]مفهوم الممارسة الدالة
عند
جوليا كريستيفا
1ـ الممارسـة: التجربة الدالة
إذا كان النص يدل على تجربة للتناقض المتنافر، وليس على الممارسة الاجتماعية، تتساءل جوليا كريستيفا: هل يجب التمييز بين «التجربة الدالة» و«الممارسة الدالة»؟.
تشير جوليا كريستيفا إلى أن مصطلح التجربة سوف يخص الممارسات حيث ينظر للتناقض المتنافر كخطاب، يشكل الاقتصاد الضروري للنص، ويبقى عند حدود المرحلة النظرية، وداخل تمثيل فردي يرجعه الرفض إلى حضور الأنا، وعلى العكس يجب أن يطيق مصطلح الممارسة على نصوص، حيث يكون التناقض المتنافر مضبوطا كشرط ضروري لبعد الممارسة الاجتماعية، بل من مرحلتها الثورية. إن التمييز بين «التجربة» و«الممارسة»، يفرض في هذا الوضع انطلاقا من قراءة للعلاقة هيغل / ماركس التي ترغب في توضيحها»( ).
تلجأ جوليا كريستيفا إلى هذا التمييز بين الممارسة والتجربة، انطلاقا من قراءة للعلاقة بين ماركس وهيغل، لتوضيح اشتغال النص داخل إطار اجتماعي، وكذلك اشتغال السلبية داخل مفهوم مولد للمعنى.
يرى هيغل أن «الحركة الجدلية»، تطابق التجربة والجدل، التي يمارسها الوعي على نفسه، وعلى معرفته وعلى موضوعه، وهذا ما يسميه التجربة، ويميز هيغل لحظة التجربة الحقيقية، حيث يتكون الموضوع الجديد عن لحظة بروز الموضوع المباشر بالنسبة للوعي، ويشكل الموضوع الجديد، لحظة لتدخلها الذاتي، حيث ينقلب الوعي على ذاته. ويمكن اعتباره تدخلا للأنا، وتدل حركة الوعي داخل التجربة التي تمثل اللحظة الثانية لحضور الوعي، على ظهور صورة جديدة للموضوع الجديد مختلفة عن السابقة.
ترسم لحظة التجربة الهيغلية، في لحظة من الانسلاخ من الوضعية الأولى أو من الموت، بضبطها للوعي كأحد الأسباب المنتجة للصورة المباشرة وتحويلها إلى مفهوم. وهكذا تميز الناقدة جوليا كريستيفا بين مفهوم التجربة عند هيغل وبين مفهوم التجربة الفينومينولجية عند هوسرل، التي يبدو أنها لا تهتم بالسلبية التي يكشفها هيغل. وفيما يخص هذا المفهوم عند هوسرل، التجربة المؤسسة لها أشكال تحققها التركيبية رغم ذلك يبقى وضعها غامضا، ما دام لا ينتج عن تشكلات مفهومية ونحوية، تميز المقولة، يعني الحكم الإسنادي والملفوظ. وهذا يعني أن التجربة، تقود إلى مفهوم للممارسة، يمكن أن تتخذه الجدلية من جديد لإدراك فاعلية التحول الاجتماعي ـ التاريخي، مثلما العلمي نظريا وجماليا.
إذن تعرض لحظة التجربة بفرض إلغاء الوعي. وقد كان هيغل، يريد أن يجعل من الفكر ديناميكيا حيا، لأنه تنبه إلى أن الحقيقة الخارجية نفسها حقيقة ديناميكية، وهذا التصور الديناميكي هو صدى لديناميكية الواقع. يشكل الجدل نفسه تعبيرا منطقيا حيا عن صميم حركة الواقع، يسمو بالحقيقة، وينفذ إلى الوحدة الكامنة فيما وراء «التعدد». وهذا يعود إلى أن التجربة الهيغلية هي تجربة للمعرفة، ومعرفة تستند على ذات الوعي.
هذا ما يشير إليه تطور علم الجمال الهيغلي، يعني التجاوز من المادة إلى الذات. وهنا يحضرنا رأي هيغل الذي يقول: «إن وحدة الوجود، والجوهر الفكر التي هي مباشرة وجود هنا، تمثل المعرفة المباشرة لهذا الوعي الفلسفي، مثلما هو فكره أو معرفته المباشرة»( ). وهذا يشكل كذلك وعيا لكنه ليس وعيا مباشرا، بل هو وعي فلسفي، معرفة بالظواهر داخل الحضور المباشر، وهذه المعرفة هي معرفة تأملية. وهذه المعرفة التأملية يعرف الله كفكر أو جوهر خالص، ويعرف هذا الفكر كوجود ووجود هنا، هي ذات كلية، ويمكن أن ندرك هنا حضور السلبية، كحضور لسلطان الفكر المقدس، بعد سلطان الأب الذي هو الفكر الخالص أو الله كجوهر وسلطات الابن الذي هو الفكر كوجود للعالم. هذه اللحظات الثلاثة التي تفسر أن الجوهر، يعرف كفكر فقط، لأنه يعطى للحدس كوعي مباشر للذات. «وتشكل المادة الحية عند هيغل الذات في حقيقتها، أو ما يدل على نفس الشيء، والوجود الحقيقي... أو هي التوسط بين صيرورتها الخاصة الأخرى وذاتها. وتمثل السلبية البسيطة والخالصة، ولهذا فهي انشطار للبسيط إلى جزأين...»( ). وهذه السلبية هي حركة متطورة لسيرورة تجوب كل أجزاء الصورة الموضوعة داخل عنصر الوجود، وهذه السيرورة التصاعدية بفعل التعارض الدائم، الذي يكسر كل وحدة ظاهرية، تسعى إلى الانتقال إلى وحدة عليا أكثر سموا، وهذا هو المسار الطبيعي لكل معرفة. إن شكل هذا التمثيل يكون التحديد الخاص الذي يصبح داخله الفكر وعيا بالذات. في حين يكون المحتوى هو الحقيقي أو الواقعي، ويجب أن نعتبره تحت الشكل الذي يمثل به، وبالتالي فالفكر المطلق هو محتوى، وكذلك هو في صورة حقيقته، ليصل إلى أن يصبح ذات فاعلة، وتدرك ذاتها في ذاتها نفسها حتى تكون ذات، هذه هي الحركة التي يتممها الفكر أو هذه، هي حياته.
2ـ الممارسـة: هيغل ـ لنين ـ ماوتسي تونغ
تعطي المادية الجدلية الأولوية للممارسة داخل المعرفة أما ماركس فيطرح «الفاعلية الإنسانية الملموسة» كأساس للمعرفة. وهذا ما يلغي تبعيته للوعي الحاضر في ذاته، وتظهر علاقات الإنتاج التي تهتم بالتنافر الذي يحدد هذه الممارسة.
يبين لينين في دفاتره فكرة الممارسة في مقابل المعرفة، لأن فكرة الممارسة تحقق دافع «الخير» حسب هيغل، وتمتلك أولوية كونها فاعلة بدون قيد أو شرط. «رغم ذلك، لا تلاحظ النظرية الماركسية، غائية فعل الممارسة المتضمنة في «الخير» ولا «اقتصاد» التناقض الأعلى الذي يصل في الفكرة المطلقة، حين يعود المفهوم في فكرة الممارسة كذلك، بإنتاج «مفهوم الممارسة» الذي بلغ أوجه حسب هيغل داخل «ذاتية غير مفهومة ودرية»، لا فردية وهي «كلية ومعرفة» قطعا، لغيرتها الخاصة كموضوعية...» ( ).
تلح الماركسية اللينينية على توجه الممارسة نحو الخارجية والموضوعية والواقعي. ويعارض لنين «قياس السلوك عند هيغل، بنفوق الخارجية المنطقية للواقعي، لأنه لا يدرك الفاعلية الإنسانية نفسها كفاعلية موضوعية مثل فيورباخ. بالنسبة لفيورباخ، يبقى الإنسان داخل آلة التناقضات والصراعات الاجتماعية، والإنتاج والطبقة، وحدة غير ملموسة في صراع مع الآخر. لكنه لا يكون في صراع مع نفسه، وهنا يبقى محايدا. وهذا يعني أنه يعيش كذات مضطَهَدة، ومضطهِِدة أو مستغلة أو متحكمة في مجموعة من المستغلين. ولا يمكنها أن تكون ذات إجرائية، تتوافق مع الإجراء الموضوعي الذي أخرجته المادية الجدلية داخل الطبيعة وداخل المجتمع. ووضع هذه الذات عند فيورباخ، يتحقق في شخص رئيس الدولة، فهي راغبة وأساس للتنظيم الاجتماعي، وعلى العكس فماركس، يدعو إلى الإرساء المباشر للإنسان داخل الدولة، والعلاقات الاجتماعية التي هي علاقات منظمة حسب الحاجة بين الأفراد ومفهوم الذات عند ماركس، لا يهتم بتعددية الرفض، الذي يدمر الذات.
انطلاقا من المادية الجدلية، تبعد الماركسية السلبية الهيغلية، التي تلخص تدمير الوحدة الذاتية، وتوجهها في اتجاه النظام الموضوعي، وتحتفظ منها بسلبية مشيئة تحت مظهر العلاقة الاجتماعية. وتصبح الذات ليست إجراء، بل هي ذرة، في علاقة مع ذوات أخرى، داخل الإجراء الموضوعي، وتكون السلبية الداخلية للذات، في علاقة للحاجة أو الرغبة بين الذوات.
إن هذه المفهمة للذات، داخل الماركسية، هي موروثة مباشرة عن فيورباخ، يدحضها ماركس خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والممارسة الإنسانية، إن مفهوم الإنسان الذي يحدد رغباته، تعوض مفهوم الإجراء، الذي يؤسس الجدلية الهيغلية، باسم وجود واقعي للحد، للمنتهي وللواقعي.
يرى ماركس، أن تكامل الفلسفي والبروليتاري، يصور هذه المفهمة للذات، كذات وحيدة. ولا يمكن للفلسفة أن تتحرر، إلا بتحرير البروليتاري، والبروليتاري لا يمكن أن يتحرر إلا بتحقق الفلسفة. ويسترجع ماوتسي تونع Mao tsé tong، نفس تعليقات لينين على هيغل، في دراسة «الممارسة»، ويؤكد على أن التجربة الشخصية والمباشرة هي الخاصية المادية الضرورية للممارسة، كما يلح على أن فاعلية للإنتاج تحدد كل فاعلية للممارسة. ويضيف لها ممارسات أخرى هي نضال الطبقات والحياة السياسية والفاعلية العلمية والجمالية. إن الأمر يتعلق باستمرارية موضوعية للممارسة الاجتماعية المنتجة لمفهوم مؤسس لارتباطات داخلية. ويلح ماوتسي تونغ من جانب آخر، وفي نفس السياق على ضرورة توظيف اللغة والكتابة لأجل تغيير الإيديولوجية. إنه يعتبر العمل داخل اللغة كعنصر أساسي للمسار الإيديولوجي وبالتالي للإيديولوجية والسياسة. وتفسر، هذه الملاحظات انطلاقا من خصوصيات اللغة الصينية وأدبها، بتغييرهما في علاقتهما بالكتابة، ولا مساواة القديم بالجديد على مستوى السجلان الاثنان، ولا يمكن أن نمسك بقيمة هذه الملاحظات، إلا إذا أعدنا تقييم الذات، نظريا، داخل الممارسة الدالة.
إن الممارسة عند ماوتسي تونغ لها مظهران: مظهر ذاتي، يتطلب التجربة المباشرة. وهذا يدل على المشاركة الفعلية والشخصية في النضال العلمي الذي يعمل على تحويل الحقيقة، وتحويل هذه الظاهرة، أو غيرها من الظواهر. والمظهر الثاني، أنها الوسيلة الوحيدة لاكتشاف جوهر هذه الظاهرة أو تلك. ولهذا يرى ماوتسي تونغ أن كل المعارف الصحيحة تنحدر من التجربة المباشرة ـ الممارسة.
إن الأمر يتعلق عند هيغل، مثلما عند ماو تسي تونغ، بالفهم وبالخارجية في ارتباطها الداخلي والتقريبي، كما يلعب التكرار دورا هاما في إظهار المفهوم المؤسس لهذا الارتباط. كذلك تقوم الماركسية اللينينية على المادية الجدلية والتاريخية، التي تستمد قوتها الخلاقة من الحياة ومن الممارسة الثورية، وعلى الخصوص ربطها الوثيق بين النظرية والممارسة.
إن التأكيد على التجربة المباشرة والذاتية داخل النظرية الماركسية يميل إلى توضيح الذاتية كمكان للتناقض الأعلى، التي يستدعيها هيغل في «الفكر المطلق». يدل«مصطلح «الممارسة»، في الماركسية عموما، «الذاتية التي تتجاوز ذاتية فكرة الممارسة. أما الماوية، فهي تتقدم بخطوة: تتماسك ممارستها بذاتية تعرف تحت شكل «مفهوم الممارسة»، ما دامت تبقى محصنة ولا فردية وذرية، وتحقق معرفة عامة، بتجسيد للتناقض الأعلى»( ). ويظهر أن الماوية تستدعي وتنتج قبل كل شيء مثل هذه الذاتية التي ستصبح المحرك لممارسة التحول الاجتماعي والثوري، رغم وجود ممارسات دالة تفترض في الصين أنماطا أخرى من الذوات تستهلك الكلية الجدلية.
3ـ الممارسـة العمليـة:
تحاول جوليا كريستيفا أن تعطي لمفهوم الممارسة، طابعا عمليا يتلاءم مع التحليل الدلائلي ، لهذا تستدعي مفهوم الممارسة عند كل من هيغل وماركس ولينين وماو. إن مفهوم الممارسة ينتقل إلى المادية الجدلية، وتدمج التجربة المباشرة للحقيقة، زمن التجربة والإدراك الدال للموضوع الجديد المتنافر. وهذا يدل على أن هذا الإدماج يساهم في تفجير الذات انفجارا يكون شرطا لإعادة تجديدها، ويميزها عن الذات الذرية وغير المفهومة.
يطرح ماوتسي تونغ السيرورة الثلاثية: الممارسة ـ الحقيقـة ـ الممارسة، التي تدل على أن الاختلاف في وضعية "الموضوعات المدركة" وفي "الوعي" الذي يضبطها، يكمن في كون الموضوع الحقيقي يتميز داخل الممارسة عن المعرفة العلمية. وهذه الأخيرة ستمنح الحقيقة العلمية لتقود إلى برهان علمي آخر. هكذا فلحظة الممارسة تكون مرتبطة بلحظة المعرفة العلمية الحقيقية.
تلاحظ الناقدة جوليا كريستيفا ان النظرية الماركسية ليست نظرية للذات إنما تكتفي بتوضيح «التحديدات الموضوعية والمنطقية وبالتالي تستحضر الشروط والبنية، ولا تستحضر الدينامية البين ذاتية والداخل ـ ذاتية. ولقد سجلنا مسبقا التخلي عن النفي العابر للذات، بالمادية الجدلية والتبريرات التاريخية لهذا التخلي»( ).
إن لحظة الممارسة تدخلها في علاقة مع مواضيع وذوات أخرى من الوسط الاجتماعي، تجعلها في تناقض مضاد. ويمركز هذا التناقض مسبقا الذات نفسها، كمركز للتجاوز، لا كمركز لمقاومة الميولات المتعارضة والغرائز المتمفصلة كعلاقات انفعالية، مثلما هي الصراعات الطبيقية مثلا. ومن وجهة النظر هذه، يواجه الرفض حين تمركز الذات تدميره ببنيات العالم الطبيعي وبالعلاقات الاجتماعية التي يصطدم بها ويردها وينظم من قبلها. وهنا يتدخل مركب رابط، رمزي وإيديولوجي وتوضيحي، ليشكل الموضوع الجديد داخل اللغة، الذي تنتجه الذات كإجراء، وهي وضعية رفض عبر هذا الرفض.
«إذن، تحتوي الممارسة، كلحظة أساسية، على التناقض المتنافر لذات إجرائية من خلال خارج طبيعي أو اجتماعي ليس يعد مرموزا، وفي صراع مع الفرضيات القديمة (يعني مع أنساق التمثيل التي تخالف وتؤخر عنف الفرضيات)»( ). تتحقق الدلائلية La signifiance داخل هذه الممارسة، ، لأنها تشمل التناقض المتنافر كمحرك لحركة جدلية مادية ودالة.
تتحدد هذه الممارسة بهذه اللحظة الساحقة لوحدة الوعي بخارج غير مرموز، انطلاقا من التناقضات الموضوعية، التي تنتج الموضوع الجديد ـ وتلح جوليا كريستيفا على العنصر المكبوت في هذه اللحظة من الممارسة، بما أنها لحظة لعودة الوعي المعرفي، حيث ينتج شكل من المقاومة مع الفرضية الذاتية مع الواحد، وكذلك مع كل الأنساق الطبيعية والاجتماعية والعلمية والسياسية. وبالتالي يكون ظهور الموضوع الجديد، والفرضية الجديدة، نتيجة لهذه المقاومة. ويشكل الموضوع الجديد لحظة للإجراءات، حيث تضع المقاومة زمن القطيعة لإعادة تجديد الموضوع. ويعمل الوعي على كبت هذه المقاومة، لكنها تستنتج ما يدركه الوعي كلحظة لظهور هذا الموضوع. إن لحظة هذه المقاومة هو تخييل، لأن المعنى فيها يزول بسبب الرفض الذي هو غريزة الموت بالنسبة للذات.
«إذن، تصبح الذات اللعب الذي يختفي بواسطة سببها وداخله، ولسببها، وهي الشرط (الخارجي) الذي يضع الأساس (الداخلي). ويعطي جورج باطاي اسما لهذه العملية المختصرة: الضحك»( ).
تعبر الذات هنا داخل سيرورة التغيير الاجتماعي، وتسقط هذه الممارسة إجراء الدلائلية بمواجهتها الرفض الغريزي بالتناقضات المادية، صراع الطبقات مثلا. ويساعد هذا الرفض على اكتشاف الموضوع الجديد داخل البنية الاجتماعية. وتفترض الممارسة وجود توافق بين إجراء الرفض والسيرورة الموضوعية.
يستدعي جهاز الممارسة داخل الجهاز النفساني الرفض بإدماجه داخل قوالب العلاقة بين- الذاتية، يعني بين ـ العائلية وإعطاء الأولوية للذات. ويجد الرفض مكانة داخل قوانين التغيير الثوري، خاصة وأن منطقه يمثل منطق التناقض المتجدد.
تعرف الممارسة كيفما كانت، وعلى الخصوص الممارسة الثورية بمحتواها، هذه اللحظة حيث تكون التضحية والموت لذة ضمنية، ولا تكون بعيدة عن هذه التناقضات التي تواجهها الذات. وتقاوم هذه الذات، ذات الممارسة، بالرفض مسلحة بتأكيدات إيديولوجية ونظرية.
هكذا يعطي إجراء الدلائلية كعامل للأنا، انا الثوري التي ليست في حاجة لأن تعرف، لأنها «أنا» متخيلة أو إيديولوجية، يغزو بواسطتها ميكانيزم الرفض الساحة الاجتماعية.
إذن، يلتزم مفهوم الممارسة، حسب هيغل، بتكرار ميكانيكي للعمل دون أن يغير الجهاز الحقيقي المادي والدال والذاتي، وبهذه العملية تحصر إجراء الممارسة الذي يهدف إلى تحويل الإجراء الذاتي والموضوعي. وتصل المادية الجدلية، بإعادة الاعتبار للحظة التجربة الإنسانية المحسوسة إلى ما أسسته الممارسة التحليلية للذات "الغامضة" و"الدرية"، التي تحمل "مفهوم الممارسة". وتستغل المادية الجدلية وضعية الذات لتفعيل عملها داخل حركة الثورة الاجتماعية.
إذن، «يستكشف النص ميكانيزم الرفض في تنافره، ما دام هو الممارسة التي تسحق الوحدة وتجعل منها إجراء واضعا ـ منقلا للفرضيات. وهذا يعني أن النص يعرض، لأجل تمثيل اللحظة الأقوى خصوصية لكل إجراء عملي، وأنه بهذا الفعل "يكلم" كل ذات، تعبر هذه اللحظة العملية، داخل مجالات مختلفة، ويحتمل أن تتراجع عنها وأن تتركها خلفها. إذن تقتضي وظيفة النص أن يرفع الكبت عنها، الذي يؤثر على لحظة الصراع هذه، داخل أي مجتمع كيفما كان وداخل أي حالة وجد عليها، وعلى الخصوص إذا كان يهدد ويفكك الارتباط الذاتي والاجتماعي، مع أنه ينظمها ويحددها كذلك»( ).
لا يعتمد النص على علاقات التحويل المشخصة وهذا يدل على أن المرسل إليه يكون غائبا دائما، وهو نفس مكان اللغة، ولحظتها النظرية التي يمتلكها النص، ويدخل فيها قدرة التحريك. وهكذا يسترجع النص التجربة الفردية بتوظيفها داخل الدلالة والتلفظ والمجموع الاجتماعي ـ الرمزي، حيث نجد أن الذات توظف كل الإيديولوجيات التي تخص المجتمع وتحكمه، رغم كونها لا تكترث له: هنا يظهر التناقض واضحا. وتساهم الممارسة الدالة للنص في تحقيق إجراء الذات داخل اللغة. ويبدو جليا أن غياب المحور التحويلي، يمنع انغلاق هذا الإجراء داخل التماثل الذي يلاءم الذات بالبنيات العائلية ـ الاجتماعية. وينتج عن غياب المحور التحويلي، غياب مكان المحلل وموته. ويهاجم هنا الرفض البنيات الدالة. وهذا ما تفترضه الممارسة النصية، لكي تكون ممارسة دالة.
تفترض الناقدة جوليا كريستيفا أن هذه العلاقة التحويلية، إذا افترضنا وجودها تكون مراقبة من قبل النص وبنيته، وهي تخص الذات الكاتبة والمتلقي، ولا يمكنها أن تستنفد غاية النص كممارسة اجتماعية في علاقتها بالقراء الممكنين. هكذا تظهر حدود النص، وما ينتج من داخله لا منتهي، ويمنح له الفرصة للاشتغال داخل حفل أوسع، بتحقيقه لتحولات أساسية تحقق الرغبة بل متعة الذات.
كذلك، يصبح النص فضاء لتحقيق الإجراء الدال الذي يلتزم داخله كل القراء، وبالتالي فهو المحلل والقارئ محللا. وبما أن بنية ووظيفة اللغة تتخذ مكانا، داخل المحور التحويلي، داخل النص، فهي تستغل كل البنيات اللغوية والرمزية والاجتماعية. وهكذا يتمتع النص ببعده الأساسي، ويشكل ممارسة، تدمج أجهزة جديدة دالة. وفي الحقيقة، هذا ما يضفي عليه طابع ممارسة جديدة مختلفة عن الممارسة الميكانيكية بذات غائبة، ذرية، التي ترفض معرفة أنها ذات للغة.
وفي نفس الاتجاه، يتجه النص كممارسة دالة نحو تحقيق المتعة عبر اللغة. ويصبح النص تلبية لرغبات مكبوتة مختفية داخل التمثيل المشترك للممارسة. هذه الرغبة، نحسها في اللحظات التاريخية حيث يتعمق التفاوت بين الممارسة الاجتماعية نفسها وبين الإيديولوجيات الممثلة منها. وتسوق الناقدة جوليا كريستيفا نماذج من هذه اللحظات التاريخية في كتابها" ثورة اللغة الشعرية"، وخاصة نهاية القرن التاسع عشر، التي أفرزت غضب الطبقات الكادحة من فلاحين وبورجوازية مفتقرة، بسبب تراكم الرساميل التي سلكته الدولة. وهذا فجر مجموعة من الثورات ابتداء من سنة 1948. وهذه الثورات جسدت بدورها وضعية كانط ورينان، والنظريات الثورية من ماركس إلى الطوباوية الفوضوية.
هنا، يكشف النص عن مستوى اشتغاله، بالتمثيل الذي يوظفه ويحرك الفن خلف مظاهر التشكلات الاستيهامية، أو التمييز المتقن للمادة الدالة، يعرضها حول البناء المتناقض. وهكذا يقوم النص بصياغة هذا المكان المتميز، الذي كان يخص الدين، من خلال الممارسة الفردية للذات، حيث تدمج المعارف الجديدة حول الجسد واللسان والمجتمع.
لا تعطي الثورة الاجتماعية أهمية للنصوص الطليعية، إنما تمنحها خاصية، وتقربها أن تكون تجربة يعني اكتشاف الأرضية المتنافرة للصراع الداخلي للوعي، انطلاقا من الذات. وهذه التجربة تبين للذات غريزة الموت التي تمنحها منحتها، وتجعلها ترفض مختلف أشكال الضغط التي تمارس عليها.
تشير الناقدة جوليا كريستيفا هنا إلى وضعية الشاعر داخل هذه التجربة حيث يندمج في الحركة السياسية ويتخلى عن الشعر. ونذكر بوضعية الشاعر أمام الممارسات السلطوية المهيمنة، وعمله على تسيير الفعاليات الثائرة، والالتزام بالمواقف، التي تجعلنا ندرك موقفا متساميا، يقارن بوضعية الطفل.
يبقى السؤال المطروح اليوم، الذي حاول لوتريامون الإجابة عنه في أشعاره، «يرتكز على إمكانية الإمساك أولا باللحظة المتنافرة المفتوحة، المتناقضة، غير الثابتة بالنسبة للذات، داخل النص الذي يمثل عبر هذه اللحظة، الاختلاف وتعدد الممارسات الاجتماعية، التي يتحقيقها لا تأخذ في الاعتبار. إذن السؤال يخص إدخال صراع الدلائلية، وإجراءها، ليس فقط داخل الـ"تجربة الفردية"، حيث هي موجودة بأي حال من الأحوال، ما دامت تدمرها، إنما داخل السيرورة الموضوعية للعلم، وللتقنية وللعلاقات الاجتماعية اليوم. هذا هو الرهان الذي دشنته نصوص نهاية القرن التاسع عشر»( ).
3 ـ وضعية الممارسـة:
إن اعتبار النصوص كممارسات دالة، يعني أن نبحث في اشتغالها، وفي علاقتها مع ذاتها كإجراء. وهذا يعني حضور النص كممارسة دالة، له ذات ومعنى ومنطقا، لكنه يغيب عنه، وبهذا الغياب يرمز له. وهذا ما يكسبه طابعه الاجتماعي.
تشكل الممارسات الأربعة التي سطرتها الناقدة جوليا كريستيفا في كتابها "ثورة اللغة الشعرية"، وهي السرد la narrationوالنقدla métalangue والتأملla contemlation والنصle texte ، ممارسات دالة، وبهذا تكسر الانغلاق الطبيعي او النرجسي للإجراء الدال، لأجل أن تمسك بكل المآزق واللعب، الذي يجري داخل هذه الممارسات وعلى الساحة الاجتماعية. وتتحقق هذه المرحلة من التوازن بين ما هو اجتماعي وما هو نفسي، الذي يساعد على ظهور مرحلة جديدة، ويجب أن نتساءل عنها وعن وضعها.
لقد كشفت الثورة الفرنسية وعلى العموم القرن التاسع عشر عن التاريخ الذي اعتبرته الجدلية الهيغلية تاريخا للذات. وتبرهن الماركسية، على أنه متتالية من الصراعات والقطيعة داخل علاقات الإنتاج. ويبرهن تأسيس الجمهورية البورجوازية منذ النصف الثاني في القرن الماضي على أن التاريخ لم يكن منغلقا، بل إن منطقه قابل للإدراك ومعقول، يمكن السيطرة عليه. وليس التاريخ هنا، تاريخ الذات، إنما هو تاريخ لأنماط الإنتاج. يبقى هنا علينا أن نعرف مصير الذات التي لا تكون إلا إجراء للدلائلية، ولا تظهر إلا كممارسة دالة.
«إن كان التاريخ هو أنماط الإنتاج، فالذات هي التناقض الذي يؤثر في الممارسة، لأنها تكون دائما ممارسة دالة، سيميائية ورمزية. إنها قمة حيث يبرز المعنى ويبقى. ويتحتم على الفن، أن يوضح بأن الذات هي الغائبة عن الممارسة وداخلها، مثلما يتحتم على الاقتصاد السياسي أن يبرهن على أن التاريخ هو قضية صراع الطبقات»( ).
يكون حضور النظرية الفرويدية موضوعيا، لأنه يبحث عن حقيقة الذات، داخل العلاقة التي يمكن أن نعتبرها كمجموعة صغرى لعلاقة الممارسة.
إذن كان من الضروري العودة إلى ممارسة النص، بعد تأكيد فرويد على استحالة توافق الذات مع نفسها الجنسية، فالتناقض الملازم لإجراء الدلائلية يشكل شرطا لكل ممارسة.
تبدو مهمة الشعر صعبة، لأنه لا يهتم بالأحداث السياسية أو التاريخية، وإلى الانقلابات وإلى دسائس الملك وغير ذلك مما يكون مرتبطا بالسياسة والحكم. إنه يحاول الكشف عن القوانين التي تجدد السياسة النظرية وتحييها، ولهذا يجب أن تعطى للشاعر أهمية كبيرة داخل المجتمع.
ندرك، أن الشعر هو تلك الممارسة التي تتحدد من وضعية الذات الوحيدة لاستكشاف الاشتغال السيميائي، الذي يعبرها، ويسم التقطيع الموسيقي للجمل والعمليات المنطقية المركبة. ويمثل شعر لوتريامون ـ حسب الناقدة جوليا كريستيفا ـ نموذجا لهذه التجربة التي تمفصل تجربة عملية جديدة للشعر تهرب من الدهان، وتهدف إلى توظيف حقيقة الذات داخل الخطاب الاجتماعي. وما يجب الاهتمام به، هو تلك العلاقة بالآخر، فالحقيقة هي تغيير، وتخييل، وهي ما يعبر عنها لوتريامون ضد أخلاقية باسكال، ويشكل إجراء التناقض هنا، لحظة حتمية داخل حركة المعرفة والتجديل والمنع الرمزي.
هذا ما يمثله الضحك أو السخرية، ويختلف الضحك عن الحلم لأنه يمثل تماسكا للأنا وتجميع للفاعلية النفسية كذلك. واستغلال الاسم المستعار عند لوتريامون يدخل السلبية ويلغي الذات، كما أن اسم الأب يطرح القطيعة الذي توجد الذات داخلها كغائبة. وهذا التمفصل المزدوج أو غريزة الموت في الكتابة Thantographie، كما يسميها فيليب سولير، هو استغلال لاسم الأب للوصول إلى التلفظ أو التقرير، وتظهر النكتة عند فرويد، في التمفصل المتنافر للاسم المستعار وللتخييل، حيث تصبح قوة التحريك السيميائية صيغة وحيث تحلل الصيغة داخل السلبية التي تنتجها. و«هذه الأخيرة (النكتة) ليست إلا الظاهرة المتعالية لهذا المسار العام لارتباط القطبين الاثنين، لإجراء الدال، الخاص بكل ممارسة، بقدر ما تطرح فيها الذات كغائبة»( ).
لقد هيغل حدد هذا المسار كنتيجة لجدلية الفكرة المطلقة التي تطرح من جديد، لكي تعارض بعد أن تؤكد سلطتها. ويجعل لوتريامون من السخرية بما أنها سيرورة عرضا للتناقض والتنافر الداخلي للممارسة الدالة. ويشكل الفنان هنا تجربة متميزة. وتتطابق الضحك عند لوتريامون بالسخرية والتهكم، وهو يسم العدوان أو رفض المبدع، كما أنه رفع للمكبوتات بخرق المحرم، لإدخال غريزة العدوانية.
تمثل ممارسة النص شكلا من الضحك، و نحصل على الرغبة برفع الكبت التي توظف لإنتاج موضوع جديد. وكل ممارسة تساعد على إنتاج جهاز دال جديد، تخضع لمنطق الضحك وتكستبه لمصلحة الذات إن وجدت هذه الممارسة، تظهر المتعة التي توظف فيها، وتوازن الضحك الذي تخفيه.
4 ـ الوظيفة الأدبية للنص:
تمارس الناقدة جوليا كريستيفا هذه الممارسة الدالة على نصوص مالارمي ولوتريامون، وتبين كيف تشتغل، حيث تظهر قصيدة "إيجتور" كحقيقة للذات الهيغلية، للمعرفة المطلقة، وتعمل هذه الممارسة من خلال الفعل "ضرب" ومن خلال "الصدفة".
يفجر هذا الفضاء الخاص ر إدراكا متميزا للممارسة الشعرية عند كلا الشاعرين، ويحاول كل الخروقات لتشكيل أجهزة جديدة تحرك التاريخ. وقد كتب ف. سوليرPH.Sollers إن هذه الممارسة ليست لها صلة بمفهوم الأدب، إنما هي نظرية للمجموع، تدرك انطلاقا من ممارسة الكتابة المطلوبة. وهذا يعني أن مفهوم الكتابة سيتخذ طابعا جديدا يخرجه من الكثافة والأسطورة والتمثيل لتدرك في خطيتها وفضائها. ويجب أن يكون التفسير السيميائي كتابة متكررة ومنسقة وداخل حوار للكتابات. وتمثل الكتابة السيميائية، كتابة متكررة لكتابات تحليلية، ولهذا فعلى السيميائي أن ينتج على التوالي. لكن، ستكون لهذا الإنتاج السيميائي، خصوصية الاتصال بين إنتاجيتين، يعني الكتابة والعلم. وهنا ستكون السيميائيات موقعا للتساؤل عن التمييز بين الكتابة والعلم. ويصبح الخطاب النظري هنا، يلعب دور المؤرخ أمام مثل هذا الاستهلاك العملي للتاريخ لكي يوجد كممارسة.
إننا هنا أمام نقطة تتعلق بالوظيفة الأدبية للنص أو للفن عموما. وهذه النقطة الهامة لا يمكنها أن تطرح إلا من منظور جديد، يهتم بالذات داخل اللغة أو داخل المعنى. إذن «سيعين الأدبي بالتسليب النرجسي داخل الممارسة؛ وبتعبير آخر ما هو أدبي، هو الممارسة التي تفكك التثبيت النرجسي (الذاتوية) التي يستسلم لها إجراء الدال في تحققه الاجتماعي ـ الرمزي. وتسترجع الممارسة مثلما حددناها، الواضعة والمفككة للمعنى، ولادة الذات، ما قلناه حول الأدبي»( ).
تفصلنا مثل هذه المفهمة للوظيفة الأدبية للفن عن الموقف الهيغلي المثالي الذي ينظر للفن على أنه وسيلة للمنع أو لتطهير الشهوات، مع تمثيلها. كذلك تبتعد هذه المفهمة عن تلك الرؤية للفن التي تجعل الفن يخدم إيديولوجيا تقدمية أو فلسفة طليعية اجتماعية وتاريخية، بإنكار الخصوصية النوعية للفن، في أن يتمركز بين الميتاـ لغة أو التأمل من جهة، وبين الاقتحام الغريزي من جهة أخرى. قد تؤدي الفلسفة الهيغلية، إلى تبعية أدبية للفن وللفلسفة، في حين أن الفن يفترض أن يمثل التناقض العميق فيما بينهما. ويبدو النص كما تحاول تحديده الناقدة جوليا كريستيفا، النموذج الأكمل لمثل هذه الممارسة.
ـ5 ـ الممارسة الدالـة:
تبدو السيميائيات، مثل البنية التحتية للعلوم الإنسانية. وتكشف عن مناطق ضعفها عندما تحول هذه الممارسات السوسيوـ تاريخية إلى أنساق دالة. وهذا يعني تفكيك نسيج العلامة لأجل إدراك الإنتاج الفعال المادي والجسماني والاجتماعي والتاريخي للممارسات الدالة. «لا تبدو الممارسة النصية عند الناقدة جوليا كريستيفا، مجرد نقل بسيط لعملية كتابية ما، كما أنها تتجاوز مجرد الحديث بموقف طبقي معين يتم تمثيله في مدلول يفهم عادة "كمعنى" (كبنية). إنها تقوم بزحزحة ذات الخطاب (معنى أو بنية معينة) عن مركزها لتنبني هي كعملية نثر داخل لا نهائية اختلافية. ويتفادى النص في نفس الآن إقامة رقابة ما على الاكتشاف "العلمي للانهائية الدال"، لأنها رقابة محمولة بشكل مواز من طرف موقف جمالي معين وواقعية ساذجة معينة»( ). وتشهد هذه الرؤية الجديدة على تحول متميز يمارس فيه التحويل الإبستمولوجي والاجتماعي والسياسي. كذلك يبرز هذا التصور أن مفهوم النص هو ناتج عن تعريف للنص كعمل، في محاولة لإظهار الكيفية التي تشغل بها اللغة، وقدراتها على التحويل. وهذا ما سيساهم في توسيع المقولات النحوية ويقلب القوانين الدلالية، ويفسح المجال لتموضع النص كإنتاج أو كبنية تحتية.
إن دراسته للنص التي تعتمد التحليل الدلائلي، لا تعني حصر دراسة الممارسة الدالة في العلامة. إن الأمر يتعلق بتفكيك النص وفتح داخل ـ خارج، جديد داخله. ونقصد هنا فضاء تأليفيا وتحويليا، فضاء للدلائلية. هذا العمل، يفتح داخل النص كنسق من العلامات، مسرحا آخر جديدا، يخفيه سطح البنية. هكذا يمنح التحليل الدلالي لنفسه فرصة إمكانية الإمساك بتركيب من البنينة الدلالية. ويتشكل النص كممارسة دالة، كعملية عبرـ لسانية، لا يمكن أن تختزل إلى مقولات معروفة من قبل لغة التواصل. وتتمكن السيميائيات بهذا الفهم الجديد، من إنتاج المعنى داخل هذه الممارسة الدالة كشكل من الإنتاج المولد.
إن عمل السيميائيات / التحليل الدلالي، ينصب على إنتاج المعنى داخل النص. وهذا يستدعي عملا تحويليا بين أنساق العلامات، يبرز تعددا للمعاني، كنتيجة لتعدد معاني السيميائي. وتؤكد الناقدة هنا على أن قراءة النص كممارسة دالة يقتضي الإنصات إلى مولد كل عنصر من العناصر المكونة لبنيته الحاضرة. ونتناول النص هنا باعتباره حاملا لدلالة متعددة لا نهائية، كفضاء متعدد حيث تتقاطع معاني متعددة، وكلعب متحرك من قبل الدال. تتميز هذه الدلالة الناتجة عن هذه الممارسة الدالة، بكونها تنتمي إلى حقل الإنتاج والعمل الدال، والتلفظ والترميز. ويدخل ذلك في إطار عمل الدلائلية الذي يحدد خصوصية النص كممارسة دالة، في علاقتها بمختلف الممارسات اللغوية الأخرى. ويمكن أن نموقع اشتغال الممارسة الدالة عند الناقدة جوليا كريستيفا، داخل نظرية للغة، تسمح بفهم وضعية اللغة الشعرية في علاقتها باللغة نفسها. وتظهر اللغة هنا كعملية استكشاف عميقة لإمكانيات التلفظ، تبعا لمجموعة من القواعد، التي تحدد الموضعية المركزية للغة الشعرية، في علاقتها بلا نهائية السنن الذي تهدف إلى تحقيقه.
نصادف هنا، تلك العلاقة التي تربط النص بالنصوص الأخرى، التي يكون النص صدى لها، وتغييرا وتكرارا. وهذه الرؤية تحيلنا على ما يقع داخل السلسلة الأدبية، وعلى ما يقع داخل تمفصل هذه السلسلة، في ارتباط بالسلاسل الأخرى الاجتماعية والتاريخية. ويتمظهر النص عبر هذه الممارسة الدالة كمزدوج كتابة / قراءة. إن مفهوم الممارسة يوظف عند الناقدة جوليا كريستيفا ليدل على تجربة للتناقض، ولهذا فهي ترى كما أشرنا إلى ذلك أن مجال الممارسة يتخذ شكلها النظري والتطبيقي، داخل إطار للتناقض، يستند على الممارسة الاجتماعية. وفي هذا الإطار يأتي تمييزها بين الممارسة والتجربة، لتبين الاشتغـال الدال للنص، وكذلك اشتـغال السلبية داخل النص. فيدخل فعل الممـارسة النص في علاقـة مع مواضيـع وذوات أخـرى. ونتحرك هنا على أرضية جدلية مادية ودالة، ولا نهائية، تشمل التناقض، حيث يتحقق الإجراء الدال. ويكون ضروريا هنا حضور العنصر المكبوث في الذات، باعتباره لحظة لعودة الوعي المعرفي الذي ينتج شكلا من الصراع مع كل الأنساق السابقة الطبيعية والاجتماعية والعلمية وحتى السياسية. «إذا اعتبرنا النصوص كممارسة دالة، فهذا يعني أن نتوقع اشتغالها الدال في علاقتها بموضوعها كإجراء: في علاقتها بالوضعية المغيبة دائما لهذا الأخير. إذا كان النص ممارسة دالة، فهذا يعني أن له موضوعا ومعنى ومنطقا، لكنه يغيب عنه، وبهذا الغياب يرمز له. يمكننا القول إن النص كممارسة دالة هو فاعلية للجنون، أو جنونا فاعلا، يعني اجتماعيا»( ). إنها ممارسة مركبة تقتضي الإمساك بحروفها عبر نظرية للفعل الدال، الذي يمارس عمله داخلها وبواسطة اللغة.
هذا ما يطرح على التحليل الدلالي الفحص النقدي للعلامة، بفحص تطورها التاريخي، ومدى صلاحيتها داخل مختلف أنماط الممارسات الدالة وعلاقته بها. فالدال النصي، لم يعد مرتبطا بمعنى وحيد، بل أصبح شبكة من الاختلافات التي تسم تحولات الكتل التاريخية. وسيسمح هذا التفجير على مساحة اللغة، بتحطيم الآلية التصورية التي تؤسس الخطية، وتمكن من قراءة تاريخ منضد وجدلية منتجة، لا يمكن اختزاله إلى معنى وحيد. إنه يمكن من إقامة أنماط من الممارسات الدالة، تظل سلسلتها متعددة ولا نهائية. وتجعل هذه العملية التحويلية، النص كممارسة دالة يحافظ على العلاقات التي تربطه بمختلف الممارسات الأخرى الدالة داخل التاريخ.
هذا، التوظيف لمفهوم الممارسة «يمكننا من إدراك الممارسة المنتجة داخل اللغة، التي توضح من خلالها. وهذه الممارسة لا تتحدى بتحقيقها لتفجير صوتي ومعجمي وتركيبي لموضوع علم اللسان، فقط الإمساك الذي تمارسه عليها كل العلوم الإنسية، ولا تتطابق فقط مع الجسد الذي تحول من قبل المحلل، إنما تبين حدود أجهزة شكلية ونفسانية...»( ). ويكشف لنا هذا المفهوم على أن التغيرات التي يخضع لها فضاء النص، مرتبطة بوضعية الذات وعلاقتها بالمجموعة الخطابية وباللغة. وهذا ما يجعل الناقدة جوليا كريستيفا تنظر إلى كل ممارسة اجتماعية على أنها نسق دال، وهي جدل الذات وجدل الآخر والسياق الاجتماعي لأجل إنتاجية نصية، تكون سيرورة عمل وعلاقات اجتماعية إضافة إلى كونها إعادة توزيع للغة، وهي توزيع يرفض كل استعمال تواصلي وتمثيلي لهذه الأخيرة. هكذا تتجاوز الناقدة جوليا كريستيفا "الأثر" و"الكتاب" كإرسالية مفتوحة ومغلقة لتتحدث عن العمل الأدبي، بصياغة نظرية للنص، يقصد إدراك خصوصياته اللغوية والوظيفية بالبحث عن موقعه الخصوصي، وقواعد اشتغاله ووظيفته التاريخية والاجتماعية. هكذا تنظر لهذه الممارسة الدالة، كانفجار جماعي للمحفل المولد والمنتج للمعنى. ويدل ذلك على أن النص له منتج بدلا من الكاتب. وهذا التوجه يبدو صائبا في تاريخ الفلسفة الحديثة، ونذكر بذلك عند هيدغر الذي بإشارته إلى زوال الإنسانية يعني أن التخلي بالفكر عن الفردية الإنسانية كأصل لكل عمل، يجعلنا ندرك أنه إذا كانت الذات الإنسانية قابلة للانمحاء، فالذاتية لا يمكن تجاوزها( ). وهذه القراءة تكشف داخل الإرسالية الشعرية عن مظاهر تنفلت من الدراسة البنيوية السطحية.
إذن، تقصد الناقدة جوليا كريستيفا «بالممارسة الدالة، تكونا وتجاوزا لأنساق دالة، ويتطلب تكون العلامات وحدة الذات المتكلمة، داخل مؤسسة اجتماعية، التي تعترف بها كأساس لهذه الوحدة. ويأتي تجاوز نسق العلامات بإجرائية الذات المتكلمة، الذي يتستر تحت غطاء المؤسسات الاجتماعية التي يعترف بها داخلها. وتتوافق كذلك مع لحظات للقطيعة والتجدد وثورة المجتمع»( ). وهذا يعني أن مفهوم الممارسة الدالة، يستدعي حضور نمط الإنتاج دون أن نجد أي اختلاف معه، بل كلاها يقتضي حضور مفهوم الإنتاجية النصية. هذا ما حدا بالناقدة جوليا كريستيفا إلى الاستعانة بالنموذج الماركسي والألتوسيري والفرويدي، وبهوسرل وهيدغر في بعض من ثوابتهما. فالأرضية الخاصة التي تشتغل عليها الممارسة الدالة ونمط الإنتاج هي الذات المتكلمة، وبشكل أوضح، تلك العلاقة التي تتأسس بينها وبين الوحدة، يعني أساسا للمجموع الدال والاجتماعي، والإجراء الذي يسبقها ويليها.
انطلاقا من هذا المنظور تدرك الناقدة جوليا كريستيفا مختلف الممارسات الدالة والنظريات التي تواكبها، داخل مختلف الحضارات الأخرى وأنماط الإنتاج الأخرى. وتؤكد كذلك أنه انطلاقا من هذا الانفجار للمتناهيات الاجتماعية ـ الرمزية المتمثلة في العلامة والعائلة والدين والدولة، يمكن أن نطرح العلاقة بالآخر، وبهذه الممارسات الأخرى والأنساق الدالة. وهذا يعني أننا يجب أن ندرك أن هذه العلاقة لا يمكن أن تختزل إلى علاقاتنا، لكنها تخضع لتوزيع آخر للعلاقة وحدة / إجراء، نسق رمزي / غريزة سيميائية. فالممارسة هي فاعلية للإنتاج، تحقق نوعا من المتعة داخل المجموعة الاجتماعية. ويعرض لنا النص، كما هو مسطر هنا تلك اللحظة القوية، والنوعية لكل إجراء عملي، يخاطب كل الذوات التي تعبر عنها. وهكذا يسترجع النص التجربة الفردية، ويوظفها داخل التلفظ وداخل المجموع السوسيو ـ رمزي. هذا ما يحقق إجراء الذات داخل اللغة، وبالتالي يصبح النص نسيجا يتحقق داخله الإجراء الدال. وتتمركز وظيفة اللغة وتستغل كل البنيات اللغوية والرمزية والاجتماعية باعتماد التحويل، ويتحقق بذلك النص كممارسة دالة. على غرار هذا الفهم العملي لمفهوم الممارسة سطرت الناقدة جوليا كريستيفا تلك الممارسات الأربعة ( ) المشار إليها فيما سبق .
«إن هذه الممارسة هي موقع للعلاقات الاجتماعية بل أيضا للعلاقات غير الاجتماعية (للاستهلاك وللرفض)، تدخل في سكونها (...) دينامية الإجراء الاجتماعي ـ التاريخي الجاري، في نفس الوقت الذي تساهم في خلق هذا الإجراء بصياغة موضوعه عبرـ بنية جديدة للغة، على أن لا يكون هذا الموضوع وتنظيمه للإجراء كنص انعكاسا ساكنا لحقيقة داخلية، إنما يعمل داخل بؤرة للإنتاج نفسها وقتل هذه الحقيقة. وهذا يدل على تغيير لوضعية الأدب نفسه...»( ).
المراجع:
G. W, F Hegl, la phénoménalogie de l’esprit Ed Montaigne, Paris 1941
Julia Kristeva, La Révolution du langage poétique Editions du Seuil 1974
Julia Kristeva, Essais de Sémiotique poétique. 1972.
Julia Kristeva, La Traversée des signes, Ed du Seuil, 1975,.
Julia Kristeva, Sémanalyse, Editions seuil.1969.