نحو تأويل علامي ( قراءة في الممارسة السيميائية المفتاحية بالمغرب )
أحاول من خلال هذه الملامسة أن أقتفي آثار جملة من الإشارات بغية تحديد طبيعة التصورات الكليانية ، الموجهة لانجازات و تنظيرات د . محمد مفتاح ، وذلك انطلاقا من مقدمات الفتوحات التي ضامت بين الشعر والفكر والفلسفة و المنطق والقصة والنص القرآني والموسيقى وكل أشكال الحركة ... مستثمرة ومسائلة لأدوات وآليات اجرائية تساكن بين المحسوس والملموس و المدرك والمفترض و المتخيل ...تقيس الغائب على الشاهد و التصور على الصورة ، والتعدد على الفرد ، والفرد على المتعدد . قراءة متعددة الروافد ، مشاركة في كثير من العلوم و " دون كل علم خرط القتاد " . وقفت على الشعر فتبنت القصدية في الأصوات و المعجم والتركيب النحوي ، وأبرزت " مقصدية الاقناع بالأدوات البلاغية و التناصية و الأفعال الكلامية ... " 1 ؛ فانتهت إلى أن الشعر تحكمه قوانين خاصة بالنوع أو الجنس الأدبي كالتشاكل و التباين ، وأخرى تتعلق بالمضامين التي يعرض لها كالتوثر و الصراع و المهادنة والاستسلام ، وهي بنيات ترسم ملامح سفر ا لإنسان في الدنيا من البداية إلى الوسط إلى النهاية .
كانت الأصوات ، والمعجم و التراكيب النحوية و البلاغية ، وهندسة النص ومداده وخطه . . علامات دالة ؛ ذلك لأن النص كائن ينمو و يتوالد و يدخل في علاقات متعددة الأطراف و الأبعاد ؛ الشيء الذي دعا د . محمد مفتاح إلى توظيف ترسانة مفاهيمية و أدوات اجرائية متعددة المشارب والمصادر عمل على التوليف بينها فخرج بتصورات تحكم للنصوص باتساقها و انسجامها و توحدها في دلالاتها السيميائية و ان بدت متنافرة في بعض الأحيان .
قراءات لم يكن همها تقديم الأحكام الجاهزة ، و انما الانطلاق من بناء وبنية النص و خصوصيته لربط الصورة بالتصور و الدال بالمدلول بالمرجع والمقصدية . فالنصوص الشعرية قديمها وحديثها تسمها مظاهر تؤسس جماليتها كالتكرار
والتناص ، والتوازي ، والمماثلة ، والمشابهة ، و التباين والتشاكل ... وهي فوق هذا " حل لغوي لمعركة بين قوات " 2 ، تكون أكثر شعرية كلما كانت المقابلات قوية و متوثرة .الشيء الذي يدفع المتلقي إلى التسلح بجملة من المفاهيم و الآليات التي يستعيرها من مختلف المباحث والنظريات والعلوم ، كالنظرية الكارثية و المورفولوجيا ، و نظرية الشكل الهندسي ، والدينامية ، والحرمان ، ونظرية الذكاء الاصطناعي ، ونظرية التواصل والعمل ... من أجل تحقيق علاقة حميمية مع النص حتى تستوي لديه مهمة الفهم و التأويل من خلال ما يتيحه النص من عمليات كالمقايسة و التصنيف ، والمماثلة والمشابهة ، والدينامية .. .
هذه العلاقات لاتخص نصا بعينه ، ولا جنسا أوكتابا بمفرده ن بل هي حاضرة في كل المتون : الد ينية والشعرية والتاريخية و السردية والفلسفية ... التي تعامل معها د . محمد مفتاح و من زاوية شمولية ، امتدت حتى دراسة الحركة والموسيقى . قاسمها المشترك أنها دلائل – على اختلافها وتشابهها – على الحقائق الكونية الثابثة والمتمثلة في اتفاعل والغائية والانسجام والانتظام ..
هذه الخصائص تريد أن تقول بان الكتابة و اللغة والانسان والكون ... علامات دالة . لكن كيف يفهم ويؤول السيميائي الدوال والمدلولات في علاقتها بالمرجع و المقصدية لينتهي إلى هذه البنية العميقة الموجهة للرسالة ؟
بل كيف يحكم للنص بقيمته وشاعريته التي هي عبارة عن معركة لقوى متشاكسة وأخرى متآلفة ؟ ... لملامسة شيء من ذلك دعنا نبدأ بأحد اقصر نص شعري في اللغة الأنجليزية :
" تأمل " لميروين W . S . Merwin (3 )
تأمل
إلى من سأريها ( بضم الهمزة )
سطر واحد . جملة واحدة ، غير مرقمة ، لكنها توحي بعلامة استفهام من خلال نحوها وتركيبها . ما الذي يجعل منها شعرا ؟
بكل تأكيد بدون عنوانه ( الهاء تعود على السطر ) لا يمكن ان يكون شعرا . لكن لا العنوان وحده يمكن أن يكون نصا شعريا . ولا هما معا يمكن أن يكونا شعرا بمفرديهما . بإعطاء العنوان والنص يتشجع القارئ على صنع شعر . فهو ليس مرغما على أن يكون كذلك . لكنه لا يمكن أن يفعل أكثر من هذا بهذه المادة ، ولا أي شيء مكافئ .
كيف يمكن أن نكون شعرا خارج هذا النص ؟ هناك ، شيئان فقط يمكن أن نشتغل عليهما ، العنوان و السؤال المطروح من قبل السطر الوحيد ، و العامي . السطر ليس فقط عاميا ، بل هو نثري ؛ لا تتعدى كلماته المقطع الواحد ، مختوم بحرف الجر اللام ( ترجمنا كلمة to التي جاءت في آخر الجملة الانجليزية بكلمة ( إلى ) التي جاءت في أول الكلمة ) ، وهو شيء نجده متضمنا في كلام أي متكلم للغة الأنجليزية . فهو معنى واضح تماما .لكن هناك معنى آخر مبهما ، و خفيا . ضمائره الثلاثة ( من (who) ، أنا ( ( I ، هي ( IT ) - تطرح مشاكل المرجع . فعل جملته الشرطية – يطرح مشكل الموقع .سياق الكلام الذي يسد الحاجة إلى المعلومة المطلوبة لتكوين الجملة البسيطة الدالة والمفهومة معا غير موجود هناك . وهذا أمر يجب أن يستحضره القارئ .
لصناعة شعر لهذا لنص لا يجب على القارئ أن يعرف اللغة الأنجليزية فحسب ، بل عليه- أيضا – أن يكون على دراية بقانون الشعر : قانون التأمل الجنائزي ، كما كان معمولا به في الأنجليزية من بداية النهضة إلى الوقت الحاضر .
1 – د . محمد مفتاح : تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) ، المركز الثقافي العربي ، الدارالبيضاء ، المغرب ، ط 2 ، 1986 ن ص 5 .
2 – د . محمد مفتاح : في سيمياء الشعر القديم ، ط 1 ، 1982 ، دار الثقافة ، الدارالبيضاء ، المغرب ، ص 186 .