عندما عصى إبليس ربه وطرد من الجنة توعد ربه بأنه سيقعد لللخلق صراطهم المستقيم ليخرجوا معه من الجنة لقول الله تعالى على لسان إبليس: (لأقعدن.....) و(لآتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً). وفي المقابل توعد الله إبليس بأن يملأ به ومن اتبعه النار.
ولما أغوى أبانا آدم وأمنا حواء وعصيا أمر ربهما أمر الله أبوينا وإبليس أن يهبطوا إلى الأرض لقوله تعالى: ( وقلنا اهبطوا منها فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي....)
لذا أنزل الله هداه للخلق باستراتيجية محكمة لتحقيق أهداف محددة. وقد وضع فيها اعتباراً لتوعد إبليس بإغواء جزء مفروض من الذين آمنوا بالله. وتوضيح استراتيجية خطاب الله لخلقه يقتضي توضيح الأهداف التي من أجلها أنزل الهدى. وتوضيح الأهداف يقتضي بدوره توضيح الحال الذي يكون سائداً قبل تنزيل الهدى.
الحال قبل الرسالات
باختصار ينزل الهدى إلى الأقوام التي تنشأ في فترة خلت فيها الرسل فتعبد الأصنام ويسود فيها الفوضى ويظلم القوي فيها الضعيف لعدم وجود قوانين تحكمهم. وقد كان مثل هذا الحال سائداً في الجاهلية قبل الاسلام حيث كان حب الشهوات وزينة الحياة الدنيا والتكاثر منها هو القائد لسفينة حياة الرجال آنذاك.
الأهداف
للقرآن ثلاثة أهداف وهي:
أولاً عبادة الله وتقواه وحده ونبذ الشرك باجتناب الطاغوت (وهو إبليس وجنوده) أي الإيمان "بالله إلهاً واحداً أحداً وبملائكته وكتبه ورسله" والإيمان" باليوم الآخر" والإيمان "بالأقدار خيرها وشرها". لقوله تعالى: " ....أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت....
ثانياً: إصلاح الفساد الذي كان سائداً ورفع الظلم عن الضعفاء لقوله تعالى "... رسلاً يقصون عليكم آياتي فمن أصلح واتقى...) وقوله تعالى(ولا تفسدوا الأرض بعد إصلاحها)
ثالثاً: فتنة الناس وامتحانهم لتصفية الطيبين (المؤمنين حقاً) من الخبيثين (المنافقين) الذين أغواهم الشيطان بعد إيمانهم من أجل تكوين أمة العدل والخير التي تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر من المتقين الصابرين حقاً بعد تصفيتهم من جميع الأجيال إلى يوم القيامة.
وذلك بناءً على قوله تعالى(أحسب الناس....)وقوله تعالى(أحسبتم أن تدخلوا الجنة ...)
استراتيجية تنزيل القرآن
لقد وضع الله سبحانه وتعالى استراتيجية محكمة ومتقنة لتحقيق أهداف المنشأة الثلاثة. تتكون الاستراتيجية من ثلاثة مراحل مختلفة. كل مرحلة تتخصص في تحقيق هدف محدد وتنقسم بدورها إلى خطوتين مختلفتين. كل خطوة من كل مرحلة هي أخبار عن الجزء الذي ستحققه المرحلة. أما الخطوة الثانية فقد كان القصد منها تحقيق الهدف الثاني والثالث للمنشأة.
المرحلة الأولى: الإيمان بالله وحده لا شريك له
الخطوة الأولى:
بدأت الخطوة الأولى بمخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه كل أسس الرساله وأمره بالتحلي بقيم وأخلاق الإسلام والآيات التالية هي أول ما أنزل في القرآن وهي التي خاطبت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أولاً وهي: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ} 1-3 العلق كما خاطبه الله تعالى بالآتي:{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }{قُمْ فَأَنذِرْ}{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}{وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ}{ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} 1-6 المدثر
فصار الرسول عليه السلام يتلقى التعليمات من ربه إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقالت السيدة عائشة إن الله علمه أولاً حتى صار خلقه القرآن ومن ثم أمره الله تعليم الناس ليصير خلقهم القرآن. وبعد أن صار الرسول صلى الله عليه وسلم مهيأً لآداء المهمة تم تكليفه بتوصيل الدعوة للناس جميعاً ليعبدوا الله وحده خالق السماوات والأرض وما فيهما ولا يشركوا به شيئاً. وطاعته وحده واجتناب طاعة الشيطان. وأن ينذرهم بالعذاب الشديد لمن لم يؤمن وبالجزاء الحسن لمن يؤمن. وذلك استناداً على قوله تعالى: { الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ }{ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}{ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } 1-3 إبراهيم
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس الآتي:{قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 158 الأعراف
فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بأن الله هو الإله الواحد الأحد الذي لا إله غيره ولا والد له ولا ولد ولا صاحبة له ولا شريك له في الملك ولا شبيه ولا مثيل له في الكون كله كما أوضحته الآيات التالية: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}{ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ }{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} 1-4 الإخلاص وإخبارهم أيضاً أن الله قد خلق الملائكة ذوي أجنحة لتدبير الأمر بين السماء والأرض وذلك بقوله تعالى:{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
1 فاطر ومن المعلومات التي أوضحها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة هي أن الله قد اختار رسلاً من الملائكة ورسلاً من البشر وأنزل مع الرسل البشر الكتب لتبليغ رسالاته للخلائق ولإدارة الأرض بتعليماته وذلك في قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}75 الحج
انقسم الناس حيال الدعوة إلى فريقين: فريق أعلن إيمانه وفريق أعلن كفره. عليه أوضح الله للذين أعلنوا إيمانهم المطلوب منهم في هذه المرحلة وهو الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر لقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } 136 النساء
وبعد أن أخبر الناس في الخطوة الأولى أن يؤمنوا بالله إلهاً واحداً أحداً وأن يعبدوه وحده وأن المطلوب ممن يؤمن أن يؤمن بالله وبكتبه وبرسله وبملائكته وباليوم الآخر، أخذت الدعوة وقتها ليعتنق الناس الإسلام حتى تلين قلوبهم لذكر الله لقوله تعالى: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 23 الزمر
الخطوة الثانية:
كان اختصاص الخطوة الثانية هو تنزيل القوانين والأحكام المحكمة التي لا لبس في فهم معناها وهي التي في مقدور كل فرد العمل بها من أول مرة. والأحكام هي الصلاة والزكاة اللتان تمثلان نصف أركان الإسلام تقريباً. ولهذا تم توجيه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر الذين أعلنوا إيمانهم بالله وكتبه ورسله وملائكته بالآتي: { قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } 31 إبراهيم وتنزيل هذه الأحكام من شأنها تحقيق الهدف الثاني وهو تصفية الذين أعلنوا إيمانهم بالله وكتبه وملائكته ورسله وباليوم الآخر بتحديد المؤمنين حقاً وتحديد المنافقين الذين أعلنوا إيمانهم كذباً ورئاءاً لقوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}{يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} 8-9 البقرة
وقد حققت تلك الأحكام بالفعل الهدف الثاني بأن حددت المنافقين إذ كانوا يقومون للصلاة
كسالى رئاءً للناس وينفقون أموالهم رئاء الناس فقط لقوله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلٰوةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}
142 النساء
وقوله أيضاً: {وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً}38 النساء ونهاية الآية 38 النساء توضح أن المنافقين هم الذين اجتنبوا الله وعبدوا الطاغوت. أي عملوا بعكس ما أمروا به. أما المؤمنون الذين صلوا وزكوا إيماناً صادقاً بالله واليوم الآخر فهم الذين عبدوا الله واجتنبوا الطاغوت. ولذلك استحقت فئة المؤمنين الصادقين هدي المرحلة الثانية. أما الذين كفروا فقد تركهم الله لأوليائهم الطاغوت بناءً على قوله تعالى: {ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
257 البقرة
المرحلة الثانية: الإيمان بعلوم اليوم الآخر
الخطوة الأولى: هي إخبار الناس بمعلومات اليوم الآخر الذي أعلنهم به الله في المرحلة الأولى. والمعلومات عن اليوم الآخر هي: أسماؤه المختلفة كالقيامة والقارعة والزلزلة وما سيحدث فيه من حساب وعقاب وجزاء وكيف ستكون أحوال الخلائق في ذلك اليوم وما سيحدث فيه من تغيير في السماوات والأرض وما فيهن من خلق. وكمثال لذلك قوله تعالى: { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 104 الأنبياء وكقوله: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ}{ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ}{ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ}7-10 القيامة وكقوله تعالى أيضاً:{ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ}{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ }{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} {وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} {لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ}{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ }{ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ }{ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ }33-42 عبس فانقسم الناس مرة أخرى إلى فريقين: فريق أعلن إيمانه باليوم الآخر وفريق كفر به
الخطوة الثانية هي القوانين التي يجب على من أعلن إيمانه باليوم الآخر ولقاء ربه أن يعمل بها وذلك لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } 110 الكهف ومن أهم القوانين التي أنزلت في المرحلة الثانية هي الصوم والحج لأنهما النصف الآخر لأركان الاسلام. وكأمثلة للقوانين الأخرى: رد التحية، والصلاة على النبي، وإكرام الجار، وآداء الأمانة، والنهي قول الزور، وترك الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، واصلاح الكيل والميزان...الخ وتسمى هذه القوانين التي أنزلت في المرحلة الثانية(بالأعمال الصالحة) التي عن طريقها يتم تمييز الطيب الذي سيؤمن باليوم الآخر إيماناً صادقاً من الخبيث المنافق الذي سيعلن إيمانه ثم يتبع شيطانه. وهي أيضاً القوانين التي من شأنها إصلاح الفساد كقوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} 152 الأنعام وهنا جاء أمر الله للذين آمنوا بالله في المرحلة الأولى وأعلنوا إيمانهم بالمرحلة الثانية بأن يتقوه كما ينبغي له وذلك بطاعته المطلقة والعمل بجميع القوانين وعدم طاعة الشيطان لقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} 102 آل عمران وبهذه الخطوة يدعو الله المؤمنين تجويد تقواهم لتحقيق رؤية الرسالة وهو تكوين أمة العدل منهم. لقد اقتضت الاستراتيجية أن يطلق لفظ "الذين آمنوا"على الذين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله مؤكدين إيمانهم بالصلاة والصدقة في مرحلة الرسالة الأولى. فإذا آمن "الذين آمنوا" باليوم الآخر أيضاً في المرحلة الثانية وعملوا الصالحات أي عملوا بجميع الأحكام، يطلق عليهم لفظ "الذين آمنوا وعملوا الصالحات". فالذين آمنوا وعملوا الصالحات إذاً هم الذين يتأهلون لهدى الله في المرحلة الثالثة والأخيرة استناداً على قوله تعالى: { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً} 11 الطلاق
المرحلة الثالثة: الإيمان بالأقدار خيرها وشرها
الخطوة الأولى: هي المعلومات عن أن الأقدار خيرها وشرها من الله وهي إمتحان للناس لقوله تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} 35 الأنبياء
ومن معلومات الأقدار أيضاً أنها أقدار عامة وأقدار خاصة. وكل منها يحتوي على أقدار الخير وأقدار الشر. وكأمثلة لأقدار الشر العامة: الزلازل، والبراكين والفيضانات والنيران...إلخ. أما أمثلة أقدار الخير العامة فهي كالرخاء في الأسعار وأمطار الخير التي تأتي بالحرث الوفير والأمن والاستقرار. أما أقدار الشر الخاصة فهي كالمرض والفقر والعجز والعقم وموت الأقرباء وهكذا. وأقدار الخير الخاصة كالغنى والزوج الصالح أو الزوجه الصالحة والأبناء الصالحين والتعليم والمأوى المريح وتوفر سبل النقل والمواصلات وهكذا. كما تشمل الأخبار في المرحلة الثالثة توضيح ما يجب على الناس فعله وهو الرضاء بالأقدار خيرها وشرها والصبر عليها اعترافاً منهم بأنها من الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ} {ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}155-156 البقرة وقوله تعالى في أقدار الخير: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } 53 الأنفال
لقد أوضح الله أن الرضاء بما قسمه الله للمرء من خير أو شر والصبر عليه هو شكر لله وحمد له. وليعلم الناس أن الخير ربما يكون من وراء الفتنة الشر والشر من وراء فتنة الخير لأن العاقبة من وراء كل منهما لا يعلمها إلا الله لقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } 216 البقرة
خطة العمل
لقد وضعت خطة العمل بناءً على رؤية واستراتيجيته وأهداف المنشأة كالآتي:
- جذب الناس إلى الاسلام بتنزيل آيات الأخبار أولاً قصاراً مبهمات المعنى ليتساءلوا عن معناها وتنشغل بها أذهانهم إلى أن ينزل لهم تفصيلها.
- التأني والصبر على الناس حتى يثيبوا للإسلام وتلين قلوبهم وجلودهم فيكونون مهيئين بذلك لأحكام الله وطاعته
- الترغيب والترهيب في دخول الإسلام بناءً على علم الخالق باختلاف طبائع الناس في التفاعل مع الدعوة فمنهم من يخاف من العذاب والعقاب ولا يأبه بالجزاء الحسن ومنهم من يحب الجزاء الحسن ولا يأبه بالعذاب.
- سرد قصص الأمم السابقة لتهدي الناس وتعظهم عن طريق توضيح تفاعل تلك الأمم مع رسلهم تجاه علوم كل مرحلة من مراحل الدعوة الثلاث وقوانينها، وكيف كان انتقام الله من الكفار وكيف كانت نجاة المؤمنين الذين آمنوا مع رسلهم.
- ضرب الأمثال للناس لتوضيح الفرق بين كل من الفريق المؤمن والفريق الكافر في كل مرحلة من مراحل الإيمان
- تنزيل أحكام الحلال البين والحرام البين بعد أن يعتنق الناس الإسلام أي توحيد الله. أما تنزيل الأحكام المتشابهة في الحلال والحرام للنهي عن حب زينة الحياة الدنيا التي أدمنها الناس في الجاهلية فقد كان تدريجياً لتعالج الإدمان، تماماً كما يعالج الطبيب المدمنين من المخدرات تدريجياً ولله المثل الأعلى.
- تأخير بعض الأحكام الثقيلة المطلوب تطبيقها إلى وقت لاحق نتيجة عدم تناسب الظروف لتنزيلها. فتنزل أحكام أخف منها. كما يؤجل تنزيل أحكام خفيفة وهي المطلوبة واستبدالها بأحكام ثقيله لحين الوقت المناسب. وكمثال لتلك الأحكام قتال الكفار والمنافقين الذي صدر فيه الحكم بالعفو أولاً وهو حكم خفيف فيه الصبر والحلم عليهم والعفو عنهم إلى أن يأتي الله بأمره.
- تهيئة المؤمنين لأقدار الشر وما يترتب عليها. فمثلاً هيأهم الله لموت الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أوضح الله لهم المطلوب عمله إن مات النبي أو قتل وهو أن يصبروا ويرجِّعوا الأمر إلى الله وأن لا ينقلبوا ويصدوا عن الاسلام. وتهيئتهم أيضاً لقبول نعم الله (أقدار الخير) وعدم تغييرها إن جاءتهم. وذلك عن طريق توضيح ما حدث لأمة اسرائيل من قبلهم عندما بدلوا نِعَم الله كطعام المن والسلوى فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.