لاشك أن أي تحليل نصّي يغفل التماسك التداوليPragmatic Coherence، هو تحليل غير مكتمل، ,وهذا المستوى من مستويات التماسك مهم جداً، إذ لا يمكن لمحلل النصّ الاقتصار على مستوى واحد من هذه المستويات، حيث ينتقل مفسر النصّ بين هذه المستويات مستنداً إلى تصورات ومفاهيم وقواعد وقيود اصطلاحية ومعرفية تتآزر فيها لتقديم تفسير متكامل .( 1) ولأهمية هذا المستوى اعتبر بعض الباحثين النصّ/الخطاب ظاهرة تداولية والقول وحدة تداولية لا غير.( 2) وهنا يجب النظر إلى ما قرره فان دايك من ((أن التداولية الكبرى دراسة التنظيم الشامل للفعل المشترك الإنجاز أعني متوالية أفعال الكلام والسياق وعلاقتهما ببنية الخطاب))( 3)، ولابد من التركيز على ((أن أفعال الكلام لم يعد يُنظر إليها منفصلة (لأنها لا تُحقق من خلال جمل فحسب )، بل تفهم على أنها تتابعات معقدة للفعل اللغوي، (من ثم تتعلق بالنصوص) )) ( 4).
ولا ينبغي (( إغفال أن الفكرة الأساسية في التداولية هي أننا عندما نكون في حال التكلم في بعض السياقات، فنحن نقوم أيضاً بإنجاز بعض الأفعال المجتمعية؛ وأغراضنا ومقاصدنا من هذه الأفعال، حيث تتغير صورة معرفة المخاطب تبعاً لأغراض المتكلم تغييراً ملحوظاً وفي معنى مبتذل، فنحن عندما نعد أو ننصح إنما نريد أن يعلم المخاطب بأننا نقدم له وعداً ونسدي له نصحاً.وهذا العلم أو المعرفة هي ثمرة إخراج وتأويل صحيح لقوة فعل الكلام، وفي ذات الوقت فنحن نريد أن يعلم المخاطب (ما) يحكم به أو ما يكون محكوماً به وموجوداً، ومنصوحا به، أعني ما هو الأمر والشأن، وما ينبغي أن نفعل أو سنفعل في بعض العوالم الممكنة (وفي معظم الأمر في عالم واحد متحقق) (5 ). حيث يرتبط مقصد المتكلم بالسياق . ((ويوضح السياق ما يفعله المتكلم على نحو أفضل؛ أي إن كان يريد بمنطوقه التهديد أو التحذير أو نحوهما)) (6 )؛ إذ (( إن الفعل الكلامي يملك أغراضاً متباينة بتباين ملابسات استعماله)) (7 ).
من هنا يجب الاهتمام بالسياق الذي يجعل من النصّ يحقق وظيفته وغرضه في عملية التواصل، حيث تحقق متوالية الأفعال الكلامية وظيفة كلية شاملة؛ ((أي أن الفعل الكلي الشامل بالنظر إلى نوع النصّ يمثل المقصد الرئيس للمتكلم من نصه، وقد لا يكون اكتشاف هذا المقصد من السهولة بمكان في بعض النصوص التي تحوى في ما وراء النصّ قصوداً خفية أو إضافية، وربما كان النصّ في وادٍ وقصده في وادٍ آخر .ومن أجل ذلك فإنه من الواجب استعمال بعض القواعد المساعدة لقواعد فان دايك في الوصول إلى الفعل الكلامي الإنجازي الشامل، ومنها :
1- الاهتمام بسياق الموقف، وبأبعاد العلاقة بين المتكلم والمخاطب .
2- الاهتمام بتتبع الحيز الموقعي الذي يشغله الفعل الكلامي بالنظر إلى نوع النصّ، وإلى قدرات منتج النصّ الأسلوبية .
3- الاهتمام بتصنيفات أنواع الفعل الإنجازي الكلامي المفرد السائدة في النص المعين لوضعها في تواتر نسبي مع أنواع الأفعال لأخرى )) ( 8)
- السياق(Context)
إن تحليل التماسك على المستوى التداولي يدفعنا إلى محاولة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة :من يقول النصّ؟ ولمن ؟ وماذا يقول ؟ وكيف ومتى وأين يقول النصّ ؟
إن هذا النوع من التحليل يركز على المنتج والمتلقي والموضوع ويبرز دور سياق الموقف في تحقيق التماسك النصّي، فهناك تتابعات لقضايا أو وقائع ليست مقبولة منطقياً، ولكنها متماسكة ومقبولة باعتبار وصف الموقف ومعرفة المتكلم والسامع بالعالم، فالسياق هو تجريد لما يمكن أن تطلق عليه بصورة حدسية (موقفاً اتصالياً). وعناصر الموقف الاتصالي هي التي تحدد قبول المنطوقات اللغوية (أو عدم قبولها ) أو إصابتها (أو إخفاقها) أو كفايتها (أو عدم كفايتها) (9 )؛ إذ ((يتوجب علينا أن نحسب حساباً لحقيقة أن الجمل تنطق ضمن سياقات معينة، وأن جزءاً من محصلة معنى نقش الكلام يستمد من السياق الذي ينتج فيه)) (10 )؛ أي يرتبط المعنى بالسياق، ويقوم التحليل النصّي بدور مهم في تفسير اللغة في السياق، بنوعيه :سياق الموقف والسياق الثقافي وصولاً لتحقيق التماسك النصّي.
سياق الموقف(The context of the situation):
وهو السياق الذي يتصل فيه النص بموقف تتفاعل فيه مجموعة من المرتكزات والتوقعات والمعارف؛ أي يتضمن الدلالات الخارجية وإنتاج النصوص واستقبالها(11). ولكي نفهم النصوص الشعرية فهماً صحيحاً ونفك شفرتها، لابد أن نتعرف إلى السياق التداولي، (( الذي هو مجموعة من خصائص الموقف الكلامي والتي تحدد مدى ملائمة الأفعال الكلامية )) (12 )، وأن يمتلك المتلقي معرفة تمكنه من إثبات تماسك النصّ انطلاقاً من السياق الذي أنتج فيه. و العناصر المساعدة على فهم النصّ، وهي:المتكلم والسامع وزمن المنطوق ومكانه والغاية من الموضوع (13 ).
الهوامش:
1- يُنظر: سعيد بحيري، علم لغة النصّ، ص145.
2- يُنظر: آن روبول،جاك موشلار،التداولية اليوم،علم جديد في التواصل،ص215.
3 - فان دايك،النصّ والسياق، ص309.
4- جرهارد هلبش، تطور علم اللغة منذ 1970،ص322.
5 - يُنظر:فان دايك،النصّ والسياق،ص292.
6-محمد العبد،النصّ والخطاب والاتصال،ص290.
7 - المرجع نفسه،ص 288.
8-جمعان عبد الكريم،إشكالات النصّ،ص،477.
9 - يُنظر :فان دايك،علم النصّ،مدخل متداخل الاختصاصات،ص ص116،144ًً
10 - جون لاينز،اللغة والمعنى والسياق، ص200.
11 - يُنظر : دي بوجراند،النصّ والخطاب والإجراء،ص91 وهامشها .
12-Teun A. van Dijk The Semantics and Pragmatics of Functional Coherence in Discourse , www.discourses.org.p.51.
13 - يُنظر : فان دايك،علم النصّ،مدخل متداخل الاختصاصات،هامش ص 136.
[b]