حكايات ـ ج٢
الحكيم والسلحفاة - ج٣
----------------------
  خرج صاحب الديوان الامبراطوري مع طائفة من الجند بحثا عن احكم حكماء الصين كما امر الامبراطور وكما نصحته  زوجته الامبراطورة  ليقلده الوزارة  العظمى ، ولكن من هو و كيف سيهتدي اليه واين يقطن ،ففكر صاحب الديوان ان يقصد المعلم والحكيم  ( شي جنغ )  الذي تعلم بين يديه قبل عشرين عاما عدد من العلوم و الآداب  وبعض من حكمة الصين في احدى البلدات البعيدة الواقعة على النهر الاصفر عسى ان يرشده الى احكم الحكماء ، وبعد مسيرة اسبوعين وصلها ، وخاب ظنه  اذ ان المعلم قد مات منذ بضعة اشهر في وباء اجتاح البلدة وتركها شبه مهجورة ،  ومدرسة المعلم قد استحالت الى وكر لعصابة  لصوص وقطاع طرق  والذين هربوا قبيل وصول البعثة الامبراطورية ظنا انها اتت للنيل منهم ،وبعد جهد اهتدى الى احد تلامذة المعلم فاخبرهم بمآل الاحوال وارشدهم ان يقصدوا الحكيم ( لي ) على مسيرة  اسبوعين ، فارتحلت البعثة و في الطريق  ثار الغبار فجأة ثم انكشف عن فرسان حاكم المقاطعة التي يمرون بها ، ظنا من الحاكم ان جند الامبراطور  جاءوا ليلقوا القبض عليه لتخلفه عن ارسال الضرائب الى خزينة الامبراطورية حيث انه تلقى وعيدا من الوزير وانذارا شديد اللهجة  وقد نفذت مدة الانذار ، وكان على حذر واخذ اهبته عل مقاومة اي قوة ترسل لمعاقبته ، وحين بعث  الحاكم من يفاوض عنه  تبين له حقيقة المهمة  المكلفة بها البعثة ، فاعتذر لهم واهدى امير البعثة بعض النفائس والأقمشة واعتذر بانه ظنهم جماعة من المتمردين واعلن الحاكم استعداده لإرسال الاموال الى العاصمة و طلب وساطة صاحب الديوان لاسترضاء الامبراطور، وارسل جنده لمرافقة البعثة حتى تعبر اخر حدود  مقاطعته ، وفي الطريق اعترض البعثة  بعض العجائز  والفلاحون بعد ان شاهدوا الرايات الامبراطورية ترفرف في مقدمة الجند ، ثم انحنوا اجلالا للبعثة العلية ، وشكوا حالهم وقلة المحاصيل والثمار و هلاك انعامهم و قسوة الحاكم في جبي الضرائب وسألوا ان يعفيهم الامبراطور من الضرائب هذا العام ثم كشف احدهم عن ظهره  الذي الهبته السياط  لتأخره عن موعد تسديد الضرائب كما اخذوا احد ابناءه رهينة حتى يسدد ما عليه ، فوعد رئيس البعثة بوقار وهيبة  ان يلبي سؤلهم ،وهو يدرك انه لا يستطيع التفوه بهكذا  كلام وخزينة الدولة توشك على الافلاس  ، واخيرا وصلت البعثة الى بلدة الحكيم لي ،واهتدوا اليه بعد جهد ولكنهم وجدوه عجوزا فانيا واهن العظم  محدوب الظهر ضعيف السمع ويتكلم بصعوبة ،ولما اخبروه  وفهم قصدهم ، ضحك وقال لو اتيتموني قبل عشرين او ثلاثين عاما لربما اجبت دعوة الامبراطور ، فماذا يستفيد الآن من عجوز هرم فان ، ولكني ادلكم على تلميذي الحكيم ( منغ) والذي يصغرني بعشرين عاما فعسى ان يستجيب لمطلب الامبراطور وهو اوعى مني ذاكرة و اعرف مني بأمور العامة والخاصة وسبق له ان اشتغل وزيرا وقاضيا لبعض حكام المقاطعات ، وقد سمعت انه قد زهد بالمناصب والنفوذ والجاه و سكن قرية نائية لصيادي السمك على البحر و يقطن كهفا هناك ويصحبه تلميذ نجيب يقوم بخدمته ويتعلم منه فشكره صاحب الديوان  وارتحل والجند بحثا عن الحكيم منغ ، وبعد نحو اسبوعين وصلوا مقصدهم ،وسألوا عنه فاهتدوا الى مسكنه وهو عبارة عن كهف يطل على ساحل البحر عند مصب النهر ، ودخل صاحب الديوان وهو على حصانه دربا حجريا ضيقا لا يكاد يتسع لأثنين  ، فوجد شيخا وقورا ذا لحية بيضاء طويلة يجلس عند مدخل الكهف في وضع  بوذي قبالة الشمس مغمض العينين كأنه يطلب دفأها، وحينما وقف صاحب الديوان قبالته وحجب الشمس عنه  نطق الشيخ قائلا : لو تنحيت ايها المار جانبا فقد حجبت عني سر الحياة و وقودها .
صاحب الديوان :صباح الخير ايها الحكيم منغ اي سر  واي وقود حجبت .
الحكيم : الشمس يا هذا  لولاها ما كانت حياة , من تكون؟
صاحب الديوان : انا صاحب ديوان الامبراطور العظيم  ايها الحكيم وقد بعثني اليك .
الحكيم :  لم يطرق سمعي لفظ الامبراطور منذ سنين طويلة  وانا في عزلتي  الا يزال هناك امبراطور !يا صاحب السعادة .
صاحب الديوان : ان الامبراطور بعثني  لأبحث عن احكم حكماء الصين ليوليه الوزارة وقد اشاروا اليك فجئت  اهنئك اولا واصحبك الى مقامه العالي.  
الحكيم :  الذي اشار عليك  هو احكم مني لا بد انه الحكيم لي  يريد ان يتخلص من المهمة ، لا بد انكم خربتم البلاد وملأتموها جورا وظلما وفسادا ، وتبحثون عمن يصلح لكم الامور لتعيدوا تخريبها ثانية او كلما وصلت الامور حدا بائسا بحثتم عن الحكماء !
صاحب الديوان :ايها الحكيم هذا المكان البائس لا يليق بعلمك وعلو منزلتك ، مكانك الصحيح هو في القصر  بين يدي امبراطورنا المبجل
الحكيم وقد مد بصره بعيدا وبعد برهة  : هل ترى ذاك الشيء الذي يتحرك في الطين ؟
صاحب الديوان رافعا يده فوق عينيه وناظرا الى حيث اشار :  اظنها سلحفاة كبيرة ويبدو انها معمرة ، حسنا  ما  امر السلحفاة
الحكيم : اريد ان اسألك هل الحي افضل ام الميت ؟
صاحب الديوان : بالتأكيد الحي افضل
الحكيم : سلحفاة حية تلعب بالطين خير منها ميتة في صندوق زجاجي في قصر مهيب . وانا لا اريد ان اكون كسلحفاة ميتة  ، دعوني اتمرغ بالطين فلا اطيق فراقه .
صاحب الديوان: لا استطيع ان اعود خالي الوفاض والا نلت عقوبة قاسية ربما تكلفني حياتي , اتوسل اليك ايها الحكيم ان تستجيب  لأمر الإمبراطور.  
الحكيم بعد فترة صمت وترقب : حسنا سأعطيك بيضة السلحفاة عسى ان تنفعك .
صاحب الديوان : بيضة سلحفاة ماذا افعل بها .
الحكيم منغ : بيضة السلحفاة هو تلميذي ( جن لي تسي)  فهو  يعرف  كثيرا من المعارف والعلوم ودرس القوانين  وحكم العظيمين  كونفوشيوس وبوذا ،كما مارس الجندية وخدم معي  في بلاطات الحكام ورغب بالعزلة معي وهو ايضا قوي الجسم وحصيف العقل .
ساحب الديوان : واين هو
الحكيم : سيعود  بعد الظهيرة مع صيادي السمك ، فهو صياد ماهر لا يرضى لي وله الا العيش من كسب اليدين ، فالمنصب والمال لا يدومان وخاصة لمن يشتغل لدى الحكومات , فقد يجد يوما نفسه مرميا خارج دواوينها  وربما مغضوبا عليه وبلا اي عون .
   وبعد سويعة عاد جن لي تسي من رحلة الصيد وقد فوجئ بالجند  يسدون الدرب المؤدي الى الكهف  ويحمل معه عدد من الاسماك وحزمة من الاخشاب  ولكنه سمحوا له بالعبور وهو  متوجس مترقب .
صاحب الديوان : أهذا الصياد بيضتك ايها المعلم.
الحكيم هوشي :تعال يا (لي تسي) هذا هو  رسول الامبراطور ,  وقد رشحتك لتكون وزيرا  لتعيد للدولة هيبتها و تعدل موازينها المختلة .
  وبعد مناقشة طويلة مع معلمه خضع لي تسي لرأيه و حرص على اصطحاب كتبه معه و لبس افضل ثيابه  والتي لم يرتديها منذ تركه للخدمة العامة ، وانطلق مع البعثة الى عاصمة الامبراطورية  , وفي الطريق قريبا من عاصمة احدى المقاطعات اعترضهم شاب وشكى اليهم بان ابن حاكم المقاطعة قد اختطف عنوة خطيبته  واغتصبها وهي تتأهب لحفل الزفاف مع ثلة من اصحابه الماجنين وان حاكم المقاطعة وأبا المتهم اهمل الشكوى  وبرأ القاضي ابن الحاكم من هذه التهمة و رمى الخطيب المسكين بالجنون وابعده عن المدينة ، فاستأذن صاحب الديوان الوزير القادم ( الحكيم لي تسي ) بان يلقي القبض على الحاكم وابنه والقاضي والتحقيق معهم  من قبل الحكيم لي تسي ، فتم احضار المتهمين والشهود وتبين صحة  شكوى الشاب  فحكم الوزير بقطع رأس ابن الحاكم وسجن ثلته و والده الحاكم وان تجرد ممتلكاته و ويحقق فيها الحسبة وعزل القاضي وحبسه  ، وان يتولى قائد الحرس امور المقاطعة وقتيا ويكون الشاب وزيره لشجاعته في الدفاع عن حقوقه , و واصلت البعثة طريقها واعترض طريقهم عدد من يدعي المظلومية  وتولى الحكيم  لي تسي البت في شكاويهم  ، وتبين له ان بعض التهم  قد لفقت مع محاولة لاستغفال الحكيم القاضي جن لي تسي فعاقب المدعين الكذابين بالحبس والجلد ، كما اعترضتهم في الطريق نفس مجموعة الفلاحين الذين شكوا سوء حالهم و ثقل الضرائب , فكتب لحاكم المقاطعة بإجابة طلبهم واطلاق سراح ابن الفلاح الرهين, و هكذا واصل جن لي تسي مسيرته وسارت الاخبار تسبقه والتي تنبأ بحكمته وعدله وذكائه وحزمه و رحمته  ، واخذ يفصل في القضايا  وينظر في الامور وهو في مسيرته الى العاصمة حتى قبل ان يكلف رسميا بأمر امبراطوري  .
 الى هنا ينتهي الجزء الثالث من الحكاية  وقد عرفنا نبأ الحكيم و سلحفاته بل وبيضتها ايضا , وقد تكون هذه نهاية معقولة  للقصة بان روح الاصلاح والتجديد في الدولة  قد بدأت ويمكن للإمبراطور ان يصلح حاله مع رعيته ، ويترك اللهو والعبث , ولكن هل يمكن له ذلك .
   واذا اردتم استكمال القصة  فلا بأس فهناك مسارات عديدة للأحداث استطيع ان الوي اعناقها لخدمة السرد القصصي ، هذا ما سنحاوله في جزء رابع واذا اكتفيتم فلا بأس ان تتوقفوا هنا .
12/2013
* جن لي تسي بالصينية : يعني بالصينية الأمل والقوة .
* جنغ بالصينية يعني البلورة
* منغ بالصينية : منير
* لي : زهرة او قوة