - داخلَ قليلِه الزمني وقليلِه البدنيّ - إلى خرقِ جميع الـــ... حدود فيبادرُ إلى انتهابِ متاع الحياةِ : المُباحِ والمُحرَّم ... الضَّارّ والنَّافعِ ... المشروع واللامَشروعِ ... المُستحِقّ له والمملوكِ لغيره ... الممكن والمحال ... الآجل والعاجل ...الغَثّ والثَّمين ...
*** يبادرُ الإنسانُ بانتهاب الشهواتِ إلى خَرِقِ حدودِه الفسيولوجية والزمنية والنّفسيّة التي خُلِقت فيه ... من أجْلِه ... وخُلِقَتْ معهُ ... لحراسَتِه من الهلكة والحدّ من طغيانِه وليس الحدّ من حرّيته... يُبادِرُ الإنسانُ - بخرقِ تلك الحدودِ - إلى المزيد من القيود في الوقت الذي يظنُّ فيه أنّهُ قد انتصر على كلّ القيودِ ... ! لأنّه - ببساطةٍ تامّة - يسقُطُ في أسرِ مَلَّذّاته وغرائزه ... يَهوِي في أفخاخ شهواته ... إنَّهُ يُضَرِّي شهواتِه وَيُصيبُها بالسُّعارِ ... إنّه كَمَن يُحوّل حيوانٍاً مُستأنسٍاً إلى وحشٍ ضارٍ بإطعامه اللحوم بدلا من الحشائش فيفقدُ القدرة على ترويضه بعد ذلك ... يُشبهُ الذين أطعموا البقر العظام المطحونة مع بقايا الدم والجلود فأصابوها بلوثة الجنون ... لأنها وُضعِت في غير وضعيتها ... وهكذا النّفسُ الإنسانية ...إنَّها لم تُخلَق لهذا اللون من الطّعام ... فإذا ما أطعمناها الشهوات المُهلكة ونأينا بها عن غاية خَلْقِها كنّا كَمَن يُطعمها المِيتة والدّم فيصيبُها الجنونُ بلا حدووود ... وتنطلقُ تُحطّم كلّ السياجات التي وُضعت حولَها حتّى لو كانت سياجاتٍ لحمايتها ... فتبرزُ للعراء ضارية مسعورةً ضعيفة ينالُ منها كلُّ شئٍ ويغلبُها كلُّ أمرٍ ... ويُصيبُها بالتّلفِ كلُّ كائنٍ حيّ ... فيُمسي صاحبُ هذه النفسِ خائفاً فزعا مهموماً مُفلسا من العافية والعقل والوعي والأمن والرّضا عن النّفس ... يُمسي وقد وَضعَ بيديه حولَ يديه قيودا ... وأقام حول كيانه حدودا ... حدودا مؤلمة من : المرض البدني والنّفسي الناجم عن الانطلاق وراء التجارب والعواطف والخبرات المحرمة ... حدودا وأسواراً من الخوف والوحشة في الكون والعزلة بعدَ افتقاد الصديق والقريبِ ... حدودا من العوزِ بعدَ فقدِ المالِ ... حدوداً من الفزع بعد إضاعة السلامِ والسّكينة والأمان والائتناس ... حدودا من الذّلِ والوهمِ والخيال المريضِ بعدَ إضاعة الهيبةِ في الكبائر وإثارة الآخرين بالتّعدّي على حُرُماتِهم ...حدودا من الكآبة والانصراف عن الحياة بعدَ أنْ انصرفَ العمرُ وتولّى من الانغماس في متاعِ الغرورِ سعياً وراء مفهومٍ مُشوّه للحرية واللا...حدووود . !
*** إنّ الباحث عن الحريّة الإيجابيّة الكريمة عليه أن يتلمّسها في الطرح القرآني ... إنّ الباحث عن الكيفية التي يكونُ من خلالها إنساناً حُرَّا بلا حدوود يستطيعُ أنْ يجد هذه الكيفية في الطَّرح القرآنيّ الكريم ...سوف يعثر على نموذج كريم مُشرقٍ الاستواء للإنسان بلا حدود ... لكنّه نموذجٌ خاصٌ جدا ... نموذجٌ فريدٌ ... حُريّتُه هي سياجاتُه الإسلاميّة ... وهذه السياجاتُ - ذاتها - هي آفاقُه اللامتناهية التي يستطيعُ أنْ يُحلّقَ فيها بلا قيود ويستطيع من خلالها أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض بلا مكابدةٍ وبلا أثمانٍ باهظة ... سيجد الحريّة دونما اضطرارٍ إلى هذا الإنتحار ...
*** الإنسانُ بلا حدودُ- كما يجب أن يكون - نموذجٌ قرآنيٌ فقط لا يُوجد خارج الطرح القرآني أو خارج العقيدة الإسلامية ... إنّه كُلُّ إنسانٍ مُلتزمٌ بتحقيق الغاية التي خُلِق من أجلِها بالوسائل التي شُرّعتْ له ... إنّه الإنسانُ المؤمنُ الذي يعملُ الصّالحات ... إنّه المُدركُ لقولِه تعالى : " وما خلقتُ الجِنَّ والإنس إلاَّ ليعبدونِ "سورةُ الذَّاريات / الآية 56 وهو يمتثلُ لتحقيق هذه الغاية التي خُلقَ لتحقيقها بالتزام الطريق المستقيم وإشباع غرائزه بالطرق المشروعة لإشباعها بما لا يؤدي به إلى نسيان هدفه الأساس ... فهو ينهلُ من متاعِ الحياة الدنيا وفقَ مبدأ الوسطيّة الإسلامية فيشبعُ غرائزه من شهي الطعام والشراب المباح ويُشبع غريزته الجنسيّة ونزوعه إلى النّسل ومتاع المال والبنين بما شُرِع له حتّى يصفو لعبادة خالقه وخالق هذه النّعم فيجولُ بعقله وروحه في مُلكِ السماوات والأرض ... يتدبّرُ الكونَ بكلّ حواسه وبأعماقه الإيمانيّة فيمدّه اللهُ بزادٍ من البصيرة والقدرة على النفاذ العقلي والروحي في الكون الذي قد يصلُ به إلى الإسهام العملي في إعمار الكون والبحث في مجاهيل تكوينه ... وهكذا يجوزُ في الوجود بلا ... حدوود...
إنَّ الإنسانَ في التصوّر الإسلاميُّ مُكَلَّفٌ بإعمالِ عقْلِه في الوجود ... مُكلَّفٌ بتدبّر آياتِ الكون ... مُحرَّضٌ من قِبِلِ خالِقِه على النّظر في خلقِ السماوات والأرضِ والبحث عن السماء كيف رُفِعَتْ بغيرِ عمدٍ تُرَى ... والتَّساؤلِ عن الأرضِ كيفَ بُسِطَتْ والجبالِ كيفَ نُصِبَت ... مُحرّضٌ ومُسْتَنْفَرٌ على تأمّل كيفية خلقِ الأنعامِ والطّيرِ والنّظرِ في خلقِ نفسه وتأمّل أطوار هذا الخلق ... ... إنّ الإنسانَ في الطّرح القرآنيٌ مُسْتَنفَرٌ إلى أن يكونَ مِنْ " أُولِي الألبابِ " أو " المُخْبِتِين " الذين يتأمّلون خلقَ السماوات والأرض ليلَ نهارَ ويَصِلُونَ من خلال هذا التّأمّل العقليّ الإيماني إلى إثباتِ وجود اللهِ ... يقولُ تعالى في وصفِ هؤلاءِ المُخْبِتِين - في سورةِ آلِ عمران - في رحلتهم الإيمانية وتدرُّجهم من التأمّل الإيماني في جنبات الوجود إلى مرحلة اليقين الإيماني والإقرارِ بالرُّبوبيّة والأُلوهيّة والإقرار بحكمة الله فيما خلق ، وفي هذه المرحلة ... في هذه المرحلة تلهجُ ألسنَتُهم بالدعاء والاستغفار والتوسّل والرجاء إلى الله أنْ يهبهم الرحمةَ والرضا ... وهكذا كان تدبّر أولي الألباب في خلق السماوات بوابة انطلاقهم إلى هذه المُرتَقياتِ الإيمانية العقلية والروحيّة والقلبية ... كان تدبّرهم في خلق اللهِ مَعْبَرَهُم إلى رسوخ اليقين الإيماني ... يقولُ تعالى في وصف هؤلاء المُنيرين ومراحلِ انبعاثهم اليقيني - سورة آل عمران - :
" إنَّ في خلقِ السمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الألبابِ 190) الذينَ يذْكُرُونَ اللهَ قيامَاً وقُعُوداً وعلى جُنُوبَهِم و يتفكَّرُونَ في خلقِ السماواتِ والأرضِ رَبَّنَا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سبحَانَكَ فَقِنَا عذابَ النَّارِ 191) رَبَّنا إنَّكَ منْ تُدْخِل النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وما للظّالِمِينَ منْ أنْصارٍ 192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي للإيمانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُم فآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سيَّئاتِنَا وتوفَّنَا مع الأبرارِ 193) ربَّنَا وآتِنَا ما وَعدَّتَنَا مَع رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يومَ القيامةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ الميعاد 194) ...
*** إنّ المسلم المؤمن حين ينتهجُ هذا النّهجَ الإيماني ويقتفي آثار أُولي الألبابِ ... حين يُطلُقُ روحَه منْ إسارِها ويحرّر عقله من أسر العادة في الفكر والتأمل ... حين يُطلقُ طاقاتِ قلبه لتتصلَ بالوجود وتنَاجي خالقَ هذا الوجود وتبتهلُ إليه ... - إنّ هذا المسلمُ بهذه الطَّاقاتِ إنسانٌ بلا حدوود ... بلا قيود رغم التزامه بحدود الله ... إنه يسكنُ السّقفَ الأعلى من الحريّة والتّحليق المبدع في جنبات الكونِ ... فلا يضنيه أو يحزنُه أنّه لم يُرزق بأجنحة العصفور أو زعانف الأسماك أو التواء الدّودة ... لأنه سيصبح كائنا فائقاً لا تستطيعُ سرعةُ الصوت مجاراةَ سرعته في النفاذ إلى دلائل وجود الله ... ولا تستطيعُ سرعةُ الضوء مواكبة خطواته إلى الحق والخير والعدل والجمال ... وإنّ الحقّ والعدلَ والخيرَ والجمالَ هي سياجاتُه وأُطُرُه التي يعيشُ وفقَ منظومتها ... لكنّه - رغم هذه الأطُرُ والسيّاجاتُ والحدود ... كائن فائقٌ مُتعملقُ الروحُ والنّفسُ والعقلُ ... بل إنّه بوجوده داخلَ هذه الأُطُر فقط يكون : إنساناً بلا ... حدوووود
##############
بقلم : جاميليـــــا حفني
مدونة " أدركتُ جلالَ القرآن ِ "
http://greatestqoran.blogspot.com/2012/11/blog-p[/size]ost_20.html
[
عدل سابقا من قبل جاميليا حفني في 2012-11-22, 15:09 عدل 3 مرات