الخطأ اللغوي والقوانين الصوتية
الدكتور : دين العربي
lar_dine@yahoo.fr
توجد اللغة العربية المعاصرة بين التطور الذي يعني جميع جوانب الحياة ، والخطأ الذي يتخوف منه الغيورون على اللغة العربية من منطلق أنه يشكل أكبر تهديد لكيانها ، على اعتبار أن جزءا كبيرا من الخطأ المرفوض تسلل إليها قسرا تحت ذريعة التطور ، بيد أن للتطور اللغوي قوانينه ، وللعربية أيضا قوانينها وضوابطها التي ترفض الخطأ وتقبل التطور ، فليس كل جديد مقبولا ، وليس كل جديد مرفوضا أيضا ، ولكن الخطر أن تتم الغلبة للجديد المرفوض حتى يصبح نموذجا لغويا يقاس عليه . إن بقاء اللغات مرهون بعوامل شتى كالمحافظة والتجديد والإبداع ، وليس مقياساً صحيحاً أن يصبح للخطأ الشائع قانون يحميه ، كأن يتستر تحت قوانين التطور اللغوي ، فالتعليل للخطأ بالتطور في جميع الحالات يُلغي من الوجود ذلك التكامل بين مكونات الأداء اللغوي من حيث الشكل والمضمون ، نحواً وصرفاً وبلاغة وأدباً ، وغيرها ، هذه العناصر التي تتسع لجميع جوانب الحياة ، وتضمن بقاء اللغة ، تصبح في خطر إذا تم قبول أي خطأ على أنه تطور .
إن من بين اهتمامات اللسانيات الحديثة تلك التحولات التي تطرأ على البنية اللغوية أو على جزء منها في فترات زمنية معينة ، وعلى مستويات معينة ، كما يهتم بتتبع النتائج التي تترتب عن ذلك التطور في الاستعمال اللغوي ، لكي يجد لها التفسيرات العلمية الدقيقة ، ويتم ذلك تحت غطاء قوانين التطور اللغوي ، فيحدد مجالاته ، والمؤثرات اللغوية التي تؤدي إليه ، كما يسعى إلى إيجاد الحد الفاصل بينه وبين اللحن في اللغة ، وكان من أبرز مظاهر التطور اللغوي في العربية الحديثة ظاهرتا المماثلة والمخالفة ، فقد تسللت أخطاء لغوية كثيرة تحت هذا الغطاء لأنها وجدت لها تخريجات من لدن بعض اللغويين على نحو يجعل لها قوانين صوتية تضمن البقاء على أساس أنها الصواب الذي يعلي شأنها ، مع أن لهتين الظاهرتين الأثر الكبير على اللغة .
أـ أثر المماثلة :
لا يقلّ جانب الوقوع في الخطأ على مستوى الصّوت أهمّية عن غيره من الأخطاء على مستويات أخرى ، وبخاصّة تحت تأثير المماثلة الصّوتيّة ، ما يؤدّي في أحيان كثيرة إلى تشويه المعنى ، " كما يحدث مع التّقابلات الصّوتية الآتية : الدّال والتّاء - الذّال والثّاء - الزّاي والسّين - العين والحاء - الغين والخاء" ، فاللّبس قد يحدث بين كلمتي : يَزْحَرُ ويَسْحَرُ لأنّ المضارع يَزْحَرُ من الزّحير ، يقال : « زَحَرَ - زَحِيرًا ، وزُحَارًا ، وزَحَارَةً : أخرج صوته أو نفَسه بأنين من عمل أو شدّة ، ويُقال : زَحَرَتْ بالوَلد : ولَدَتْه ، والبَخيلُ : سُئِل فاستثقل السّؤال ، وفلانا بالرّمح زَحْرًا : شَجَّه به » ، أمّا الفعل يَسْحَرُ فمن الماضي سَحَرَ وهو معنى كثير التّداول بين الألسن ، واسم الفاعل منه ساحِر ، واللّبْس قد يحدث أيضا بين كلمتي : تَلْميح وتَلْميع ، فالتَّلْميح الإشارة ، وأما التَّلْميع فَجَعْل الشّيء يلمع .
قد تقلّ خطورة الوقوع في هذا النّوع من الأخطاء إذا كانت حدود وقوعه تتّصف بالنّدرة أو زلّة اللّسان ، إلاّ أنّ خطورة الوقوع فيه تزيد تدريجيّا بتدرّج مستوى الخطاب وميدانه ، وبخاصّة إذا كان مجال وقوعه المنابر أو المدارس أو الصّحف والإذاعات ، وقد أورد أحمد مختار عمر شهادات له في هذا الموضوع قال في إحداها : « وقد سمعت أحد المذيعين يقرأ الجملة : "تعتقد أنّ الوضع في لبنان..." هكذا : "تحتقد أنّ" ، فأبدل العين حاء تحت تأثير التّاء المهموسة . كما سمعت مذيعا آخر يقرأ العبارة :"إليكم نشرة الأخبار" - يقرؤها هكذا : "إليكم نشرة الأغبار" ، حيث جهر الخاء تحت تأثير الباء المجهورة فتولّدت الغين » ، فإذا كانت الإذاعة تبثّ الخطاب إلى عامّة النّاس فكيف لمن لا صلة له بمبادئ السّلامة اللغوية أنْ يعرف أنّ ذلك يدخل في إطار الأخطاء اللّغوية أو أنّ ذاك التّركيب خطأ لأن السياق يقتضي فيه هذا الفعل أو ذاك ؟
يكثر الحديث عن موضوع المماثلة في مجال التّصحيح اللّغوي ، على اعتبار أنّ هذه الظّاهرة تعمل على تقريب الأصوات بعضها من بعض ، إذ يتداخل بعضها ويتلاحم لدرجة يصعب فيها التّفريق بين صوت وآخر ، ما يؤدّي غالبا إلى نطق بعض الألفاظ بالشّكل غير المطلوب ، لأنّ المماثلة نوع من أنواع الاقتصاد اللّغوي ترمي إلى تيسير النّطق ، ثمّ إنّ من طبيعة البشر البحث عن أيسر السّبل للتّلفّظ بالكلمات ، لذلك يلجأ إليها المتكلّم في أحيان كثيرة ، غير أنّه كما يرى دانيال جونز Daniel Jones في أحيان أخرى " يفضّل التخلّي عنها بهدف التّقليل من عدد الحركات والتّعديلات الّتي تؤدّيها الأعضاء المنتجة للكلام حين الانتقال من كلمة إلى أخرى ، فهي تولّد قدرا من الاقتصاد في الجهد بنطق سلسلة من الكلمات" ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ الإفراط في الاتّخاذ بالمماثلة عن وعي أو غير وعي دون ضابط علميّ قد يؤدّي إلى الخروج باللّغة عن المألوف .
تخرج بعض الاستعمالات اللّغويّة إلى غير المألوف لا عند عامّة النّاس فحسب بل أيضا عند أهل اللّغة الّتي جرى التّعامل بها وفق المعايير المتعارف عليها ، بل في أحيان كثيرة يصبح غير المألوف مألوفا عند الناطقين بالعربيّة ، فيُهمَل الصّواب ويشيع الخطأ حتى يصبح مألوفا ، بل قد يحال إلى صواب وهو الّذي كان في يوم ما مذموما ، وكذلك قد يتسرّب الخطأ من هذه الطّبقة العارفة باللغة إلى عامّة النّاس الّذين يعدّون هؤلاء مرجعا لا يمكن ردّ صوابه .
تشيع بعض الاستعمالات الخاطئة نتيجة لتقارب الأصوات ، فلا يشعر النّاس بتحوّلها من صفات معيّنة إلى أخرى شديدة القرب من صفاتها الأصل ، وهذا ليس جديدا على لغة العرب فقد ذكر ابن هشام اللّخمي أنّ النّاس "يقولون للسِّرداب - وهو حفير تحت الأرض - (زِرْداب) ، والصّواب سِرداب بالسّين" ، والّذي حدث هنا هو أنّ السّين المهموسة المرقّقة تأثّرت بالدّال المجهورة المرقّقة فقلبت إلى حرف مجهور مرقّق مثلها وهو الزّاي على سبيل التّماثل المدبر الجزئي المنفصل .
كان بعض العرب يقلبون الصّاد زايا إذا كانت ساكنة بعدها دال ، وممّا أورده الزّبيدي عن هذه المسألة في لحن العوام قوله : « ويقولون للّذي يجعل تحت الصَّدغ " مَزْدَغَة " . قال محمد : والصّواب " مِصْدَغَة " - وإن شِئْت قلت " مِزْدَغَة " بالزّاي - والزّاي تخلف الصّاد ، إذا كانت ساكنة وبعدها الدّال ؛ يقال : " أصدقاء " و"أزدقاء " . وتقول العرب في مثل من أمثالها :" لم يحرَمْ مَن فَصْدَ له ، ومن فُزْدَ له" ، يعنون من فُصِد له ذِرَاع البعير . وكانوا يفعلون ذلك عند المجاعات ، ويطبخون الدّم ويأكلونه » ، والملاحظ أن تناول الصّاد في هذا الموضع بهذا الشّكل معروف إلى اليوم في لهجات عربيّة كثيرة ، فالجزائريّ يقول عن الصَّادق مثلا : « مُزْدُق » وهو يريد « مُصْدُق » ، وفي الفصحى يقال : « تَزْدير » وهم يريدون « تَصْدير » .
ذكر ابن مكّي أنّ العامّة في عصره يقولون : « فُلان مُشْتَهِدٌ في حاجتك ، والصّواب : مجتهد ، وهو مُفْتَعِل من الجهد » ، أي بإبدال الجيم شينا ، كما ذكر ابن الجوزي في تقويمه : « وتقول :"الشَّاة تجترّ" ، والعامّة تجعل مكان الجيم شينا » ، وفي اللّهجات العربيّة الحديثة أيضا هذا النّوع من التّماثل ، إذ يقولون : « مُشْتَمَع » وهم يريدون : « مُجْتَمَع » ، ويقولون : « مُشْتَرِئٌ » للشّجاع وهم يقصدون « مُجْتَرِئ » ، " والتّماثل هو سبب حدوث اللّحن في الأمثلة السّابقة ، فالجيم وهي صوت مجهور جاورت التّاء وهي صوت مهموس فتأثّرت الجيم بالتّاء تأثرا تخلفيّا وهو كثير الشّيوع في اللّغة العربيّة ، فقلبت الجيم صوتا مهموسا ، يتّحد معها في المخرج وهو الشّين ، فكلاهما من أصوات وسط الحنك ، ومخرج الجيم عند التقاء وسط اللّسان بوسط الحنك الأعلى ، ومخرج الشّين عند التقاء أول اللّسان وجزء من وسطه بوسط الحنك الأعلى" ، وأمثلة هذا النّوع كثيرة في العربيّة القديمة والحديثة على حد سواء .
ومن الأخطاء الّتي يقع فيها أهل اللّغة قولهم : « هذه أوزان مُضْطَردَة » بدل ( مُطَّردَة ) ، يقول صلاح الدين زعبلاوي في هذا الشّأن : « ( اطَّرَدَ ) وزنه ( افْتَعَلَ ) ، والثّلاثي منه (طَرَدَ). فـ ( افْتَعَلَ ) من ( طَرَدَ ) هو : ( اطتَرَدَ ) بالتّاء بعد الطّاء . والقاعدة أن تقلب التّاء هنا طاء ، فيصبح ( اطَّرَدَ ) بتشديد الطّاء ، واسم الفاعل منه : ( مُطَّرِدٌ ) ، لا مُضْطَرِدٌ كما يقول بعض الكتّاب خطأً » ، وهي من الوجهة الصّوتية مماثلة مقبلة كليّة متّصلة .
يقول بعضهم : « بَحْثَرَ مَالهُ » ، فيظنّ كُثُر أنّ ذلك يدخل في باب الخطأ ، غير أنّ هذا ليس صحيحا ، فالعدناني يجيزه و( بَعْثَرَ ) أيضا ، مستندا في ذلك على مصادر لغويّة كثيرة فيقول : « ويقولون : بَحْتَرَ فُلانٌ مَالَه ، والصّواب : بَحْثَرَه ، أي بدّده وفرّقه . قال تعالى في الآية التّاسعة من سورة العاديات : أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ، وقَد قُرِئ الفعل الثّاني فيها بُحْثِرَ . وممّن ذكر أيضا بَحْتَرَ مالَه فَتَبَحْثَرَ ، الفرّاء ، وتهذيب الألفاظ لابن السّكيت والأزهري في التّهذيب ، ومعجم مقاييس اللّغة ، والمختار ، واللّسان» ، المقابلة بين حرفي ( العين ) و( الثّاء ) من جهة ، وحرفي( الحاء ) و( الثّاء ) من جهة أخرى تفضي إلى ما يلي ذكره : قد يثقُل نطق ( بَعْثَرَ ) أحيانا لأنّ العين من الحروف التّسريبيّة المرققّة المجهورة ، وأمّا الثّاء فمن الحروف التّسريبيّة المرققّة المهموسة ، لذا كان (بَحْثَرَ ) أجرى على اللّسان من ( بَعْثَرَ ) ، فالحاء مثلُ الثّاء من الحروف التّسريبية المرقّقة المهموسة لذا انجذبت العين نحو الثّاء فقلبت حاء على سبيل المماثلة المقبلة الجزئيّة المتّصلة ، لهذا السّبب تسمعهم يقولون : « بِحْثَة » وهم يقصدون (بِعْثَة).
تتطوّر اللّغة باستمرار ، فيأخذ ذلك التّطور مظاهر متعدّدة ، ومن صور تطوّر العربيّة ظاهرة المماثلة ، إذ تأخذ الكلمة مسارا بطيئا أثناء عمليّة التّغيير ، لذا فإنّنا لا نشعر بذلك التّطور ولا نأبه به إلى أن يتمّ البحث في أصول الكلمات ، وقد ضمّت بطون المصادر اللّغوية مادّة وفيرة شكّلت حُججا قاطعة لمسألة التّطور اللّغوي ، والمماثلة والمخالفة مظهران من مظاهر هذا التّطور ، "ينجم عنهما تطوّر في بنية الكلمة قد يؤدّي إلى اعتبار البنية الجديدة لحنا لغويّا عند أصحاب حركة تنقية اللّغة" .
المماثلة صورة من صور التّطور الصّوتي ، وهي من الظّواهر اللّغوية الّتي تمسّ جميع لغات العالم بأشكال مختلفة تبعا للخصائص الصّوتية لكلّ لغة ، "ولا نكاد نعثر على تطوّر صوتي لحق جميع اللّغات الإنسانيّة في صورة واحدة" ، فتحوُّل صوت القاف إلى همزة في منطقة تلمسان من الغرب الجزائريّ أو إلى كاف في منطقة جيجل من شرق البلاد لا يمثّل سوى صورة صوتيّة خاصّة بهتين المنطقتين أو بمناطق أخرى قليلة في الوطن العربيّ .
بـ ـ أثر المخالفة :
لقد أخذ موضوع المخالفة حيّزا غير هيّن من اهتمام اللّغويين ، ومن مجال التّصويب اللّغوي منذ القديم إلى اليوم ، على الرّغم من قلتها في اللّسان العربيّ ، إذ أنّ من سبل معالجة الأخطاء اللّغوية على مستوى الصّوت التّنبه لموضوع الاقتصاد اللّساني ، وهل استعمل في محله ، وأيضا الخروج عن معايير هذه الظّاهرة عند مستعملي العربيّة ، ولعلّ" السّبب في المخالفة من النّاحية الصّوتية هو أنّ الصوتين المتماثلين يحتاجان إلى جهد عضليّ في النّطق بهما في كلمة واحدة ، ولتيسير هذا المجهود العضليّ يُقلب أحد الصّوتين صوتا آخر من تلك الأصوات الّتي لا تتطلّب جهدا عضليّا" ، فيتحوّل النّطق ببعض الكلمات إلى أخطاء لغويّة ما لم يكن هذا التّيسير اللّغوي خاضعا للقوانين اللّغوية التي تضبطه .
يرى بعض اللّغويين أنّ المخالفة سبيل من سبل تنقية اللّغة من الشّوائب وسبيلا فاعلا من أسباب القضاء على الخطأ ، لأنّ الأصل في المخالفة أن تكون نقيضا للمماثلة كما سلف ، على اعتبار أنّ المماثلة قوّة تخفّض من الخلافات بين الفونيمات ، غير أنّها قد تكون سببا من أسباب الخطأ في اللّغة إذا فاق ذلك الجهد حدوده ، لذلك تأتي المخالفة ساعية لضبط هذا الإفراط وجعله تحت السّيطرة بشكل أكبر ، يقول أحمد مختار عمر : « فالعلماء ينظرون إلى المماثلة على أنّها قوّة سالبة في حياة اللّغة ، لأنّها ترمي إلى تخفيض الخلافات بين الفونيمات كلّما أمكن ، ويتخيّلون أنّه لو تُرك العنان للمثالة لتعمل بحريّة فربّما انتهت إلى إلغاء التّفريق بين الفونيمات ذلك التّفريق الّذي لا غنى عنه للتّفاهم » ، فتلفّظ بعض النّاس ببعض الأصوات بغير الصّيغ المطلوبة قد يُخرج الكلمات من المعاني المطلوبة إلى أخرى تُدخل الكلام - في إطاره التّركيبي - في الخطأ نتيجة لتغيير الفونيمات عن قصد أو غير قصد نحو قولهم : "« خُبْزٌ مُحَمَّص » عوض ( خُبْزٌ مُحَمَّس ) الّتي تمثل وجه الصّواب ، بالسّين ، مأخوذ من الحماسة ، وهي الشّدة" ، وفي هذه الحالة خالفت الصّاد السّين لتتوالى الميمان والصّاد ، على اعتبار أنّ حرف اللّين ( الميم ) مال نحو التّفخيم بتضعيفه ، فصار أقرب إلى الصّاد المفخّمة ، لذا كان لفظ (مُحَمَّص ) أيسر على اللّسان من (مُحَمَّس ) الّتي هي الأصل والصّواب .
يذهب بعض اللّغويين إلى القول بأنّ من أكبر أسباب حدوث المخالفة السّبب النّفسي ، فالمتكلّم وهو يسعى إلى الاقتصاد في كلامه بغية إبلاغ مكنوناته بجهد أقلّ يقع في المحضور ، إذ يتلفّظ كلمات وهو يريد غيرها ، يقول برجشتراسر : « وأمّا التّخالف ، فالعلّة فيه نفسيّة محضة ، نظيره الخطأ في النّطق ، فإنّا نرى النّاس كثيرا ما يخطئون في النّطق ، ويلفظون بشيء غير الّذي أرادوه ، وأكثر ما يكون هذا إذا تتابعت حروف شبيهة بعضها ببعض ، لأنّ النّفس يوجد فيها قبل النّطق بكلمة ، تصوّرات الحركة اللاّزمة على ترتيبها ، ويصعب عليها إعادة تصوّر بعينه ، بعد حصوله بمدّة قصيرة . ومن هنا ينشأ الخطأ ، إذا أسرع الإنسان في نطق جملة محتوية على كلمات ، تتكرّر وتتتابع فيها حروف متشابهة . وكثيرا ما يتسامر الصّبيان بالتّسابق إلى نطق أمثال هذه الجمل بسرعة وبدون خطأ» ، ولذلك كانت المخالفة صورة من صور المعالجة اللّسانية في سبيل تطويع اللّسان على الصّواب ، لأنّ النّطق بكلمة ( سَمْس ) طلبا لكلمة ( شَمْس ) الّتي تمثّل الصّواب في الأصل يُعدّ خطأ لغويّا ، فالمخالفة اقتضت تغيير (السّين) بحرف ( الشّين ) تجنّبا لتكرار ( السّين ) وتسهيلا لعمليّة النّطق ، إذ أنّ تغيير كلمة (شَمْش) في السّامية الأولى يعدّ من التّغيرات التّاريخيّة الّتي جعلت ( شَمْش ) ( سَمْس ) ثمّ (شَمْس) .
يسوق الزّبيدي في لحن العوام نماذج من الأخطاء اللّغوية في إطار ظاهرة المخالفة فيقول : « ويقولون : كُرْناسة للدفتر ، ويجمعونها على كَرَانِيس ، ويصرّفون الفعل كَرْنست الكتاب كَرْنَسة . قال محمّد : وذلك خطأ ، والصّواب : كُرَّسة وكَرَارِيس ، وقد كَرَّسْت الدّفتر ، وكلّ ما ضممت وركَّبت بعضه فوق بعض فهو مُكَرَّس » ، فما يبدو من هذا المثال هو أنّ أهل عصر الزّبيدي أبدلوا كلمة ( كرّاسة ) بـ ( كُرْنَاسة ) طلبا للتّخفيف ، والمخالفة هنا حدثت طلبا لتخفيف مثلين مضعّفين وهما الراء ، ففُكّ التّضعيف ثمّ سُكِّنت الرّاء الأولى وأُبدلت الرّاء الثّانية نونا ، يقول عبد العزيز مطر عن هذين النّموذجين : « وفي هذه الأمثلة تغاير ، حدث لاجتماع مثلين مضعّفين في كلٍّ منهما ، فأبدل من أحدهما صوت شبيه بأصوات اللّين ، وهو النّون » ، لأنّ الراء الساكنة متبوعة بالنون المتحركة في ( كُرْنَاسة ) أجرى على اللسان من الراء المشدّدة في ( كرّاسة ) ، كون الحرف المضعّف في لغة العرب يزيد الصّوت قوّة مصدرها الجهد الّذي يبذله المتكلم أثناء النّطق بالأصوات ، لذلك فالنّاس يميلون للاقتصاد في الجهد طلبا للسهولة في الكلام .
أمّا من الأمثلة الّتي جاء بها ابن مكّي الصّقلّي في تثقيف اللّسان وتلقيح الجنان قوله : « ويقولون : ضَرَبْتُه فَقَنْطَرْتُهُ ، والصّواب قَطَّرْتُه ، وقَتَّرتُهُ أيضا ، أي ألقيته على أحد قُطْرَيه ، والقُطران والقُتْرَان : الجانبان ، قال الشّاعر :
« قَدْ عَلِمَتْ سَلْمى وجَارَاتُها مَـا قَطَّرَ الفَارِسُ إلاَّ أَنَـا
شَكَكْتُ بـالرُّمْحِ سَرَابِيلَهُ والخَيْلُ تَجْرِي زِيَمَ ابَيْنَنَـا »
يرى عبد العزيز مطر في هذا الموضوع أنّ "الإدغام فُكَّ في ( قَطَّرْتُهُ ) لتُبدَل الطّاء الأولى نونا فتتمّ المخالفة " ، أي بتحوّل ( قطَّرْتُه ) إلى ( قَطْطَرْتُهُ ) ثم إلى ( قَنْطَرْتُهُ ) . وقال ابن مكّي في موضع آخر من التّثقيف : « ويقولون للشّيء المُنْبَسِط : مفرْطَح . والصّواب : مُفَلْطَحُ ، باللاّم ، ويقال : مُفَطَّحٌ أيْضا ، وحكى أبو زيد : مُفَرْطَحٌ » ، يقول عبد العزيز مطر عن هذا النّموذج : « والأصل في هذه الأمثلة : مفطَّح بالطّاء المشدّدة ، فأبدل من أحد المثلين أحد الأصوات الشّبيهة بأصوات اللّين ، فصارت إمّا "مُفَرْطَح"بالرّاء ، وإمّا "مُفَلْطَحٌ " باللاّم ، وهما سواء ، وقد روى الجوهري : "مُفَلْطَح ومُفَرْطَح"وزاد ابن بري : مُفَلْطَح » . يتّضح من ذلك أنّ التّحول تمّ من ( مُفَطَّح ) إلى ( مُفَرْطَح ) و( مُفَلْطَح ) بإبدال الطّاء الأولى المدغمة راء أو لاما .
جاء في تقويم اللّسان للجوزي : « والعامّة تقول :" إِنْجَاص " وهذه " إِجَّانَة " ، وهم يقولون : إِنْجَانة » ، والملاحظ في هذه الأمثلة أنّه تَمَّ إبدال النّون من الجيم ، يقول عبد العزيز مطر في ذلك : « والّذي حدث في الأمثلة السّابقة هو إبدال النّون من أحد الصّوتين المتماثلين » ، أي فُكَّ المتماثلان وهما الجيم المضعّفة ، ثمّ أُبدلت الأولى نونا على سبيل المخالفة .
المخالفة كالمماثلة نوع من أنواع الاقتصاد اللّغوي ، تكون في الكلام طلبا للتّخفيف واليسر في التّواصل ، وإنّ من طبيعة المتكلّمين البحث عن أيسر السّبل لإيصال المبتغى إلى السّامع ، غير أنّ لهتين الظّاهرتين قوانين تحكمهما ، فلا يجوز الخروج عن مواضعهما بحجّة طلب اليسر ، فكلّما زادت درجة الخروج عن سنن اللّغة شاع الخطأ وذاع ، فقد سُمع في المجالس الرّسمية التّعليمية والتّربوية وغيرهما تحجّج بقوانين المماثلة والمخالفة لتبرير أخطاء هي في حقيقتها لا تتّصف بغير ذلك ، غير أنّ أصحابها يتحجّجون بمعايير لا صلة لها بما هم فيه من الأخطاء ، فيأخذ النّاسُ الخطأ على أنّه صواب بحكم الحجج الواهية التي ساقها هؤلاء على أنّهم أهل الاختصاص .