الحكاية الخامسة :
النعال الإسفنجي
-----------------
وما دام الحديث عن أخي المتوفي ، فقد روى لنا او ان اخوتي رووا عنه و وعيت عنهم وعنه , أنه عُـين معلما في مدينة البصرة في أقصى الجنوب بعد تخرجه من دار المعلمين العالية وتعيينه كان في نفس عام ميلادي1959 ، وكان يحكي لنا عن البصرة وشط العرب والعشار وشناشيل ابنة الجلبي التي اخترع مغازلتها و الهيام بها الشاعر السياب , كما عرفت من برنامج تلفزيوني عن السياب , وان السياب لم تكن له علاقة مباشرة بالفتاة وانما كان يمر تحت شناشيل قصر أبيها الواسع الثراء في أيام مراهقته , كما حدّث بذلك أحد اقربائه في ذلك البرنامج , وربما رأى شبح فتاة يطل من بين زخرفة الشناشيل , أو هكذا توهم يا له من شاعر مسكين سلبت منه حتى فتاة خياله و أشعاره كما سلبت منه الكثير من نعم و مباهج الحياة ومات كسير الفؤاد ومعتل الجسم بعد ان أصابه داء السل وحاصره الفقر وأنهكه المرض , الذي كان علاجه مستعصيا في ذلك الزمان ولكنه ابقاها أي ابنة الجلبي خالدة ما دام للشعر قارئ شأنها ِشأن ليلى قيس و بثينة جميل و غيرهن من ملهمات الشعراء عذريهم و فاجرهم , وخلد شناشيل أبيها – والشناشيل على حد علمي شرفة البيت المصنوعة من الخشب و الزخارف المطلة من علو على ما تحتها - كشأن دور الاغنياء حينئذ ، و حدثنا أخي أيضا عن ميناء البصرة و سفنها وعن أهل البصرة وسماحة طباعهم , وعن المظاهرات والصراع بين الاحزاب والحركات السياسية ايام حكم قاسم في اوائل الستينات من شيوعية وبعثية و قومية ناصرية ودينية او أسلاموية كما تدعى حاليا ، وفي سوق البصرة اشترى بعض اللوازم الشخصية ومنها نعالا اسفنجيا ذي طبقات ملونة ثلاث سميك المداس و بشريطين من اللدائن تلتقي من الامام وتنغرز في مداسه ليدخل القدم فيه بين الأصبع الكبير والذي يليه وندعوه - نعال ابو الاصبع- , وأظنكم تعرفون صفته و لعلي أستعجمته عليكم كما حاول أحد المتنطعين تعريب كلمة ساندويج , واستصحب أخي نعاله الموصوف معه في الحقيبة وهو ذاهب في أول اجازة قاصدا القرية المشرفة على دجلة والتي تجاور واديا مع حافات مرتفعة تدل على اصطناعه , يقال أنه كان نهرا شقه العباسيون أيام ازدهار دولتهم و هذه القرية تسكنها العائلة والتي يغادرها بعض اخوتي الى دارنا العتيق في المدينة للدراسة عندما يحين موعدها , بينما يبقى الوالدان في القرية لتأمين عيش الأسرة ، وكان في القرية شيخان لكل منهم ديوان أو مجلس ينصب عادة في ساحة امام دار كل منهما , وداراهما متقابلان لا يفصلهما الا فسحة يمر بها ما يعتبر الشارع الرئيس في القرية ، حيث تتوزع بسط ريفية على أضلاع شكل رباعي يحتل الشيخ وسط أحد الاضلاع وأمامه موقد ودلال القهوة حيث تتضوع رائحتها مع اعمدة من الادخنة المتصاعدة من قطع الاخشاب التي تتقد و يخبو نارها حسب هبات الريح , تُـعلم رواد المجلس بحلول موعد انعقاده مسبوقا برنات الهاون النحاسي لطحن حبات القهوة , و رواد الديوانيين هم أغلب رجال القرية الا من شغله شاغل أو حزبه أمر , وفي طقس مسائي متكرر و ربما صباحي أيضا ولكن بحضور أقل ، تتعالى فيه الضحكات لنكات وطرائف يعاد روايتها , وأصوات عالية حينا تنم عن خلاف حول حدود الزروع واتلاف الماشية لزرع احدهم او حول ري الحقول أو آفة حلت بها أو خلاف حول أمور الخطبة والزواج أو ما يحدث في القرى المجاورة وما رآه من سافر منهم خارج قريته , وربما جدل حول كروية الارض أو وجود جبال ماء في السماء ينزل منها المطر ، وكان الجدال يأخذ منحى الطرافة ويشارك فيه بعض المعلمين في مدرسة القرية الذين يملأهم الزهو و الفخار على ما اكتسبوا من علوم و معارف في دراستهم المتواضعة و من مطالعة الصحف و المجلات القليلة التي تقع في أيديهم و كانوا يتصورن انفسهم كشموع تضئ في ليل بهيم , لكنهم اندمجوا مع اهل القرية و سكنوا القرية لرداءة الطرق الموصلة الى المدينة ولتقليل النفقات في الأرجح ، وكان أحد الشيخين لديه ديون داخلي عبارة عن غرفة خالية من أي شيء , تفرش بالبسط عند تحول المجلس للداخل بسبب المطر أو البرد القارس أو شمس حارقة , و يتوسط أرضيتها حفرة يسكنها الرماد و قطع الخشب وتستخدم لإعداد القهوة ، وكانت الغرفة داكنة الجدران وتسكن سقفها عصافير نعرفها من اسوداد ريشها من اثر الدخان المتصاعد من موقد الشيخ و كان أحد اخوتي يتركها و لا يصيدها بمصيدته احتراما للشيخ ، وكان هذا الشيخ وحتى زميله الآخر يترك ديوانه ويأتي لديوان الآخر بل قد يصحب جلاسه ايضا اذا كانوا اقل عددا او حين ينفذ الكلام و الطـُرف وتتعالى اصوات الديوان الآخر ويدفعهم فضول لا يقاوم لاستكشاف ما يحدث هناك أو اذا حضر شخص غريب او موظف حكومي لمجلس احد الشيخين ، وقد حضر اخي مجلس أحدهما بعد سويعات من وصوله متمتعا بإجازة نصف السنة وهو يرتدي النعال الملون الذي اطنبت في وصفه ولم أراه لأن هذه الواقعة قد حدثت وانا لا زلت رضيعا , والذي جلبه معه من البصرة التي تجلب اليها بضائع من انحاء قصية كشأن الموانئ في أصقاع الأرض , ولم يسبق ان جلبه أحد الى المنطقة وحتى المدينة الأقرب كما أظن ، ولم يكد اخي يصافح ويعانق جلاس الشيخ الذي وقفوا للتحية ، وما كاد يجلس حتى قال أحدهم - شوف شيخ شوفوا ما جلب الاستاذ - وهو يقلب احدى فردتي النعال التي التقطها , وسرعان ما تناول أحدهم الفردة الأخرى من وراء ظهره , وصارت فردتا النعال – النعلان - يتداولهما الجالسون من يد ليد وصاروا يتعجبون من خفتهما وألوانهما وصنعهما وانه لا توجد فيهما خيوط او غرز بل ان أحدهم طواها ظهرا لبطن وآخر منهم وهو أكثرهم ظرفا و طرافة عضها بأسنانه ليختبر صلادتها و مرونتها وضج أغلب الجلاس بالضحك والقهقهة العالية بل تمايل الشيخ يمنة و يسرة ضاربا فخذيه وفخذ من جاوره براحتي كفيه و غص بضحكات مكبوتة و احتقن وجهه وانطرح على قفاه , وبين نوبات السعال استطاع الشيخ الذي أسقط وقاره , ان يقول- ماذا فعلت بنا يا استاذ بهذا النعال العجيب - وبقت هذه الحادثة تروى في القرية حتى ازاحتها احداث جديدة , و هكذا أستحال النعال الى شيء خرافي غريب يبعث على الدهشة والعجب والغرابة ، قذفت به احدى الصحون الطائرة الزائرة في سماء القرية ، ومرت الايام واتصلت القرية بالمدينة من خلال الطرق المعبدة والسيارات واظن كانت توجد سيارة واحدة في القرية او في قرية مجاورة و صار من أبناء هؤلاء الناس البسطاء خلال عقدين او ثلاث من السنين ضباط كبار في الجيش و أساتذة في الجامعة ومنهم من سافر أو مكث ردحا من عمره خارج العراق في بلاد الغرب أو الشرق ورأى ما رأى و دخلت أدوات و مظاهر الحضارة والمدنية مرحبا بها أو عنوة كل فج من هذه الأرياف العصية كما كان يعتقد والتي لم تتغير لقرون عديدة خلت , لكن بقيت حكاية نعال أخي الإسفنجي تروى عندما كان يزور دارنا في المدينة أحد شهودها أو من سمع بها من اهل تلك القرية , و قد تروى عندما نلتقي نحن الاخوة في دار العائلة بعد ان تفرقت بنا سبل الحياة و ظلت تروى لجيل اخر من ابناء الابناء , ولكنهم قد لا يستسيغونها ولا تثبت في ذاكرتهم حيث تزيحها سيول دراما قصص الافلام و المسلسلات السينمائية والتلفزيونية والحكايات المتداولة بين بني جيلهم وفي وسائط الاتصالات الحديثة ,
ويبدو ان حكايانا تخصنا وحدنا تبقى و ترحل معنا .
________________
عبدالحكيم آل سنبل
10/3/2014