من المعجز في الخطاب الرباني – دلالة الإحسان في السياق القرآني بين القصد القرآني ودلالة التعاقب في حروف الجر
أستاذ اللغة المساعد الدكتور محمد توفيق عبد المحسن الدغمان
جامعة الانبار / كلية الآداب – قسم اللغة العربية
فقرة مجتزأة من البحث (المبحث الأول الفعل ( أحسَنَ ) بين التعدي واللزوم :
أولاً : دلالة فعل الإحسان المتعدي على ( الهيئة) .
الفعل (أَحسنَ ) استُعْمِلَ متعديا في القران الكريم في ستة مواضع مع المفرد . في خمسة منها بلفظ الماضي ، وهي في السور :
يوسف .الكهف. السجدة . غافر . التغابن .
والسادس بلفظ المضارع ، وهو في سورة الكهف .
وفي الأمثلة المتقدمة جميعها، الإحسان بمعنى ؛ الإتقان ، والجودة ، والعناية الفائقة في أمور الغالب عليها أن تكون محسوسة . وهذا الفعل مزيد بالهمزة ، متعدي إلى مفعول ظاهر ، فالفعل ( أحسَنَ ) مفاعيله ؛ مثوايَ ، عملاً ، كلَّ ، صوركم . والفعل ( يُحسنون ) مفعوله ؛ صُنعاً . وأصل الفعل اللزوم ٌ، فهو : (حَسُنَ ) من باب ( كَرُمَ) وهو فعلٌ لازم . وقد استعمل الفعل(أحسنَ) لازماً، لأننا نقول: أحسنَ فلان إلى الناس ، يُحسنُ فهو مُحسنٌ ، لكنه عُدِّيَ من غير حرف في سياق (أَحسَنَ مثواي) في سورة يوسف ، أو مع الحرف ضمناً ، نحو ( أحسَنَ إلى ) و ( أحسَنَ بـ ) وهو من المجاز ، والمتعدي بالهمزة حينئذٍ يكون لبيان الهيئة لا لبيان وقوع الفعل ، فالفعل الواقع حقيقة هو المثوى من ثَوى ، أما الإحسان فيأتي لبيان الهيئة ، وكذا في ؛ ( أحسنَ عملا ، وأحسنَ خلق كل شيء ، وأحسنَ صوركم) فيما تقدم ، إذ المراد العمل ، والخلق ، والتصوير ، و الإحسان للإتمام والإتقان في العمل والخلق والتصوير ، وهو فعلٌ لاحقٌ لفعلٍ واقع . ففعل الإحسان لا يتعدى بنفسه إلا إذا كان الإحسان ماديا ، للدلالة على الإتقان والمهارة والجودة ، وبيانا للهيئة ، مسبوقا أو متبوعا بفعل أصلي ، والأصل فيه اللزوم ، أما اللازم فهو فعل أصلي متفرد.
ثانيا : الدلالة الوجدانية لفعل الإحسان اللازم .
يتضح الفرق بين دلالة الإحسان في الفعل اللازم ، ودلالة الإحسان في الفعل المتعدي ، بأن تكون الدلالة في الفعل اللازم أعمّ وأشمل ، وأنّ الدلالة فيه وجدانية ، فهي أبعد ما تكون عن الإحسان المادي ، بل هي تنتقل إلى الإحسان المعنوي ؛ بمعنى مراقبة الله تعالى في كل شيء ، وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل عليه السلام الذي قال له: الإحسان (( أن تعبدَ الله كأنك تراه ، فإنْ لم تكُن تراه فإنه يراك )) . وباب المراقبة هذا أعلى درجات الإحسان .
وربما التقت دلالة الفعل ( أحسَنَ ) المتعدي ، الذي يعنى التفضل بالإكرام وزيادة العطاء في المحسوسات ، وإكمال الأمر وإتمامه على أفضل حال ، بدلالة الفعل ( أحسنَ ) اللازم ، الذي يدل على الاجتهاد للوصول إلى أفضل العطاء وأجوده ، بحيث يكون المـُحسِنُ مبادرا ً ومتفضلاً في عمله ، ومجتهدا في تفوقه على غيره ، ومحسناً في إحسانه التام ، توصلا إلى الغاية في الكمال ، بدافع التقوى .
لقد استعمل هذا الفعل لازما في الذكر الحكيم على هيئات خمسة بهذا المعنى ، منها ما استقل فيه الفعل بلفظه ، ومنها ما يسنده حرف الجر موقِعا أثر الفعل على المجرور ، وأكثرها في حوار يستند إلى التقوى ، وهي :
1-الماضي اللازم موصولا بواو الجماعة ، وهو في ستة مواضع ، هي :
قوله تعالى
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم )/172 آل عمران . أي قدَّموا أفضل ما عندهم وأتمَّهُ ، متفضلين بأكثر مما كلفوا به ، بعطاء معنوي قد يصحبه عطاء مادي .
( ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)93 المائدة . أي تفضلوا بما يفوق التقوى من عمل خارج حدود التكليف .
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) 26 يونس . أي تفضلوا بالأحسن من الحسنى وزادوا عليه ، فهو منتهى الكمال.
( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) 30 النحل ، و/10( الزمر ) .أي تفضلوا بعطاء تامّ متفرد .
( ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) 31 ( النجم ) . وهي في المواضع الثلاثة تدل على أنهم تفضلوا بعطاء تامّ متفرد ، فاق حدود التكليف .
2-المضارع اللازم موصولا بواو الجماعة : وهو في قوله تعالى: ( وإن تُحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )/ 128 النساء .
3-الماضي اللازم مُعَدَّى لما بعده بحرف الجر ( إلى ) : في قوله تعالى: ( وأحسِن كما أحسنَ الله إليك ) 77 القصص .
4-الماضي اللازم مُعَدَّى بحرف الجر ( الباء ) : في قوله تعالى: ( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ) 100 يوسف .
5-الماضي اللازم مُعَدَّى بـحرف الجر ( اللام ) : في موضعين ، هما :
قوله تعالى: ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) 7 /الإسراء ، وقوله : ( قد أحسن الله له رزقا ) 11/ الطلاق .
والدلالة فيما تقدم من حالات اللزوم ، مع الحرف ومن دونه ، يغلب عليها معنى التفضل بتقديم الأمر على أتمِّ وجه وأكمله ، وقد تعني الوصول إلى الكمال في العطاء أو العمل ، والإتقان في كل شيء عن طيب نفس ورضا ، توصلا إلى الغاية في الكمال ، بدافع التقوى . وكل ما تقدم من صميم فعل الوجدان ، وهذا يغاير ما تقدم في دلالة الفعل المـُعدَّى الدال على كمال الهيئة في المحسوسات .