تعمل الدكتورة صافية زفنكي في أغلب كتبها على دراسة أثر النظريات والمدارس اللغوية الحديثة في تطور الحركة المعجمية بمختلف جوانب المعجم اللغوية والتقنية، وغالباً ما تقوم بعرض أسس كل مدرسة، ومفهوماتها، ومميزاتها وسلبياتها أو صعوباتها، وبعرض بعض الحلول لمواجهة بعض الصعوبات والمعوقات، وذلك كمحاولة لتقديم دراسات دقيقة ومنهجية، وذلك بالاعتماد على عناصر متكاملة متصلة بماضي المعجم وحاضره، وتأتي أهمية كتبها من خلال هدفها في صناعة معجم عربي يواكب الحركة المعجمية المتجددة ضمن الخصوصية العربية لغة وثقافة.. والدكتورة زفنكي باحثة أكاديمية في مجال اللسانيات التطبيقية في جانبي المعجمية والمصطلحية ولها أبحاث ودراسات في هذين الحقلين، منها (التطورات المعجمية والمعجمات اللغوية العامة والعربية الحديثة) و(المناهج المصطلحية: مشكلاتها التطبيقية ونهج معالجتها) و(معجم الألفاظ الأجنبية في اللغة العربية الحديثة والمعاصرة) إلى جانب دراسات منشورة في دوريات أو مشاركة في ندوات... ومن كتبها كانت لنا هذه الإضاءة حول ظاهرة الاقتراض في اللغة، حيث تؤكد أن هذه الظاهرة عرفت بين الشعوب منذ أقدم العصور، فهناك ألفاظ سومرية دخلت الأكادية، كما دخل بعض أسماء حروف إلى الأبجدية اليونانية من الفينيقية، وحدث هذا التلقيح نتيجة عوامل الاتصال المختلفة، السياسية والثقافية والتجارية، بين تلك الشعوب قديماً.. كذلك الأمر عند العرب؛ فلم يكن العرب في الجاهلية أمة منطوية على نفسها، بل فرضت عليهم ظروف حياتهم الاتصال بمن جاورهم من الأمم سواء أكان ذلك عن طريق التجارة أم الغزو أم الوفادة، وتدل على ذلك المفردات الأعجمية التي دخلت اللغة العربية آنذاك.. حيث ظهرت مصطلحات وتسميات مختلفة للدلالة على الألفاظ الأجنبية، من مولَّد وأعجمي ودخيل واقتراض وتعريب وتغريب وغيرها، واختلفت معاني هذه المصطلحات وتعددت مع اختلاف المناهج السائدة في كل عصر، لذا لا بدّ هنا من إيجاز الفرق بين هذه المصطلحات، لبيان تطور هذه الظاهرة وتوسعها..
ثلاثة مصطلحات بواحد
وإذا ما حاولنا التمعن بمفهوم أو مصطلح الاقتراض نجده بأنه يحتوي على ثلاثة مصطلحات دفعة واحدة: (المعرّب والدخيل والأعجمي) ولو عدنا إلى المنشأ التاريخي لتلك المصطلحات نجد أن المعرّب هو لفظ استعاره العرب الخلص في عصر الاحتجاج أما الدخيل فهو لفظ أخذته اللغة العربية في مرحلة متأخرة من عصر الاحتجاج (الإحتجاج بدايته منذ العصر الجاهلي وحتى عام 150هجري وهو عصر اللغة العربية الأصيلة المعتمدة وما بعد ذلك العصر ظهرت المجازات والمصطلحات في اللغة) ثم نشأ فيما بعد مصطلح الأعجمي المولّد على الكلمات التي دخلت بعد ذلك على أيدي المولّدين، ثم أتى بعدهم فريق آخر ليفرق بين المصطلحين بعد تداخلهما وملاحظاتهم أن هناك من خلط بينهما بأن المعرب لفظ مقترض من اللغات الأجنبية وضع في الصيغ والقوالب العربية والدخيل لفظ دخل العربية من اللغات الأجنبية بلفظه أو بتحريف طفيف في نطقه، دون التقيد بعصر دون آخر.. ثم رغب المحدثون التخلص من تعدد هذه التصنيفات وتداخلها فأطلقوا مصطلح الاقتراض عليهم جميعاً: المعرب والدخيل والأعجمي..
مواقف وآراء متباينة
طبعاً هذه الظاهرة شغلت العرب منذ ظهور الإسلام ومازالت تشغلهم حتى اليوم. إلا أن نظرة القدماء اختلفت عن نظرة المحدثين فقد نظر إليها معظم القدماء من خلال الهوى والعصبية والمعيارية، التي أدت إلى اتخاذ مواقف متباينة، وانقسموا إلى فريقين: فريق أجاز ماعرب في الجاهلية وصدر الإسلام، وخوفاً من تفشي الكلمات الأعجمية عدّوا كل ماعرب بعد ظهور الإسلام مولداً عامياً، يمثل هذا الموقف السماعيون، وحجتهم في ذلك أن التعريب مقصور على العرب أنفسهم اعتقاداً منهم أن هذه المرحلة هي مرحلة النقاوة العربية وفصاحتها. أما الفريق الثاني فهو اتجاه القياسيين الذين أجازوا الإلحاق. وحجتهم في ذلك أن العرب أدخلت في كلامهم الألفاظ الأعجمية كثيراً سواء أكانت على بناء كلامهم أم لم تكن، فكذلك جوزوا إدخال هذه الكلمات المصنوعة في كلامهم، وحكم بعض علماء اللغة بضرورة جعل المعربات على أبنية كلام العرب، ولم يشترط ذلك آخرون (ومنهم سيبويه وابن سيده وابن بري والخفاجي، وغيرهم). كما تعددت وتباينت مواقف المحدثين تجاه الظاهرة في بداية النهضة العربية الحديثة، فكانت القضية مرتبطة بجوهر اللغة وفلسفتها عند فريق، ومنها ما يتعلق بالشخصية القومية، ومرتبطة بوفاء مسايرة العصر وتقنيته عند فريق، ثم هي دواع وظيفية أقلها طبيعة العمل الخاص عند فريق آخر. فانقسموا باتجاهاتهم إلى ثلاث فرق هي: (المتعصبون): الذين ذهبوا إلى عدم جواز التعريب، وقالوا بأنه يجب علينا أن نسد حاجاتنا إلى المفردات بطرق أخرى، كالاشتقاق، والنحت، والإبدال، إلى جانب ما في بطون المعجمات وإن كان مهملاً أو حوشياً ويمثل هذا الاتجاه: الشيخ أحمد الإسكندري، ومصطفى صادق الرافعي، وعز الدين التنوخي.. (المتحررون): الذين ذهبوا إلى وجوب تعريب الألفاظ الأعجمية كيفما اتفق، ثم استعمالها من غير مراعاة لقوانين التعريب التي وضعها علماء اللغة القدماء ومن دون أي قيد أو شرط، بسبب كثرة ما ترفدنا به الحضارة الغربية بأسماء كثيرة للآلات والمخترعات، وغير ذلك، ويمثلهم يعقوب صروف... (المعتدلون): الذين أجازوا الاستعانة بالتعريب لسد حاجة العربية إلى المفردات، بشرط ألا يعد هذا المعرب أصلاً من أصول اللغة. ومن هؤلاء: طه حسين والشيخ محمد الخضري، والشيخ عبد القادر المغربي، وأحمد أمين وأحمد زكي باشا. وسادت هذه المواقف التي تقبلت هذه الظاهرة والتي عدت الاقتراض بين اللغات ظاهرة طبيعية عرفتها اللغات كلها، وعلى مر العصور. كما رأت في هذه الظاهرة وسيلة من وسائل تنمية اللغة وإثرائها..
التعريب اللغوي
التعريب اللغوي الذي يقصد به الترجمة، ويراد بها نقل معاني الكلمات أو العبارات أو النصوص الأجنبية والتعبير عنها بكلمات وعبارات مقابلة لها في اللغة المنقول إليها، كما يطلق التعريب في ميادين الثقافة العامة، ويقصد به إخضاع النصوص أو الأعمال الأجنبية، علمية أو أدبية أو فنّية، لشيء من التصرف في مبناها ومعناها، وذلك بتطويعها لمقتضيات الظروف وأنماط التقاليد الاجتماعية والثقافة العربية، وجعلها ذات سمة عربية في الإطار العام، وكثيراً ما يحدث هذا الضرب من "التعريب" في المسرحيات والأفلام ونحوها وبعض الأعمال العلمية.. وقد يسمى بالاقتباس أحياناً.
التعريب القومي
التعريب القومي، الذي يعني جعل العربية أداة التفكير والكتابة والاستعمال في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والأدبية والتربوية العربية، بغية التخلص من التبعية ومخلفات الاستعمار، ومواكبة التنمية، أي تعريب الحياة كلها في الوطن العربي، وجعل العربية عنوان الهوية الحضارية العربية الإسلامية، وظهر مثل هذا النمط من التعريب وسط الشعوب التي خضعت للخلافة الإسلامية في القرن الأول الهجري (في بداية القرن السابع الميلادي)، وأصبحت اللغة العربية منذ القرن الثاني الهجري (القرن الثامن الميلادي) لغة الإسلام والسلطة السياسية والإدارية للخلافة العربية.. أما في الوقت الراهن، فقد اتخذ التعريب القومي أشكالاً مختلفة تهدف جميعها إلى جعل اللغة العربية لغة الإنسان الأساسية والحياتية، أي أن تكون لغة العلم والعمل، لغة الفكر والشعور والحراك الاجتماعي، ويتجلّى ذلك في تعريب المؤسسات، أي في اتخاذ اللغة العربية أداة للتعليم والإعلام والإدارة.
سمير المحمود
.......وشكرا