قصة قصيرة
أمي.حبيبتي ، سأغيب بعض الوقت
لما أنهى بحثه المختبري واقتنع بالنتائج التى تحصّلت لديه على المستوى النظري ، قرر أن يخضع النتائج للتجربة العملية على غرار العلماء الواقعيين الذين يعمدون آخر الأمر إلى قطع الشك باليقين. فالتجربة العملية في اعتقادهم هي التي تعطي للعلم الفيزيائي مصداقيته . شمر على ساعديه في همة ونشاط ينبئان عن عزم أكيد ، شغل مجموعة من الآلات بالضغط على أزرار معينة بخفة ورشاقة كأنما يحرك أوتار آلة موسيقية تصدر أنغاما رائعة وجميلة ، ثم توقف وهو يفرك يديه يرقب النتيجة لم يطل الأمر فإذا بدوامة لولبية مجوفة قد ظهرت في منتصف فضاء الغرفة جهة الحائط الغربي تدور حول نفسها بشكل سريع ويظهر في عمقها سواد لا يكشف عما بعده .
أصيب بالهلع الممزوج بالإشفاق وبالرغبة الممزوجة بالتردد ، إنه هوس العلماء الذين يريدون أن يجربوا على أنفسهم بادئ ذي بدء تجربة جديدة لم يسبق إليها أحد من العالمين ، دون أن يفكروا في استعمال كائن آخر يقوم مقامهم ، لأنه سوف لن يجديهم نفعا .
منذ زمن وهو عاكف في مختبره يشتاق شوق العاشق الدَّنِف إلى إيجاد وسيلة يعرف بواسطتها إنسانُ الأرض ماذا يجري هناك ، هناك في العوالم المتخفية وراء الحجب ، وليستيقن هل من شيء موجود بالفعل في تلك العوالم المجهولة أم أن الأمر محض افتراض وتخمين.
صار يذرع الغرفة ذهابا وإيابا في قلق شديد وحيرة لا يعلمها إلا من يعيش حالة كهذه ـ حالةَ من اشتغل بالليل والنهار باحثا عن حقيقة ما وقد حرم نفسه من أجلها جميع متع الحياة وملذاتها وما كاد يتوصل إلى الوسيلة التي عن طريقها سيعرف هذه الحقيقة ، إذا به يصطدم بحقيقة أخرى أكبر منها وهي أن هذه النتيجة تحتاج إلى التجربة العملية ليتبين صدقها من عدمه ، وإن التجربة العملية قد تكلف صاحبها حياته برمتها حار في أمره وأصبح لا يدري هل يقدم ويتم ما بدأه أم يحجم ، يقبل أم يدبر . أم هل يكتفي بهذا القدر، وما الجدوى ، وإن أقدم فما الفائدة إن لم يكن في وسعه أن يخبر سكان الأرض بما وجد ويعلنه بين الناس وعلى رأسهم العلماء ، فأين هي النتيجة الفعلية لعمل متواصل بالليل والنهار في مختب ما هو في حقيقته إلا قبوا شبيه بالقبر !
يتراءى له الثقب اللولبي في دورانه حول نفسه كطريق سيّار سريع جدا يوصل صاحبه إلى المجهول ، إلى مكان ما في الكون لا يعلم عنه الإنسان شيئا . يقول بعضهم ـ بأن به كائنات كبيرة وعظيمة عاشبة ولاحمة انقرضت من على وجه الأرض منذ ملايين السنين، بل وهناك أراض أخرى بها العجائب والغرائب ، بها أجناس أخرى متطورة جدا تسبق الإنسان حضاريا بآلاف من السنين وربما هم الذين يزوروننا بين الفينة والأخرى عبر أطباقهم الطائرة ! لكن لا أحد يقطع بوجودها ولا أحد يجزم بأنها موجودة بالفعل فهي تظل محض افتراضات وتكهنات ، وتجسدها الصناعة السينمائية في أفلام أنتجت من أجل الإثارة وربح المال ، أما أنا اليوم فأمام حدث واقعي وتجربة إن كتب لها أن تحدث فلسوف أغادر هذا العالم إلى عالم آخر ـ الله تعالى أعلم به ـ قد يكون جحيما مستعرا وقد يكون نعيما مقيما .من يدري ؟
مرة يقدم ومرة يُحجم ، مرة يخطوا إلى الأمام ومرة يتقهقر، وضع كلتا يديه على رأسه كمن يشكو الصداع ظل على هذا الحال زمنا لا يدري كم مر منه ، ينظر إلى الحلقة اللولبية تدور حول نفسها كأنها تعصره وفي نفس الآن تغريه بالقفز داخلها والسفر إلى هنالك ؛ ينظر إلى نفسه وما حوله فيرى أنه قد يكون ضحية لتجربة متهورة لم يسبقه إليها أحد من العالَمين ، فكل عالِم أخضع ما اخترع للتجربة بنفسه بعد أن ضع لنفسه احتياطات هي بمثابة ضمانات قد تنجيه من مغبة النتائج العكسية التي قد تنتج عن تجربته . صار يتصبب عرقا إلى درجة أن تبللت ملابسه الداخلية وظهر أثر العرق باديا على جاكيتته كمن أفرغ عليه دانوب من الماء.
إنه أول من استحدث هذا الضغط الهائل في الفراغ ليظهر اللولب الذي هو في حقيقته باب يفضي إلى المجهول وطريق نحو اللاعودة ،أحس بصدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ، وهو يلهث جراء الصراع النفسي ، اقفل غرفته وخرج يتمشى خارج البيت ليرى النور والزرقة والناس ولعله يجد حلا للمعضلة التي هو فيها ، أن يجد حلا للهاجس العلمي الذي يدفعه إلى إتمام ما عكف على استكشافه أعواما وسنوات وأخذ منه كل شيء ، أخذ منه الزوج والأب والسمر والاستمتاع بملذات الحياة ومشاركة المجتمع في تحولاته في احتفالاته وهمومه ، أخذت التجارب منه الاستجمام والصحبة والخروج إلى الطبيعة والسياحة في أرض الله حتى الدعوة الأخيرة من احد أصدقائه بزيارة مدينة جميلة من مدن الشرق اعتذر عن تلبيتها بحجة واهية ، وهو يعلم أن صديقه سوف لن يصدقه وإن كان سيلتمس له العذر فهو شخص مسكون بالبحث العلمي ومدمن على إجراء التجارب ،التجربة تلو التجربة ، ومختبره هو المكان الوحيد الذي يجد فيه راحته إلى حد أنه قد ينسى نفسه فيه بالثلاثة أيام والأربعة لا يأكل إلا بعضا من الخبز والجبن إن هو أحس بالجوع مع شربه للقهوة وبعض العصائر الباردة . وهو في طريقه يسير على غير هدى وهائم على وجهه لا يفكر إلا في اللولب لفت انتباهه هاتف للخدمة العامة بإحدى الزوايا ، وضع قطعة نقدية وركب الرقم ، إذا بصوت امرأة تجيب على الهاتف ، بادرها بقوله " أمي حبيبتي سأغيب بعض الوقت فلا تقلقي علي" وضع السماعة بسرعة قبل أن تستفسره عن وجهته وعن الرفقة التي سيرافقها والوسيلة التي سيركبها ومدة الغيبة ، هذه أسئلة لا يقوى على سماعها وليس في وسعه أن يقنع أمه بفائدتها ومخافة إن طال الحديث مع أمه ربما تثبط عزيمته فيتراجع عن قراره .وهو قافل إلى مختبره دخل مكتبة لبيع الكتب ليودع أحب شيء إليه في هذه الدنيا بعد حبه لأمه ، سيتملى قليلا في الكتب ويقرأ آخر إصدار صدر منها ثم بعدها يرحل ، وهو بين الرفوف طرأت بباله فكرة ظنها أنها مفيدة ن قال لم لا آخذ معي كتابا ما في رحلتي ، ثم تساءل وأي نوع من الكتب آخذ معي ؟ احتار في الأمر . وهو يبحث بين الكتب المصفوفة أمامه إذ عثر على نسخ من القرآن مترجمة إلى أكثر من لغة تصفح نسخة منه مكتوبة بلغته فإذا به يقرأ فيها قصة خلق الإنسان ـ أين خلق ومم خلق ولماذا خلق وكيف نزل من السماء إلى الأرض والدور الذي يجب عليه أن يضطلع به في دنياه ومآله الذي سيؤول إليه ـ قال هذا الذي كنت أبحث عنه ، سأصحب معي إلى هناك نسخا مترجمة إلى أربع لغات عالمية أخذ النسخ ودفع ثمنها ، في طريقه إلى المختبر عرّج على بائع الورد واشترى منه وردتان بلونين ،واحدة حمراء وأخرى بيضاء ، الحمراء سيتخذها رمزا للمحبة أما البيضاء فستكون رمزا للسلام وقفل قاصدا بخطى حثيثة إلى المنزل ، نزل إلى القبو وفتح الباب الحديدي المحكم الإغلاق الذي أصدر صريرا حادا لاحتكاك أسفله بالأرض ، لم يمتعظ من الصوت كسابق عهده ، وقصد توا جهة اللولب بإصرار وعزم لا رجوع بعده وقفز على كرسي أمامه ومن ثَمَّ ارتمى في وسط الدوامة اللولبية التي ابتلعه كما يبتلع الحوت الكبير سمكة صغير.
غاب العالم الشاب عن الأنظار واختفى معه اللولب ولم يبق بعده إلا أثرين اثنين من آثاره الدالة عليه ، بصمة حذائه المنطبعة على غشاء الكرسي الأسود. وصورة جماعية لتلاميذ بالصف الرابع ابتدائي ظهرت معلقة على الحائط بعد اختفاء اللولب وقد اصطفوا بين جالس وواقف يتوسطهم تلميذ تشع عيناه ذكاء وحماسة وبيده سبورة صغيرة كتب عليها : " مدرسة المستقبل ـ القسم الرابع ابتدائي "
حسن ستيتو