أعني بالتواكل الفكري نوعا من الكسل العقلي مقترنا بنهج تسويغي يرمي إلى
إراحة النفس من التعامل مع مشكلة ما. ومن مظاهر التواكل الفكري:
1- الاستسلام للتفكير التآمري
ما أسهل على العربي أن يحل جميع مشاكل العالم، وهو يحتسي فنجانا من قهوة، وربما
قبل أن يرتد إليه طرفه، فبلحظة من الإلهام الذي لا يكاد يخطئ يستطيع كثير من الناس أن
يتجاوز النظر إلى ظواهر الأمور ويتعمق في نيات الناس، وفي غياهب الغيبيات ليدرك بثقة
كاملة أن المسألة قيد الدراسة أو النقاش لا تعدو أن تكون (أو ناشئة عن) محض مؤامرة يقوم
ﺑﻬا أعداء الأمة أو الجن أو قوة أخرى خفية لا نعرفها (كالماسونية ونحوها)، ولا يمكن أن
تكون ناشئة عن أخطائنا أو تقصيرنا أو سوء سلوكنا. ولا يقتصر هذا التفكير التآمري على
القضايا السياسية والاجتماعية العامة بل تشمل أيضا مشاكل العمل والأسرة والعلاقة
بالآخرين إجمالا. إن المصاب ﺑﻬذا النوع من التفكير ليشبه طبيبا يعزو جميع الأعراض التي
يشكو منها مرضاه إلى قوى شريرة تتحكم في أجسادهم، وهو بذلك يريح نفسه من عناء
استخدام السماعة، وقياس الحرارة والضغط والسكر، والتفكير في الاحتمالات الطبية
الممكنة للمرض.
وينبغي ألا يفهم أننا ننفي وقوع التآمر على المستوى الاجتماعي أو السياسي
والدولي، فالتاريخ والتجارب تشهد بوقوع ذلك، ولكن الخطر كل الخطر أن نحاول
استخدام التفكير التآمري في حل أي مشكلة أو تشخيصها، فهو وسيلة ﺗﻬرب تسويغية،
وليس أداة لحل أي مشكلة. إن ديننا الحنيف يدعونا إلى ربط المسببات بأسباﺑﻬا، وإلى التأمل
في الظواهر الكونية والإنسانية واكتشاف قوانينها. وهو بذلك ينهانا عما كان سائدا من
اعتقادات خرافية تربط الوقائع والأحداث بأمور خفية، كما هو مشهور في قصة خسوف
القمر عند موت إبراهيم ابن الرسول– صلى الله عليه وسلم- حيث ﻧﻬينا عن الربط بين
الحدثين. ونظرا إلى أن التفكير التآمري لا يستند عادة إلى منطق أو برهان أو ربط بين أمور
يمكن التدليل عليها فهو يشبه إلى حد كبير تلك الاعتقادات الخرافية التي كان يقول ﺑﻬا
البدائيون من الأمم.
والتفكير التآمري دليل على الروح الاﻧﻬزامية، وعدم الثقة في النفس، وضعف
الإرادة، وفتور العزم، ومن مخاطر هذه الاﻧﻬزامية النفسية أﻧﻬا تقضي على معنويات الأمة،
وﺗﻬيئها للاستلام للمستعمر، يقول شكيب أرسلان: "وهكذا أصبح المسلمون في الأعصر
الأخيرة يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلا سينتهي بمصرع المسلم ولو طال
كفاحه". 49 وقد شجع هذا الموقف الاﻧﻬزامي الاستسلامي بالفعل الاستعمار على المضي في
التخطيط لتحقيق مصالحة في العالمين العربية والإسلامي خلال القرنين الماضيين، وليس لنا من
سبيل إلى التخلص منه إلا باستعادة ثقتنا في أنفسنا من خلال التفكير العلمي، والوعي
بالذات متمسكين في ذلك بثوابت الأمة، مع الحرص على القضاء على ما يسميه مالك بن
نبي بالقابلية للاستعمار، وخدمته، ٥٠ وقد نقل عن بعض المصلحين قوله: "أخرجوا المستعمر
من أنفسكم يخرج من أرضكم". ٥١
2- إيقاع اللوم على الآخرين:
فالخطأ والتقصير دائما منسوبان إلى الآخرين حتى انعكس ذلك في طريقتنا في التعبير
I missed " : اللغوي، فبينما يقول الطالب الإنجليزي عند تأخره عن حضور الدرس مثلا
ناسبا الخطأ إليه يقول الطالب العربي: "لقد فاتني الباص" ناسبا الخلل إلى الباص. "the bus
ولعل من أشهر التبريرات التي نتعلل ﺑﻬا الاحتجاج بالقضاء القدر، وهو أمر شائع إلى الحد
الذي يوفر علينا مؤونة الإشارة إليها، مع أن القرآن الكريم يعلمنا أن نعزو الأخطاء إلى
أنفسنا، ونعترف بذنوبنا، قال تعالى : "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم "
(الشورى: ٣٠ )، ويقول أيضا : "أوّلما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو
.( من عند أنفسكم" (آل عمران: ١٦٥
ويفسر ماجد الكيلاني ظاهرة لوم الآخرين بعادة الاعتماد على الغير وعدم
الاستقلال، ٥٢ ويذكر أﻧﻬا مرتبطة بافتراض الكمال بصاحبه، فإذا أخطأ راح يبحث عن
"مبررات خارجية". ٥٣
3- الاستسلام للواقع وعدم التضحية
لعل من أهم أسباب تقدم الأمم قوة الإرادة، وشدة العزم، والاستعداد للتضحية
وبذل الجهد في سبيل ما يؤمنون به، وما يرون أنه يحقق لهم أهدافهم، وإذا كان الأمر كذلك
فإن مداهنة الناس، والاستسلام للواقع، والتقاعس، وعدم التضحية من أجل تغييره من أهم
أسباب تخلفهم، يقول شكيب أرسلان في خلاصة جوابه عن السؤال الذي عنون به كتابه:
لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم: "فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقي إلا
بالتضحية". 54
ولعله من الواضح أن السلوك الاجتماعي عند العرب يترع في مجمله إلى مسايرة
٦٧٨ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج ١٧ ، ع ٢٩ ، صفر ١٤٢٥ ه
الواقع وترسيخه وتكريسه، وتكاد تختفي المحاولات الجادة لتغييره، اتكالا على مبدأ أن التغيير
مكلف، فقد يكلف الإنسان فقدان عمله، أو ربما سجنه، أو حتى موته؛ ولذا فالأفضل أن
نختار السلامة بتبني موقف محايد، أو ربما بمناصرة أهل القوة وتملقهم ومداراﺗﻬم لحماية
النفس، أو للحصول على مستوى معيشي أفضل.
ومن العجيب أن نرى في الغرب كيف تدفع امرأة من جمعية الرفق بالحيوانات حياﺗﻬا
ثمنا لدعوﺗﻬا إلى توفير نقل مريح للأبقار والأغنام بدلا من نقلها بشاحنات غير مريحة، وأن
نتقاعس نحن عن حماية قيمنا وحضارتنا وأمتنا ﻟﻤﺠرد خوف متوهم أو طمع مستحكم. لقد
حاولت تلك المرأة البريطانية منع إحدى الشاحنات من التحرك بوضع نفسها تحت عجلات
شاحنة إلى أن دهست وضربت بذلك مثلا على التضحية من أجل الآخرين.
ومن المثالب الخطيرة التي تركتها سمة الاستسلام الفكري ما نراه من انقياد للغرب،
وﺗﻬاون في حماية العربية من منافساﺗﻬا الإنجليزية والفرنسية والعامية، وتقهقر ناشئ عن
الاستسلام للغالب، الذي فرض علينا لغته وفقا لقانون فساد لغة المغلوب وهيمنة لغة
الغالب، 55 علاوة على التروع إلى الصمت أمام المسؤول في الجامعة أو في غيرها حين يكون
المرء مقتنعا بخطأ المسار الذي تسير عليه المؤسسة في تعليم العربية، أو في غيرها من الأمور
المتصلة بذلك. ويذكر بعض الباحثين أن الخضوع السلبي للمسؤول (مثله في ذلك مثل
المقاومة العدوانية العلنية) عادة ما يكون استجابة شبه طفولية لسلوك سلطوي تقليدي. 56
عدم المبالاة بأهمية الأمور
لهذه الصفة مظاهر مختلفة منها عدم إتقان العمل والاكتفاء من القلادة بما أحاط
بالعنق، وعدم العناية بالتفاصيل، وغياب الدافع الذاتي للقيام بالعمل. وكثيرا ما تكون عدم
المبالاة مبعثا للضغائن والأحقاد بين الزملاء مثلما قيل في المثل "علة المعاداة قلة المبالاة"؛ 57
لأن الكسل وعدم إتقان العمل يدفع الكسول إلى الغيرة من النشط من الناس المتقن لعمله،
أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر- د. محمد محمد يونس علي ٦٧٩
والكيد له، فيترتب على ذلك ما يترتب من تقاعس وتخلف. كما أن قلة المبالاة توقع
صاحبها في الخطأ في تقديم المعلومة، وعدم الدقة في تحري الصواب، يقول صاحب الحلة
السيراء: "وعدم المبالاة بضبط الموالد والوفيات كثيرا ما يوجد الزلل". 58
غير أن أخطر ما تجتلي فيه اللامبالاة عدم تقويم الأمور وفقا لأهميتها للفرد واﻟﻤﺠتمع
على المدى البعيد، بل بقدر ما تدره من مكاسب شخصية سريعة ومؤقتة. فالطالب يركز كل
اهتمامه على الامتحانات وتغيب عنه أهمية التعلم من أجل الحياة، والموظف لا يحرص على
شيء سوى إرضاء مسؤوله، أو حصوله على الترقية، وهلم جرا. وهكذا تبقى قضية
التخلف بعيدة عن مرمى اهتماماتنا. ومن شواهد عدم مبالاة الباحثين والمثقفين بقضايا الأمة
ما ذكره طه جابر العلواني عندما أشار إلى أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي أرسل خمسة
آلاف رسالة إلى علماء الإسلاميات والاجتماعيات مع نسخة مرافقة لكل رسالة من كتاب
إسلامية المعرفة للتعليق عليه ودراسة الفكرة ثم الرد عليهم بتقديم الخطط والآراء والنظريات
فلم يجب منهم بكتابة بحث في الموضوع إلا ستة وخمسون، لم يوافق منها المواصفات المطلوبة
غير ثلاثة أبحاث. 59 والملاحظ أن هذا الموقف السلبي من أمثال هذه الدعوة ليس غريبا على
مجتمعات ما يسمى -تفاؤلا- بالدول النامية؛ إذ العزوف عن المشاركة في الأنشطة العلمية
والاجتماعية ونحوها سمة بارزة من السمات المعنوية للمجتمعات المتخلفة. 60
وقد أدرك الناس قديما أهمية المبالاة في إقامة الدولة، يروى أن أبا الحسين بن المنادى
الملقب بمنوشهر خطب في رعيته موبخا إياهم على عدم مبالاﺗﻬم، فقال: "إنما الناس ناس ما
دفعوا العدو عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد
عدوكم، وقلة المبالاة". 61
وفيما يتعلق بمجال البحث والعلم يقول ابن الأثير "ولا شك أن قلة المبالاة بالأمر،
واستشعار القدرة عليه توقع صاحبه في ما لا يشعر أنه وقع فيه فيجُهَّل بما يكون عالما به”.
5- الإبداعية وغياب التفكير الإبداعي (الإمعية)
لقد شاعت بيننا فكرة المحافظة على القديم ﻟﻤﺠرد قدمه والعزوف عن الجديد ﻟﻤﺠرد
جدته، وتوسعنا كثيرا في تعميم الحكم على كل بدعة بأﻧﻬا ضلالة بحيث شملت كل ما يتعلق
بشؤون الحياة مع أﻧﻬا وردت حصرا في العبادات التوقيفية التي يقصد ﺑﻬا الامتثال لأمر الله
ج ّ ل وعزّ. وهكذا طغت علينا صفة الآبائية، فعشقنا المألوف وقدسنا ما ألفينا عليه آباءنا في
عصور التخلف، وساد الحكم على الأشياء بمعيار الأصالة أو الجدة دون نظر إلى الأشياء في
حد ذاﺗﻬا، وغاب عنا أن الزمن ليس له صلة بالجودة أو الرداءة، ولا الجودة مرتبطة بجدة أو
بقدم، فالجودة لا ترتبط بالتاريخ (القديم أو الحديث)، ولا بالجغرافيا (الشرق أو الغرب).،
وقد أحسن شكيب أرسلان عندما ذهب إلى أن انحطاط المسلمين إما بسبب جمودهم على
القديم أو بسبب جحودهم له. 63
ومن الآثار السلبية للترعة التقليدية في مجال اللغة تفضيل القديم من الآراء، والإيمان
بقدسيتها، والتقليل من شأن أي بحث لا يعتمد على الكتب القديمة، في حين لا ينطبق الأمر
على من يهمل من كتب في الموضوع نفسه من المحدثين، وشاع بيننا أن النحو ولد بأسنان،
وما ترك السابق للاحق شيئا، وفي هذا دليل قاطع على عدم الشعور بأهمية التراكمية المعرفية
في البحث العلمي. إن من ينطبق عليهم ما سبق من أساتذة الجامعات إنما يلغون ﺑﻬذه
الأفكار المتخلفة مسوّغ وجودهم بوصفهم باحثين في مؤسسات بحثية يتوقع منهم أن يطوروا
العلوم التي تقع في مجال تخصصاﺗﻬم.
ويعزو بعض المهتمين وجود نزعة الاتجاه السلبي نحو الابتكار في مجتمع ما "إلى
استمرارية المحافظة على أنماط الحياة اليومية واستقرارها لأجيال طويلة" وإلى كون محاولات
الابتكار "غير مجزية" علاوة على كونه "نوعا من المغامرة المشكوكة النتائج". ٦٤ ويبدو أن
السببين الثاني والثالث مترتبان على الأول.
إن النقطة التي تستحق الاهتمام هنا هي أن الفكرة العلمية ينبغي أن تقوّم حسب
أهميتها، وبالنظر في مدى صحتها بغض النظر عن مصادرها التاريخية والجغرافية، فالصحة لا
ترتبط بزمان معين أو مكان معين. وبناء على ذلك فإن السؤال الصحيح الذي ينبغي أن
يسأل دائما هو ماذا قيل؟ وليس من قال؟ أو أين قيل؟ أو متى قيل؟ كما هو شائع عند كثير
من أصحاب التفكير الإمّعي الذي يرفضون الفكرة إذا كان مصدرها غربيا أو حديثا
ويقبلوﻧﻬا إذا كان مصدرها تراثيا دون نظر في مدى صحنها ودون فحص لأدلتها.
6- التفكير الهامشي
نعني بالتفكير الهامشي إشغال فكر الإنسان بقضايا خارجة عن دائرة نفوذه، وتأثيره،
كأن يمضي الكثير من الوقت في حل مشاكل العالم دون أن ينهج في ذلك ﻧﻬجا علميا، ودون
أن يكون له من المؤهلات والقدرات التي تمكنه من أن يخوض في ذلك، أو أن يضيع الوقت
في المناقشات البيزنطية العقيمة أو الصراعات التاريخية السالفة.
والميل إلى التفكير الهامشي إنما هو نوع من التعويض عن الكسل، والتقاعس عن
الواجبات المناطة به، ومحاولة إقناع النفس بالانشغال بقضايا الأمة، وتاريخها، ونحو ذلك من
الأمور، وعلى الرغم من إدراكنا أن الله لا يحاسبنا على مالا طاقة لنا به، فإن الكثير من
الوقت يضيع في إعمال عقولنا في أمور تخرج عن ممتلكاتنا، وواجباتنا، وعاداتنا، وأحوالنا،
ونحو ذلك مما يدخل في إطار نفوذنا. 65