يعدُّ الشاهدُ النحويُّ من أهمِّ مصادر الدراسة اللغويّة بشكلٍ عام ؛ لأنَّ قواعد اللغات تؤسَّس في ضوء كلام الناطقين بها ، وهو بعد شاهد على صحة نسبة لفظ ، أو صيغة ، أو عبارة ، أو دلالة إلى تلك اللغات ، وإذا ما أراد الباحث دراسة لغة شعب، يقتضيه ذلك اتّباع منهج علمي سليم ، يضمن لها السلامة من التناقض وتصادم الأقيسة ، وأن يعمد إلى المستوى الأدائي الشائع والغالب الذي يعكس الخصائص العامة للغة المدروسة ( صيغاً وتراكيبَ ) ، ومن هنا فرَّق الدارسون للغات بين ثلاثة مستويات : المستوى المفهم ، والمستوى المفهم الصحيح ، والمستوى المفهم الصحيح البليغ .فاللغة المفهمة ( المستوى الأول ) هي التي تكون أداة للإفهام في أدنى درجاته ؛ (( حيث ( كذا ) لا يراعى فيها غالبا عرف اللغة المستعملة ، وما يقرِّره من نظام في الأصوات والصيغ والجمل )) ومن يتابع الجاحظ (ت255 هـ) في كتابه (البيان والتبيين ) يجد فيه نماذج من استعمال أجانب عصره هذه اللغة ؛ إذ كانوا يستعملون اللغة بقصد الإفهام مع التخليط في نطقهم أصواتاً وصيغاً وجملاً كما يستعمل الأجانب عن اللغة العربية الآن هذه اللغة للإفهام من دون مراعاة مستوى الصحة .أما المستوى الثاني وهو اللغة الصحيحة فهي في درجة أعلى من كونها للإفهام ، فلا يتحقق لها هذا الوصف – الصحة – إلا بمراعاة ما تتميز به اللغة من نظام في الأصوات والبنية والإعراب أما المستوى المفهم الصحيح البليغ فهو المستوى الذي يحقِّق مستوى الجمال في التعبير ، أو استعمال الكلمات استعمالاً صحيحاً تصور به الظلال الدقيقة للمعاني التي يرغب المنشئ في إثارتها ، وهذا المستوى لا يتأتى لكل الناطقين إلا لأولئك الذين منحوا موهبة كالشعراء والخطباء .وقد قرَّر الباحثون صلاحية أحد هذه المستويات الثلاثة للدراسة ((وهو المستوى الثاني ؛ لأنه يمثل اللغة مجردة من كل قيد ومطلقة من كل ما ينحرف بها لأسباب فنية عن سمتها المعهود ونظامها المطرد )) .كما يحصل ذلك في لغة الشعر – اللغة المفهمة الصحيحة البليغة– فإنها لغة فنية بطبيعتها مقيدة بقيود لا يحيد عنها الشاعر، فالشعر ((موضع اضطرار، أو موقف اعتذار ، وكثيرا ما يحرَّف فيه الكلم عن أبنيته ، وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها لأجله )) .
والآن بنا حاجة إلى معرفة الكلام الذي احتجَّ به نحويو العرب في دراساتهم والمنهج الذي اختطوه لهم في ذلك ، ونستشهد بكلام أحد الذين درسوا أصول الفكر النحويّ وهو السيوطيّ ، فقد ذكر أن الكلام الذي يحتجُّ به هو ((القرآن الكريم والحديث الشريف وما أثر من كلام العرب شعراً ونثراً ، منذ الجاهلية حتى نهاية عصر الاحتجاج )) ويبدو أنَّ كلام السيوطيّ تعوزه الدقة ؛ لأنَّ الذي ينظر في كتبِ النحوِ يجد‘ هذا الكلام أقربَ إلى الواقع النظريّ منه إلى العمليّ ؛ لأنَّ الاحتجاج بهذا الكلام لم يكن بدرجة واحدة فقد تفاوت في الاستشهاد ، وبعض الكلام الذي ذكره اختلف النحويُّون في إدخاله إلى حَلْقة الدراسة النحويّة وهو الحديث الشريف، زدْ على ذلك أنَّ النحويين اعتمدوا على كلام الدارسين في تقعيد القواعد الذي يتمثل بتلك الأمثلة المصنوعة التي يذكرها النحويّون وهي مما لم يذكره السيوطيّ .