عــــائق اللغة في الدرس الفلسفي:
د. بشــــير خليفي
أ. الــحاج بن دحمان
ترتبط تعليمية و تعلمية الفلسفة بالشروط المرتبطة بإنجاح الدرس الفلسفي في ضوء الشروط الموفرة له
و التي تتشكل عبر ثالوث المعلم،المتعلم و المنهاج.
بيد أن تحقيق الدرس لأهدافه قضية تشترط معرفة بالعوائق التي تقف كصعوبات تحول دون الحصول
على نتائج إيجابية الأمر الذي يمنع من تحقيق الانجازات.
و الواقع أن الدرس الفلسفي في عمقه مبني على التخطي المستمر و الحثيث لهذه الصعوبات التي يعمد
من خلالها أستاذ الفلسفة في مقام أول إلى تبتني الصياغات المفهومية و البناء الحجاجي المخلخل لما
هو سائد، ليكون المنطلق تفكيرا حرا دون حجر أو وصاية ينشطه أستاذ متمكن أو ساع للتمكن من
فنيات و تقنيات التدريس حيث يقوم ببسط موضوع مستعملا لغة فلسفية.
بيد أن الأمر لا يتوقف عند هذه الحدود إذ أن نمط اللغة الفلسفية يعد بدوره موضوعا للتفلسف و لعل
أبرز دليل على ذلك الاختلاف السائد في الفلسفة المعاصرة أثناء الحديث عن طبيعتها بين الصرامة و
الشاعرية.
الدرس الفلسفي : المعنى و الطريق
ينبغي الإشارة إلى أنه لا معنى للفلسفة بعيدا عن التدريس في مفهومه التعليمي و التعلمي، بمعنى
التكوين الذي يحوزه المدرس عبر تشكله و كذا المتلقي أثناء حيازته للمادة المعرفية، فتدريس الفلسفة
شكل ملمحا أشار لبدايات التفلسف الظاهر من خلال سعي الفلاسفة لنشر أفكارهم مثلما يتضح في
حوارات سقراط و جمهورية أفلاطون إضافة إلى اللوقيون الذي عرف به أرسطو.
كما أنه لا معنى للتدريس من دون فلسفة تأخذ على عاتقها تحديد و تفسير المنطلقات بالمعنى الذي
ينتظره المجتمع من المتعلم، و هي الفلسفة التي تبرر و تقترح المنظومة المعرفية التي تنسج على
منوالها برامج التعليم.
بيد أن التدريس في واقعه لا يحيل إلى فلسفة واحدة و إنما فلسفات تتماشى مع السياق أولا، تعترف
بالمنطلقات و تتجه نحو تحقيق الأهداف و هو الأمر الذي يبرر التعدد الحاصل في برامج الفلسفة من
حيث حيازتها للعموميات و المتغيرات ، وهي الأهداف التي تحدد في شكلها العام و الخاص المشروع
.( التربوي الاجتماعي في أبعاده المختلفة ( 1
لقد مر الدرس الفلسفي في الجزائر مثلا بمراحل متعددة ارتبطت في عمومها بتحقيق الأهداف المرجوة
، والحال أننا نرى الدرس الفلسفي من وجهتين أساسيتين في إحالته للعملية البيداغوجية كفاعلية تعليمية
تهدف أساسا لإيصال مواد مبرمجة و في إشارته أيضا للفاعلية الفلسفية التي تحتوي النشاط
البيداغوجي و هو الأمر الذي يمكن إدراكه من خلال الحراك الفلسفي في شكله العام.
و الحال أن الرغبة في هذا التحليل متوجهة أساسا لمعرفة هذه البنى التي تشكل مسدات أمام الفاعلية
الفلسفية بغرض إبرازها عن طريق البحث في أسبابها ، مظاهرها و سبل تلافيها.
إن تسليط الضوء على العوائق التي تمنع من تحقيق الانجازات لا يعد غاية في حد ذاته من منطلق
تقفي العوامل المساعدة لمختلف النهضات الناجحة و التي ركزت على تعليم الفرد وفق فلسفة تعليمية
تأخذ على عاتقها ضرورة بناء الإنسان أولا.
إذن لا مشاحة أن عملية التبليغ الفلسفي ترتبط على الدوام بتذليل جملة العوائق و الصعوبات التي تجعل
من عملية الإيصال بالغة التعقيد بالنظر إلى المعادلة العسيرة التي تنوجد بدورها كعائق كثيرا ما تغيب
عنها التوازن نقصد بذلك معادلة أستاذ الفلسفة بمقابل فلسفة الأستاذ.
ومن ثمة فلا بد من الإشارة إلى العائق الأول المرتبط بالكفاءة الاتصالية حيث تحضر اللغة بثقلها حين
لا يمكن فصل التفكير الفلسفي عن اللغة الفلسفية إذ لا مجال للحديث عن تفلسف بعيدا عن اللغة ،
.( فالإنسان إذا لم يفكر بلغة فهو لا يفكر على الإطلاق ( 2
فاللغة ليست أمرا معطى قبلي النشأة بل إن التوجه الفلسفي يقتضي ضرورة عقد العزم على التجديد و
التجدد كلما دعت الضرورة في ذلك، لذلك يقال أن أستاذ الفلسفة إلى جوار طالبها لابد أن يحوز
الكفاءات ليكون كالأديب اللامع و الرياضي البارع.
بيد أن التبليغ يحتاج إلى كفاءة معرفية تتزيا بلبوس لغوي يشكل مظهرها في إطار من التجدد يجمع
الصرامة إلى جوار الشاعرية باستعمال لغة فلسفية لا تلتزم بخاصية وحيدة للتبليغ مخافة السقوط في
التهويم و الرتابة .
وتبرز الكفاءة الاتصالية في القدرة على تبليغ المعنى بطرق مختلفة بالتركيز على منطق التفاعل بين
طرفي المعادلة ، ليبرز عنصر التقييم كخاصية أساسية تقف عند حدود المثالب بغرض تصحيحها
تعديلها أو تجاوزها.
وذلك لتعرض الفلسفة لجملة من الانعطافات و التحولات التي تقتضي التفاعل معها بغرض
الإطلاع على مضامين المدونة الفلسفية في بعديها المحلي و العالمي ، الأمر الذي يفرض على الباحث
في الفلسفة أن يحوز القدرة على الإطلاع بلغات مختلفة عن طريق السعي الحثيث و
المتواصل لتجاوز اللغة الواحدة .
فالنصوص المترجمة على أهميتها من منطلق الجهد المعرفي لأصحابها ، إلا أنها لا تف بالغرض
حينما يتعلق الأمر بقراءة النصوص من مصادرها الأصلية الموضوع الذي يبرزه الاختلاف الممكن
حدوثه بين الترجمات المختلفة للنصوص الواحدة بل أن الافتراق يصل حتى إلى قراءة النص باللغة
.( الواحدة حينما يتعلق الأمر بشرحه و التعليق عليه ( 3
و بالتالي فان البعد التواصلي هو الذي يعطي للغة فرادتها ( 4) الأمر الذي يفرض تقفي البعد التواصلي
للغة في عمومياته خصوصياته و متغيراته المرتبطة أساسا بالسياق السوسيوثقافي و الذي يجعل من
تعدد دلالات اللفظ الواحد عبر العصور مجالا ممكنا .
لذلك تتجه اللغة الفلسفية نحو النمط الاستدلالي الحجاجي بواسطة لغة فلسفية توائم بين البلاغة و المعنى
في إطار تهيئة المتلقي لاستقبال الدرس الفلسفي عن طريق لغة فلسفية تحوز إضافة إلى بعدها الفلسفي
المتانة اللغوية و تحقيق متعة المعرفة وذلك بتعزيز مكاسب العقل النقدي بتوطين تجربة المعاناة
الفلسفية بغرض الوصول إلى المعرفة.
بيد أن الاهتمام و الولع بالتشدق اللغوي يفقد المتكلم خاصية التقدير السليم للمعرفة بالشكل الذي يفرغ
المفردات من معانيها ليستحيل التفكير إلى حدية تنوس بين التهويل و التهوين.
و هو الغرض الذي اتجهت نحوه فلسفات الفعل في بعدها اللغوي و التي سعت إلى الخروج عبر
المعطى الأسلوبي الذي يرى في الانجاز اللغوي الضامن الأوحد للمتانة الفلسفية للنص بعيدا عن بعده
الواقعي و الاجتماعي.
لذلك فمن الواجب أن يتجه أستاذ الفلسفة إلى تحبيب اللغة الفلسفية لطلبته مع مطالبتهم باستعمالها أثناء
التفكير و التعبير عن طريق السعي لتوضيح الفكرة لغويا الأمر الذي سيساهم بإخراج الفلسفة من
ضغوطها الرمزية و التي جعلتها رديفة للتجديف و التهويم.
فالدرس الفلسفي في أبعاده المختلفة يشكل المجال الأنسب لتصويب الأداء اللغوي الذي لن تكون له أي
فاعلية إن هو لم يجمع المعنى إلى جوار البلاغة.
طبيعة اللغة في الدرس الفلسفي:
إذا كان لكل شيء هوية وخاصية جوهرية تميزه عن غيره، فإن للدرس الفلسفي هويته وخاصيته
الجوهرية المتمثلة في اللغة،فبهذه الأخيرة يعرف الدرس الفلسفي عن الدرس العلمي مثلا.فالدرس
الفلسفي يكشف عن مفاجآت اللغوي وتشعب منعطفاته. و هو قائم على معنى المفاهيم، فما لم يدرك
الطالب معنى ودلالات المفاهيم فإن دافعية التلقي والاستيعاب تتضاءل، ناهيك عن قدرته على التعلم
الذاتي أو الإبداع. من هنا يبرز دور الأستاذ في تحديد مفاهيم الدرس الفلسفي بشكل يجلي الغموض
ويزيل الالتباس. لكن هذه المهمة المنوطة بالأستاذ تعترضها عقبات كأداء وعوائق جمة بعضها نابعة
من طبيعة الدرس الفلسفي والبعض الآخر يفرضه المفهوم الفلسفي بحد ذاته ومن
تاريخانيته (كرونولوجيته).
و الواقع أن للغة في الدرس الفلسفي ميزة خاصة تختلف عنها في الحقول المعرفية الأخرى، ولا نجدها
لا في الدرس العلمي ولا حتى في الدرس الأدبي بشقيه النثري والشعري. فإذا كانت اللغة في الدرس
العلمي تنحو نحو الدقة ومرتبطة بالواقع العملي، وإذا كانت اللغة في الدرس الأدبي مشحونة
بالعواطف ومعبرة عما يختلج في الصدور، أي أنها تحول خلجات الصدر إلى صرخات، فإن اللغة في
.( الدرس الفلسفي مرتبطة بالعقل والفكر"لأن الفلسفة كما يقال وليدة العقل والخيال"( 5
ولا يمكن أن نفهم طبيعة الدرس الفلسفي، إلا إذا عملنا على توضيح طبيعة العمل الفلسفي الذي يهدف
الدرس الفلسفي إلى توضيحه وتجلية مفاهيمه، ومن بين خصائص العمل الفلسفي أن الغرض منه هو
البحث عن الحقيقة والعمل على الاهتداء إلى المعرفة. كما أن العمل الفلسفي(المذهب الفلسفي مثلا)
عندما يظهر إلى الوجود فإنه يّتجه أولا وقبل كل شيء نحو القضاء على ما عداه من مذاهب، مثله
كمثل سلطان مستبد لا يكاد يتولى الحكم حتي يقضي على خصومه، ولعل هذا ما عناه الفيلسوف
الألماني المشهور شوبنهور حينما قال:"إن الإنتاج الشعري لا يتطلب منا سوى أن نندمج مع صاحبه
لكي نتذوق فّنه ونتجاوب معه (ولو إلى حين) بينما يرمي الإنتاج الفلسفي إلى قلب أسلوبنا في التفكير
رأسا على عقب، وكأنما هو يتطلب منا أن نعد شتى الفلسفات التي وجدت من قبله مجرد أكاذيب
وأوهام، لكي نبدأ من جديد معه محاولين أن نستكشف الوجود في ضوء ما يقدم لنا من معارف جديدة"،
ويستطرد شوبنهور في تمييزه بين الشاعر والفيلسوف، فالشعر عنده " أشبه ما يكون بالرجل الذي يقدم
لنا مجموعة من الأزهار، في حين أن الفيلسوف أشبه ما يكون بالرجل الذي يضع بين أيدينا خلاصة
رحيق تلك الأزهار"( 6)، أي أنه يعرض علينا أفكارا مكتملة واضحة المعالم وبلغة محددة المفاهيم.
ولقد ازداد العمل الفلسفي في الفلسفة المعاصرة غموضا خاصة مع اعتماد الفلاسفة اللغة الشعرية،
حيث لم يجد وايتهيد أي حرج في أن يهيب بخبرات الشعراء من أمثال شلي أو وردزورث من أجل
تكملة ما في الخبرة العلمية من نقص، ولم يتردد هيدجر أن يشغل نفسه بدارسة شعر هيلدرلن من أجل
الكشف عما ينطوي عليه من دلالة ميتافيزيقية،ولم يشأ ميرلوبونتي أن يكتم عّنا تأثيره
فراح يتأمل تجربته الفنية لكي يزيح لنا النقاب عن سرها الفلسفي. Cézanne بسيزان
وبناء على الخصائص الآنفة الذكر تتوضح لدينا صعوبة الدرس الفلسفي، إن لم نقل مشكلة الدرس
الفلسفي القائم بالدرجة الأولى على اللغة. حيث تتمظهر من خلالها الآراء الفلسفية وعن طريقها نميط
اللثام عن معنى المفاهيم وبواسطتها نغوص في عمق المذهب الفلسفي، و بالتالي تتحول اللغة في
الدرس الفلسفي إلى مفتاح به نفتح مغاليق الفكر الفلسفي.
عوائق الدرس الفلسفي:
وحتى لا نقع في اللبس الذي وقع فيه ذات يوم أحد المتحاورين، حيث قال الأول:"لماذا تقول ما لا
يفهم؟" فرد عليه الثاني:"ولماذا لا تفهم ما يَقال؟"، قلنا حتى لا نقع في هذا اللبس خاصة بين الأستاذ
والطالب، كان لزاما علينا أن نحدد ونعدد عوائق الدرس الفلسفي، وبالخصوص العائق اللغوي و
المفاهيمي، لأن ما ينّفر التلميذ الثانوي وحتى الطالب الجامعي من مادة الفلسفة ونحن هنا نتحدث من
منطلق تجربة تعليمية متواضعة مدتها عشر سنوات في التعليم الثانوي هو الطاقم المفاهيمي لهذه
المادة حيث يلتقي التلميذ الثانوي في السنة الثانية فلسفة بمفاهيم لا قبل له بها، و إذا لم يحرص الأستاذ
منذ البداية على العمل على تبسيط هذه المفاهيم فإن التلميذ قد يعتريه السأم والملل وربما الهجر التام
لهذه المادة الحيوية، وبالتالي يفقد الأمل في تحصيلها وهذا الملل يلازمه حتى في اختيار التخصص
الذي يدرسه في الجامعة إذا هو نجح في شهادة البكالوريا فتراه يتفادى التسجيل في قسم الفلسفة وهو
في نظرنا عائد إلى بداياته مع الدرس الفلسفي بلغته الغامضة والمبهمة.
ومن بين العوائق التي رأينا أنها تحد من درجة استيعاب وفهم مادة الفلسفة سواء في المرحلة الثانوية
أو في الجامعة عديدة ومتنوعة منها:
- لا بد أولا من التطرق إلى إشكالية مفهوم الفلسفة لأننا نعتقد أن عائق اللغة في الدرس الفلسفي
يعود بجذوره الأولى لهذه المشكلة، فإذا صعب تعريف الفلسفة الحاضنة للمفاهيم اللغوية يصعب
تحديد الدلالات الدقيقة لمفاهيمها ومفرداتها. نقول مفهوم الفلسفة في حد ذاته يعتبر عائقا، من
زاوية ملازمتها للمعنى السلبي "بحيث أنها لم تقدم نفسها في صورة علم يقيني موثوق به، بل
أكدت بوضوح أن شكل من أشكال التواضع الذي يعرف قدر نفسه"( 7). فإذا تساءلنا ما هي
الفلسفة في حقيقة الأمر؟ ومما يؤسف له أن هذا السؤال يعد من أصعب الأسئلة الفلسفية، بدليل
اختلاف الفلاسفة فيما بينهم على تحديد تعريف واحد للفلسفة، فكل فيلسوف منهم يدلي بتعريف
خاص يتفق مع موقفه ومذهبه " فالاختلاف طابع أصيل في الفكر الفلسفي"( 8). بحيث نجد أن
كل فيلسوف يختلف عن ما عداه من فلاسفة في موقفه من الله و العالم والإنسان وغيرها،
اختلافات أساسية وجوهرية. وما يهمنا نحن من هذه الإشكالية أن لها نتائج سلبية تنعكس على
موضوعنا المتمثل في عائق اللغة في الدرس الفلسفي.فإذا لم يكن بمقدورنا إيجاد تعريف دقيق
وموحد للفلسفة فهل في ميسورنا إيجاد تعريف دقيق للمفاهيم التي تستعملها في توضيح
مواقفها؟ . وما نريد الوصول إليه من وراء هو أن الفلسفة التي من مهمتها التعريف و التحديد
يصعب هي نفسها تعريفها. ويمكن أن نقول أن صعوبة تعريف الفلسفة ترجع إلى عاملين
أساسين: أما العامل الأول فهو أن كلمة "الفلسفة" يختلف معناها باختلاف المذاهب الفلسفية
المتباينة ومن هنا فإن التعريف الذي يقدمه المذهب التجريبي للفلسفة يرفضه المذهب المثالي،
والتعريف الذي يقول به الفيلسوف الهيجيلي يرفضه الفيلسوف البرغماتي " فلو أدخلنا في
تعريفنا للفلسفة عبارة مثل" محاولة الوصول إلى المطلق" لوجدنا أنها قد تروق لبعض الفلاسفة
و بخاصة المدرسة الهيجيلية، لكنا سنجد مدرسة فلسفية أخرى فالوضعية تنكر وجود مثل هذا
.( المطلق"( 9
أما العامل الثاني الذي يجعل تعرف الفلسفة أمرا شاقا فهو أن لفظ الفلسفة يختلف أيضا باختلاف
العصور التاريخية، فالتعريف الذي كان سائدا، على سبيل المثال، في العصر اليوناني قد تغير في
العصر الوسيط وكذا في العصور الحديثة كما عرفت الفلسفة المعاصرة تعريفات مغايرة للفلسفة.
نعود ونقول أن ما من شك في أن هذا الالتباس في تحديد تعريف دقيق للفلسفة ينعكس على المفاهيم
التي يستخدمها الفلاسفة في توضيح مواقفهم الفلسفية، وهذا يشكل عائقا، كما قلنا، أمام الدرس
الفلسفي، فإذا تساءلنا حول مفاهيم أساسية في الفكر الفلسفي كمفهوم الحقيقة، العقل،السعادة،الوجود
والمطلق وغيرها هل نجد لها تعريفات دقيقة؟ لا نعتقد ذلك وهذا يعمق من صعوبة استيعاب الدرس
الفلسفي مقارنة بالدرس العلمي الذي يعتمد على مفاهيم دقيقة، إنك لو تساءلت مثلا: ما هو علم
الفلك؟ لكان من اليسير أن نجيب هو العلم الذي يدرس الأجرام السماوية بقصد الوقوف على
القوانين التي تتحكم فيها. وإذا تساءلت ما هو علم الجيولوجيا؟ لكانت الإجابة هو العلم الذي يريد
الوصول إلى معرفة الصخور والقشرة الأرضية وطبقاتها، وقل مثل ذلك في غيرها من العلوم،
لكنك لو تساءلت ما السعادة؟،ما الحق؟،ما العدالة؟ لكانت الإجابة صعبة عسيرة وبقدر ما تكون هذه
الأخيرة عسيرة أي هذه المفاهيم لا يبلغ الدرس الفلسفي مبتغاه ولا يحقق أهدافه المرجوة.
- كذلك من بين العوائق التي تفرض نفسها على الدرس الفلسفي هي المصاعب الجمة التي
يصادفها المشتغل في حقل الترجمة الفلسفية، فتتحول إذا الترجمة إلى عائق في حد ذاتها وهذا
ما نجده من اختلاف بين المترجمين في كيفية الترجمة " ففئة أولى تكتفي بوضع مقابل عربي
لّلفظ الأجنبي أو مقابل أجنبي لّلفظ العربي، مستعينة في ذلك، وبنسب متفاوتة، بوسائل الاشتقاق
والنحت و التركيب والتقريب، ومن غير اهتمام يذكر بتحديد المدلول الفلسفي لهذه الألفاظ، مما
يجعلها مصطلحات جامدة قليلة الأثر وضعيفة الإقناع.وفئة ثانية تسترسل في الشرح والتفسير
فتجعل في كل مادة مقالا مطولا يضيع فيه التحديد الدقيق و يلتبس الأمر أحيانا بين مدلول
اللفظ الأجنبي المقابل، فضلا عن أن هذا الاسترسال يجعل المؤّلف يّتخذ موقفا فلسفيا معينا من
المسائل المطروحة، فيبتعد عن روح الحياد والموضوعية التي تقتضيها مثل هذه
الأعمال"( 10 ).إذن نستنتج من هذا النص أن للمفهوم الفلسفي العديد من المعاني ومن هنا لا
نعجب إذا ذهبت وجهات النظر في شأن أي مفهوم مذاهب شتى شأنه في ذلك شأن أي
موضوع فلسفي. وأكثر من يكتوي بنار هذه العوائق في الترجمة ويشعر بعبئها وثقلها هو
الأستاذ، لأنه في الكثير من الحالات يتيه في مدلولات المفهوم ولا يتلقى من المتلقي(التلميذ أو
الطالب) أي إشارة توحي بأنه استوعب هذه المفاهيم وتمكن من مغزى الدرس الفلسفي.
- وهناك عائق آخر مرتبط بعائق الترجمة، وهو عائق
في خطاباتهم الفلسفية وأبرز la métamorphose يكمن في لجوء الفلاسفة إلى الاستعارة
دليل على ذلك الفيلسوف الألماني نيتشه الذي تفلسف بأسلوب استعاري حيث يقول:" إن
الفيلسوف لا يبحث عن الحقيقة ولكن يبحث عن استعارة العالم في الأشخاص"( 11 ). ففي الوقت
الذي كان فيه نيتشه يعتقد أن التعبير بواسطة الاستعارات هو الأسلوب الأكثر بساطة و الأكثر
ملاءمة كان في الوقت ذاته يلف كتاباته وأعماله الفلسفية بالغموض. و كذلك يلجأ بعض
الفلاسفة إلى الطريقة الرمزية للتعبير عن مواقفهم كابن طفيل الذي يصطنع الصياغات الرمزية
للتعبير عن أسمى المعاني الميتافيزيقية وهذا ما تجلى في مؤلفه "حي بن يقظان".وهنا سواء في
الاستعارة أو في الصياغة الرمزية يتشكل جدار سميك بين الأستاذ والتلميذ في الدرس الفلسفي.
- هناك أيضا عوائق أخرى تعترض الدرس الفلسفي و تحول دون بلوغ مراميه السامية وهذه
العوائق من قبيل تقارب المفاهيم الفلسفية وتداخلها لدرجة يصعب الفصل بينها من مثل
الوعي(فرويد) والشعور(ديكارت و هوسرل) مثلا، أو الترنسنتالية (كانط) والتسامي(فرويد)
والتقدم (كوندورسيه) أو الروح والعقل عند هيجل، ومصطلحات مثل الدحض والتفنيد والنقد.
وفي نفس هذا السياق وحتى لا نبتعد عن مشكل المفهوم الفلسفي، هناك صعوبة حوله أي
المفهوم تكمن في عدم استقرار أي مفهوم فلسفي على مدلول واحد طوال العصور وتاريخ
الفلسفة حافل بمفاهيم تتغير بتغير الأزمنة كمفهوم العقل. يضاف إليها أيضا أن لكل فيلسوف
تقريبا معجمه الفلسفي فهو من جهة قد ينحت مفاهيم جديدة لم يسبقه إليها أحد ويأخذ عليها
براءة اختراع وتنسب إليه كالقصدية عند هوسرل، أو يعطي لبعض المفاهيم المتداولة مدلولات
جديدة خاصة به تنسجم مع نسقه الفلسفي، وهذا ما يشكل في النهاية عائقا حقيقيا ملموسا داخل
حجرات الدرس الفلسفي حيث نكون هنا ملزمين بالإحاطة بدلالات المفهوم العامة والخاصة.
- إن الدرس الفلسفي يستعين باللغة وهي بمثابة الرمز المستخدم في درس الرياضيات أو درس
الفيزياء، وإذا كان المدرس في الدرسين الأخيرين الرياضيات والفيزياء يعتمد على لغة
الأرقام والخطوط وأن المتلقي يدرس ما تشير إليه تلك الأرقام و الرموز والصيغ البيانية
والخطوط والجداول الإحصائية، فإن المدرس في الدرس الفلسفي يختلف عن المدرس في
العلوم الدقيقة ،السابقة الذكر، في كونه يستعمل الرموز ليتحدث عن رموز أخرى، فحينما
يتصدى المدرس لدراسة لغة فيلسوف ما أو عمل فلسفي ما، فليس له إلى ذلك من سبيل سوى
استعمال رموز أخرى هي التعابير اللغوية، وبعبارة أخرى، فهو يستخدم اللغة في حديثه عن
اللغة " وكأّني به إذ يفعل ذلك يستعمل المجهر لدراسة المجهر"( 12 ) ، وهذا ما يحد من درجة
فهم رسالة الدرس الفلسفي.
الحلول المقترحة لتجاوز هذه العوائق:
بعد عرضنا للعقبات التي تعترض سير الدرس الفلسفي ذي الطبيعة المختلفة، كما أوضحنا ذلك، وبعد
تشخيصنا لجزء منها ، وإيمانا مّنا بأن كل هذه العوائق ليست قدرا محتوما ولا يجب أن تستبد بعزيمة
المشتغل في الدرس الفلسفي أو توهن من إقدامه وصبره، حاولنا عرض بعض الحلول التي نراها
بمقدورها أن تحد- حتى لا نقول تقضي تماما على الغموض لأن هذا ضرب من المستحيل - من
عملية استيعاب الدرس الفلسفي وتزيل عنه ولو قليلا غشاوة الغموض التي تلفه ومن بين هذه الحلول
التي نقترحها ما يلي:
- أول هذه الحلول وأعلاها مكانة وأسماها منزلة هي تلك المحاولة الجبارة التي قام بها مفكر
جزائري وعيا منه بالعقبات التي ذكرناها آنفا وغيرها ، وأعني بذلك الدكتور محمود يعقوبي
الذي وضع منذ سبعينيات القرن الماضي برنامجا متكاملا للدرس الفلسفي يبعده عن سمة
الصعوبة التي لازمته طويلا، وأقصد بالبرنامج المتكامل هو وضع كتاب للدروس وآخر للمقالة
الفلسفية وثالث عبارة عن معجم فلسفي.
فكتاب الدروس عنونه ب "الوجيز في الفلسفة للمترشحين لشهادة البكالوريا" فحتى لفظ "الوجيز"
في رأيي لم يأت اعتباطا وإنما منتقى بدقة فكان كالطبيب الحاذق الذي يصف العلاج الفعال بعد
تشخيصه للمرض، فكلمة"وجيز" تشيع الراحة النفسية في الطلاب ونحن كنا من بين هؤلاء
الطلاب فتجعلهم يقبلون على مضمون هذا الكتاب ومحتواه بنهم كبير وشغف لا يوصف، بحيث
يشعرون وكأنهم لا يدرسون هذه المادة لأول مرة والتي تناهى إلى سمعهم عنها كلام يثبط العزائم
قبل بلوغهم السنة النهائية. والكتاب الثاني متعلق بالمقال الفلسفي وضعه تحت عنوان " المدخل إلى
المقالة الفلسفية" حيث يعتبره " بمثابة مرشد يلفت نظر التلميذ إلى ما ينبغي أن تكون عليه هذه
المقالة"( 13 )، وفي القسم الأول من هذا الكتاب توجيهات نظرية متمثلة في المعيار اللغوي والمنطقي
وفي القسم الثاني ينتقل إلى التوجيهات العملية ويقترح حلولا نموذجية لبعض المقالات الفلسفية.
وفي هذا الانتقال بالدرس الفلسفي من طابعه النظري إلى طابعه العملي يستطيع التلميذ أن يتجاوز
العائق اللغوي المفاهيمي من خلال اكتساب القدرة على حسن توظيف المفاهيم التي تلقاها أثناء
الدرس،حيث يؤكد الدكتور يعقوبي على جملة من الإرشادات التي تأخذ بيد الطالب إلى الفهم
الصحيح أولا للمفهوم وثانيا إلى كيفية استعماله حيث يقول في هذا الصدد: " ينبغي على التلميذ أن
يتجنب استعمال الألفاظ المشتركة في كتابته قدر الإمكان، و أن يتنبه عند قراءة النصوص إلى
احتمال ورود هذه الألفاظ المشتركة عساه يورد القرينة التي ترفع اللبس عند الكتابة، أو يبحث عنها
في ثنايا النص لكي يهتدي أثناء القراءة إلى المعنى المقصود"( 14 )، وهذه الإرشادات كلها حلول
عملية فعالة ساهمت في خلق جيل كامل من المفكرين وبعضهم الآن يزاول التدريس بالجامعة.
وتكملة لبرنامجه الفلسفي و حتي يجلي الغموض واللبس عن الدرس الفلسفي و يحقق مراده أكثر أّلف
الدكتور كتابه الثالث المتمثل في "معجم فلسفي لأهم المصطلحات وأشهر الأعلام" وكانت غاية هذا
المؤلف واضحة منذ البداية حيث يقول في مقدمة الطبعة الأولى:"لقد قصدت بوضع هذا المعجم وضع
أداة يستعين بها المبتدئ لدراسة الفلسفة على فهم المصطلحات الأساسية التي يستعملها الفلاسفة عندما
يقرأ كتبهم وعلى تبليغ غيره ما يريد أن يفهم من كلامه عند مخاطبته، لأن أسباب الخطأ في الفهم تكاد
.( تنحصر في استعمال اللغة استعمالا لا يتفق عليه المتكلم والمخاطب"( 15
و الواقع أن هذه المحاولة تستحق التنويه و الثناء ويجب أن تستكمل بمجهودات جديدة حتى نحافظ على
ثمارها. خصوصا و أن الحلول الأكثر فعالية ترتبط بوضع المعاجم الفلسفية لأن مشكلة الدرس الفلسفي
بالأساس هي مشكلة المفهوم وتبرز فيها أشهر مدلولات المصطلح وأكثرها استعمالا، مع وضع أسس
واضحة لاستعمال المصطلحات الفلسفية من خلال رؤية محددة لهدف فلسفي واضح، هو التأليف
الفلسفي المّتصف بالشمول والتنوع القريب خاصة من الثقافة الفكرية العامة حتى لا يتيه الطالب في
الخصوصيات والتفاصيل.
كما يجب توفير المعاجم الفلسفية سواء في الثانويات أو المكتبات الجامعية، نظرا لضرورتها الكبيرة في
فهم المفاهيم تحليلها و شرحها و هو النقص الذي يتجلى في البحوث التي يقدمها الطلبة في مقاييس
التطبيق وهذا ما ينعكس بالسلب على البحث المقدم.
- ومن بين الحلول التي نرى أنها تسهل عملية التلقي في الدرس الفلسفي هي عدم تكثيف محتويات
الدرس الفلسفي، كما هو حاصل الآن في البرنامج الجديد لمادة الفلسفة في التعليم الثانوي، حيث يجد
الأستاذ نفسه مثلا، في قسم السنة الثانية آداب وفلسفة، مجبرا على تقديم مراحل الفلسفة و القضايا التي
عالجتها في حجم ساعي لا يتناسب مع هذه المراحل وما تزخر به من أفكار ومفاهيم، بحث يجب أن
نعطي لمحتويات الدرس الفلسفي حّقه الزمني بما يتلاءم والمشكلات التي يعالجها وبهذه الكيفية يمكن
في رأينا أن يحقق الدرس الفلسفي أهدافه.
- و إذا كانت الفلسفة المعاصرة بقضايا اللغة " و هذا ما حاولت الفلسفة الظاهراتية في صورها
المبكرة داخل الفلسفة النمساوية بفحص الوشائج القوية بين مبحث الدلالة والمباحث الفلسفية
والسيكولوجية"( 16 )، فهذا يدفعنا إلى ضرورة ربط الدرس الفلسفي بفروع الألسنية المستحدثة كعلم
الأصوات(ألفونيتيكا) وعلم وظائف الأصوات(ألفونولوجيا) و السيميولوجيا( علم السيمياء) و
الهرمينوطيقا وغيرها .
خاتمة:
الدرس الفلسفي اشتغال لغوي بالأساس إذ لا حياة للأفكار دون كلمات على رأي علي حرب، لتكون
الدعوة جادة في وجوب التفكير في اللغة الفلسفية التي نوصل بها القول الفلسفي .
و طالما أن التجربة الفلسفية بحاجة ماسة إلى لغة تقولها و إذا كانت ابتكارا فهي بحاجة أيضا إلى
ابتكار لغوي يحاول المزاوجة بين اللغة و المعنى أو بين برانية العبارة و جوانية المقصد.
إن التركيز على غاية إيصال الطالب للتمكن و التفرد من البناء الحجاجي و الصياغة المفهومية رهين
بالقدرة على التكوين في اللغة نفسها إذ يشترط أولا على اللغة الفلسفية أن تكون قادرة على ممارسة
الفهم و الإفهام وكدا إمكانية الجمع و التأليف بين عناصر متنوعة تنوس بين التآلف و التناقض.
وهو الأمر الذي سيصعب على اللغة أن تعرقل الفكر طالما أننا لا يمكن أن نتحدث عن فكر دون لغة
تمده بالكينونة و مبررات الوجود...
رابط تحميل هو http://www.umc.edu.dz/vf/images/philoalgerie/Communicationsphilo/comm%20khlifi.pdf
إحالات
1) - طه حسين جميل، الفكر التربوي المعاصر و جذوره الفلسفية: مقارنة تحليلية نقدية، دار )
. 2007 ، ص 29 ، المسيرة ،عمان، ط 1
(2)- Jacqueline et Guy Fernandez, Français et Philosophie : deux
disciplines bien distinctes, In, Cahiers Pédagogique :Français ,
Philosophie, Edition Passage Robin , Nantes ,France
,N329,Décembre,1994,P08.
3) – خليفي بشير، الفلسفة و قضايا اللغة، الدار العربية للعلوم ناشرون و منشورات الاختلاف ، )
. 2010 ، ص 20 ، بيروت و الجزائر، ط 1
(4) Lalande André , Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, P.U.F,
16 édition, 1988.P554
. 5) إبراهيم زكريا ، مشكلات الفلسفة ، مكتبة مصر ،د.ت ، ص 120 )
(6) Schopenhauer Arthur , Philosophe et Science de la Nature ,
Trad. franc .A. dictrich. Paris. ALCON 1911.P132.
(7) Ibid , p 135.
. 8) مكاوي عبد الغفار ، لم الفلسفة، منشأة العارف الإسكندرية 1981 ، ص 33 )
. 9) علي عبد المعطي محمد، المدخل إلى الفلسفة، دار العارف الجامعية الإسكندرية، ص 27 )
. 10 ) إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى الفلسفة، دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة 1990 ، ص 22 )
11 ) الحلو عبده ، معجم المصطلحات الفلسفية(عربي -فرنسي)، المركز التربوي للبحوث)
.IX 1994 ، ص والإنماء،مكتبة لبنان ط 1
(12) Nietzsche Friedrich, Le Livre du Philosophe, trd Angél Kremer-
Marietti, Sigma édition ,P 97.
13 ) بن عيسى حنفي ، محاضرات في علم النفس اللغوي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر ، )
. ط 1،1993 ص 09
. 1976 ، ص 03 ، 14 ) يعقوبي محمود ، المدخل إلى المقالة الفلسفية، مكتبة الشركة الجزائرية ط 1 )
. 15 ) المرجع السابق نفسه، ص 11 )
16 ) يعقوبي محمود ، المعجم الفلسفي أهم المصطلحات وأشهر الأعلام، الميزان)
للنشر والتوزيع، ص أ .
17 ) عز العرب لحكيم بناني، الظاهراتية وفلسفة اللغة، أفريقيا الشرق بيروت و الدار البيضاء،)
. 2003 ، ص 05__
المصدر الاصلي: http://www.umc.edu.dz/vf/images/philoalgerie/Communicationsphilo/comm%20khlifi.pdf