تماسك الخطاب لدى الجرجاني:
  لقد تطرق الجرجاني إلى ما يعرف بتماسك الخطاب وآليات الربط والارتباط، «الأمر الذي شجعنا على التدقيق في هذه الفرضية وإقامة الحجة، وريادته  في هذا النظر »  يبدو أن لنظرية النظم في علوم اللغة الحديثة ما يماثلها، حيث تتقاطع الدراسات اللغوية الحديثة مع هذه النظرية معرفيا وقد نجد الإرهاصات في أعمال كل من سبويه والخليل لتتبلور وتكتمل مع عبد القاهر الجرجاني .
يرى الجرجاني أن« الكلام  هو نسيج محكم يتحكم فيه الموضوع والمعني وهو ما يجعل من الجمل المؤلفة له يترابط بعضها ببعض، فلا يمكن للمتكلم أن ينطق الألفاظ والمعاني من غير أن يكون هناك تعالق بين المتأخر منها بالمتقدم أو العكس، ويكون هذا الربط بين الجمل ناتج عن المعنى لاعن اللفظ باعتباره لفظا» ، وهذا يعني أن الكلام يرتهن بالمعاني وبترابطها من حيث استعمال الألفاظ المكونة للعبارات، وقد صاغ الجرجاني جملة من المظاهر التي تكفل ارتباط النص وتماسكه ومنها:
الفصل والوصل: يتمحور جهد الجرجاني حول ما ينبغي أن يضع الجمل من ترابط بعضها ببعض، والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منهما بعد الأخرى، وبما أن الفصل والوصل يمثلان إحدى التجليات السطحية العميقة لانسجام الخطاب واتساقه، لابد أن تكون هناك مبادئ تحكم هذه الروابط وتحليلها.




1- الوصل عند الجرجاني:
يعتبر الجرجاني الجمع والنظير والشبيه والتضام النفسي والتضام العقلي من الروابط التي لا غنى عنها  في وصل الجمل فيها بينها، ومن الروابط التي تحدث عنها الجرجاني نذكر:
1.1. الجمع:
إن هذاالمبدأ اقترحه الجرجاني لتفسير العطف الحاصل بين الجملتين، وجود حكم مشترك بينهما والحكم في هذه الحالة منعدم وقد اقترح الجرجاني البحث عن علة تبرز العطف، ووجدها فيما يسميه "المعنى الجمع" والمثال الذي ضربه الجرجاني هو: أن زيد قائم وعمرو  على أن مبرر هذا العطف هو: إما أن زيدا كائن بسبب من عمروا، وإما أن زيدا وعمروا كالنظيرين    والشريكين، بحث إذا عرف السامع حاول الأول عسّاه أن يعرف حال الثاني وبناءاً على ذلك إن عطفت على الأول شيئا ليس منه سبب ولا هو مما يذكر بذكره، ويتصل حديثه بحديثه لم يستقم
لابد إذن من داع يبرز ذكر حال عمرو مع حال زيد عطفًا، والظاهر من كلام الجرجاني أن السامع، وهو أحد عناصر السياق وحاجته إلى معرفة حال الثاني بعد معرفة حال الأول، لاقترانها في ذهنه مبرر من مبررات العطف وهذا ما يفهم من كلام الجرجاني، ومن هنا عابوا على أبي    تمام قوله :
لاوالذي هو عالم أن النــــــــوى            صَبرُ وأنا أبا الحسن كريم
وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ويتعلق أحدها بالآخر يقتضي هذا الحديث بذلك .  


1.2. النظير والشبيه والنقيض:
هذا مبدأ متصل في الحقيقة بالأول وهو يقارب العطف معنويا لأنه  يتمتع معياريا بما يسميه الجرجاني " الإخبار عن الأول وعن الثاني" والقيد الذي يجيز العطف هنا هو أن يكون الخبران شبيهيان أو نقضيان أو نظريان «وكما يجب المتحدث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المتحدث عنه في الأخر ى كذلك يجب أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير والنقيض للخبر عن الأول فلو قلت زيد طويل القامة وعمرو شاعر كان ثمة خلاف في المعنى لأنه لا مشاكلة ولا تعلق بين طويل القامة وبين الشعر، إنما الواجب أن يقال زيد كاتب وعمرو شاعر، وزيد طويل القامة وعمرو قصير»  فمن المثال الأول العطف شاد لأن الخبرين ينتميان إلى حقلين دلاليين مختلفين ولا شيء يبرز العطف بين كون زيد طويل القامة وكون عمرو شاعرا والأصوب أن يؤتى لكل خبر مشاكل له وهذا ما ذكرناه في المثال الثاني.
1.3 التضام النفسي والتضام العقلي:
إن هذا المبدأ يبرز العطف تبريرا فالجرجاني – حسب فهمنا- ينظر في الخطاب هنا من زاوية التلقي، أي من خلال علاقة المتلقي بالخطاب، بحيث يعود قبول العطف إلى أسباب تداولية لا معنوية، ففي جملة «زيد طويل القامة وعمرو قصير لا يبدو العطف مبررا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المعنى في هذه الجملة مضاما له مثل أن زيدا وعمروا إذا كانا أخوين مشتبكي الأحوال على الجملة كانت الحال التي يكون عليها أحدهما قياما أو قعودا مضمونة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شك » ، «ولأن اقتران الأشخاص في  ذهن المتلقي، بعضها ببعض مختلف من متلقي إلى آخر فإن مبدأ التضام النفسي نسبي خاص» وذلك لأن الشخصين أو مجموعة  الأشخاص متضامن بالنسبة  لمن يعرفهما، ويعنيه حالهما فحسب ولا يمكن أن تعتبر كذلك بالنسبة لجميع الناس « وإذا المخبر عنه في الجملتين وحداً كقولنا وهو يقول ويفعل ويضر وينفع ويأمر وينهي (...) وأشباه ذلك ازدادمعنى الجمع في الواو قوة، وكان الأمر حينئذ صريحا »  وهذا يعني أن الواو إنما تزيد قوة المعنى في الجملة، فحينما ورد جمع الضر بالنفع ووصلهما إنما كان ثمة وجوب لأداء الفعلين معاً دون استثناء  لأحدهما فهو يضر وينفع ولا يمكن إبطال الضر بالنفع على خلاف الحالة التي يتم فيها عدم استعمال الواو، أي القول (يضر ينفع) ففي هذه الحالة يبدو المعنى مغايرا حيث يبطل النفع معنى الضر، ويمكن التمثيل على هذه الحالة بقول الشاعر:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم                     وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا  
والمقصود هنا أن لا تطمعوا أن نكرمكم على الرغم من إهانتكم لنا، وفي الأسماء ما يصله معنى الاسم قبله فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصلة ورابط يربطه وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، كذلك يكون في الجمل ما يتصل من ذات نفسها بالرأي قبلها،وتستغني بربط معناها عن حرف عطف يربطها وهي كل جملة كانت مؤكدة للتي قبلها كقوله تعالى:« ألم ذلك الكتاب لاريب فيه»  وتحقيق لقوله  (ذلك الكتاب ) وزيادة تثبيت له وبمنزلة أن تقول: هو ذلك الكتاب هو ذلك الكتاب فنعيد مرة ثانية لنثبته، ولا نثبت الخبر عن الخبر، ولا شيء يتميز به عنه، فيحتاج إلى ضام يضمه إليه وعاطف يعطف عليه، وهذا ما يجعل مبدأ التضام العقلي عاما   وهو مرتبط بالوقائع (المعاني في اصطلاح الجرجاني)
ويمكن التمثيل لذلك بالقول :
- العلم حسن والجهل قبيح
- العدل محمود والظلم مذموم
- الاجتهاد حسن والكسل قبيح
فالمبرر الدلالي للعطف هو كون الخبر عن الثاني مضادا للخبر عن الأول أما المبرر والتداولي فهو كون الواقعتين متضامتين عقليا بالنسبة لجميع الأمم التي أسست نظاما من القيم مناسبة لبعضها صفة الإيجاب والى الأخرى صفة السلب لحث الأفراد على التثبيت بالقيم الإيجابية ونبذ السلبية.
يبرهن الجرجاني بهذه الطريقة في الوصف والتحليل عن صلاحية مبدأ عام وضعه أثناء حديثه عن الترابط والعطف حيث قال: « لا يتصور الإشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه »  أي كان المعنى المشترك هو الأساس في اشتراك  الألفاظ يقول تعالى «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله»  وإنما قال يخادعون ولم يقل يخدَعون لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم (آمنا ) من غير أن يكونوا مؤمنين فهو إذن كلام أكد به كلاما آخر هو في معناه وليس شيئا سواه ومثل هذا قوله عز وجل:«وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون »   فمعنى قولهم (إنا معكم) أنا لم نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم نترك اليهودية وقولهم (إنما نحن مستهزئون) خبر بهذا المعنى بعينه لأنه لا فرق أن يقولوا: إنا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلا استهزاء  وبين أن يقولوا لم نخرج من دينكم وإنا معكم بل هما في حكم الشيء الواحد .
2.الفصل عند الجرجاني:
لقد اهتم الجرجاني بالروابط التي تربط الجمل والتي تعد مبادئ ظاهرة كالجمع والربط بالواو (...) إلا أنه لم يهمل العلاقة الخفية التي تقوم بين الجمل، والتي لا تعتمد على روابط شكلية ظاهرة، كالتأكيد والاستفهام اللذان سوف نتطرق إليها محاولة تحليل معانيها.
2.1. التأكيد :
إن للجمل المشكلة للخطاب روابط لا تظهر سطحيا كالتأكيد الذي تحدث عنه الجرجاني ووضحه من خلال أمثلة القرآن الكريم بيّن من خلالها سر هذه العلاقة ونكتفي بمثالين اثنين أوردهما الجرجاني أولهما قول الله عز وجل: «إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [6] ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة لهم عذاب عظيم» .
وهذا يعني أن قول الله تعالى (لا يؤمنون) تأكيد على قولهسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) وهنا يؤكد الله عز وجل على عدم إيمانهم بكل الطرق سواء تحذرهم أم لا فهم لن يؤمنوا، ونجد في قوله تعالى: (ختم الله على قلبوهم وعلى سمعهم) تأكيدا أبلغ من الأول لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذ لم ينذر كان في غاية الجهل ولا يستطيعون  الانتقال من حالةإلى أخرى مهما كلف الأمر، وكيف كان الحال فهم راضون بجهلهم ومقتنعين به فالجهل اصطبغ على قلوبهم لا محالة .
إننا في هذه  الآية أمام تأكيدين جديدين كل منهما يضيف جديدا إلى المعنى، ومن ثم فإن التأكيد الثاني ليس حشوا ما دام أبلغ من الأول، وأكثر إقناعا منه « لأنه يبين سبب استواء الإنذار عندهم بعدمه، ذلك لأن الله ختم على قلوبهم (...) »  كما ذكر الجرجاني التأكيد من خلال مثال آخر حيث يظهر من خلاله التأكيد في قوله تعالى: «وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا»  « فالشبيه لم يعطف على الأول لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع»  ويتضح لنا التشبيه الثاني مؤكدا أكثر من الأول وأقوى منه
نستخلص من هنا أن تماسك الخطاب تؤديه روابط اتصالية وإن كانت معنوية غير معتمدة على رابط شكلي إلا أنها وسيلة هامة لتأكيد جملة الأخرى ونجد الجرجاني قد تطرق إلى مبدأ آخر من مبادئ تماسك الخطاب  وهو الاستفهام.






2.2.الاستفهام:
إن من دواعي فصل كلام عن آخر وجوب وجود سؤال مقدر غير متصل في   الخطاب، على شكل ثنائية سؤال مقدر وجواب ظاهر، « وإذا استقريت الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا منزلته إذا صرح بذلك السؤال كثير »  والجرجاني هنا يمثل بنوعين من النصوص الشعرية والقرآنية، ففي النصوص الشعرية يرد الجواب غير مقرون        بالقول وفي الثانية يرد مقرونا به، ونورد مثالا عن هذا من خلال قول الشاعر:
زعم العواذل أنني في غمرة               صدقوا، ولكن غمرة لا تنجلي
«لما حكي عن العواذل أنهم قالوا: هو في غمرة وكان ذلك مما يجرن السامع لأن يسأله فيقول: فما قولك في ذلك وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له » وصار كأنه قال: «أقول صدقوا، أنا كما قالوا ولكن لا مطمع لهم في فلاحي ، ولو قال زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا لكان لم يصح في نفسه أنه مسؤول وأن كلامه           مجيب » ويعني هذا أنه لو عطف لما كان كلامه مجيب.
وفي مثال آخر يقول شاعر:
زعم العواذل أن ناقة جنـــــدب                 بجنوب خبت عريت وأجمعت
كذب العواذل لو رأيت منا خنا                  بالقادســــــية قلن لج وذلــت
وقد زاد أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب تأكيدا بوضع الظاهر موضع المضمر فقال: « كذب العواذل، ولم يقل كذبن مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام»  ونفهم من هذا أن البيت الثاني جواب عن سؤال        مقدر، وكأنه سئل: وما قولك في زعمهن ؟ فقال كذب العواذل ويتضح لنا من هذا أن الجرجاني يرى في أن تكرير العواذل في البيت الثاني جعله أشبه بكلام مستقل عما قبله وظهر هذا من خلال القطع والاستئناف ومما هو على هذا القول نجد قول شاعر آخر :
زعمتم أن إخوتكم قريش               لهم إلف وليس لكم إلاف
وذلك أن قوله:« لهم إلف تكذيب لدعواهم أنهم من قريش فهو إذن بمنزلة أن         يقول: كذبتم لهم إلف وليس لكم ذلك»  وهذا يعني أن البيت الثاني جواب سائل يقول له ماذا أتقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟
ومن النصوص القرآنية التي قدمها الجرجاني في هذا الموضوع واستشهد بها        قوله عزّ وجل «قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم مّـُوقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال رّبكم ورب آبائكم الأوّلين، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم  تعقلون، قال لئن اتّخذت إلاها غيري لأجعلنك من المسجونين، قال أولو جئتك بشيء مّبين، قال فات به إن كنت من الصّادقين»  يتضح لنا من هذه الآيات - والله أعلم-  أن السؤال والجواب قد جاءا كالذي جرت به العادة.
ونفهم من هذا أن«الخطاب القرآني السالف لم يربط  برابط شكلي ظاهر ما بين (السؤال والجواب) ومع ذلك كان الخطاب منسجما بالنسبة للمتلقي » ، وبناءا على هذه الاستشهادات نفهم أن لكل جواب سؤال يسهم في تناسق الحوار.
وفي وصف الوصل والفصل ختم الجرجاني وصفه بقوله « وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها فاعلم أنا حصلنا من ذلك على أن الجمل ثلاثة أضرب:
أ‌- جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيا العطف البته  لشبه العطف فيها، ولو عطفت بعطف الشيء على نفسه .
ب‌- الجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله، إلا أنه يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى، مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا(...) فيكون حقها العطف.
ت‌- جملة ليست في شيء من حالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم منه في شيء، فلا يكون إياه ،ولا مشاركا له في معنى (...) و فحق هذا ترك العطف»
وهذا يعني أن الفصل والوصل يرد تبعا للجرجاني ضمن ثلاثة أنواع أو شروط هي ألا يشبه العطف عطفا قبله أبدا،وأن يشارك الأسماء أو الموضوعات في الحكم والمعنى، وإمكان ترك العطف في جمل لا يشترك فيها  المعطوف  مع المعطوف عليه.

  
  

وشكرا بلال وشكرا لك شرف لي ان يقرا حضرتك موضوعي ويضيف رايه فهدا الجزء من المدكرة التخرج التي انجزتها في العام الماضي واعدكم بنشر كل المواضيعالت ي تطرق ت لها