مفهومها:
تعدُّ جملة"أكلوني البراغيث"الشاهد الأشهر لاتجاه لهجي تمثَّل عند بعض القبائل العربية ومن ثَمَّ انسحب عنونة لهذه اللغة به، وذلك لطرافتِه كما قيل.
أما عن مفهومها فيتمثل في إلحاق الفعل علامات للتثنية أو للجمع مع كون فاعله اسما ظاهرا مثنى أو جمعا، فيقال :ظلموني القومُ، ونصراني أخواك
خلافا للمشهور لدى جمهرة العرب في كون الفاعل إذا كان اسما ظاهرا مثنى أو جمعًا فإن جمهور العرب يفردون الفعل اكتفاء بدلالة الفاعل على التثنية أو الجمع، فيقال : ذهب المحمدون, وجاء الزيدان.
تسميتها:
أشير لهذه اللغة في أول كتاب نحوي حيث قال سيبويه : "ولم يكونوا ليحذفوا الألفَ لأنّها علامةُ الإضمار والتثنية في قول من قال أكلوني البراغيثُ " (1) , وقد نقل سيبويه هذه التسمية عن الخليل.
فاشتهرت هذه اللغة بـ " أكلوني البراغيث " تبعا لسيبويه الذي ذكرها مقترنة بهذا المثال فجرت عليه , أما ابن مالك فيسميها لغة :" يتعاقبون فيكم ملائكة "(2) ولقد ذكر المرادي أن ابن مالك نوزع في حمل هذا الحديث على هذه اللغة فنقل عن السهيلي أنه قال : ألفيت في كتب الحديث المروية في الصحاح ما يدل على كثرة هذه اللغة وجودتها ... لكني أقول في حديث مالك إن الواو فيه علامة إضمار لأنه حديث مختصر رواه البزاز مطولا ومجردا , فقال فيه :"إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم "(3)ولقد ذكر السيوطى أن ابن مالك كان يسميها لغة " يتعاقبون فيكم " وهو مردود عنده.(4)
فالسهيلي والسيوطي لا ينكران هذه اللغة إنما لا يرون حمل هذا الحديث عليها , قال الصبان : يعني أن الراوي اختصر اللَّفظ النبويّ الذي هو الحديث المطول بحذف صدره واللفظ النبوي :" إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل وملائكة بالنهار " فالواو في يتعاقبون ضمير يرجع إلى ملائكة السابق.(5)
القبائل التي نطقتْ بها:
نُسِبَتْ هذه اللُّغةُ إلى أكثر من قبيلة عربية فصيحة في أكثر الكتب النحوية وهم : طيء , وأزد شنوءة وبلحارث بن كعب(6)
ــــــــــ
1)الكتاب 1\19
2)رتشاف الضرب 2\739
3)توضيح المقاصد والمسالك 2\586
4)همع الهوامع2/514
5) حاشية الصبان على شرح الأشموني 4\66
6 )مغني اللبيب 4\403
قال أبو الحزم : حين يقرأ أحد ما في كتاب من كتب النحاة يجد أنهم يحكون في كتبهم ، ويستشهدون في مصنفاتهم بلغة اصطلحوا عليها فيقولون : هذه الجملة أو هذا الكلام على لغة (أكلوني البراغيث) ، وبعضهم يسميها لغة (يتعاقبون فيكم ملائكة) ..
فأصبحت هذه الجملة برهانا وحجة يستند إليها النحاة في إثبات صحة صياغة بعض الجمل والتراكيب اللغوية ...
ولكي يعرف القاريء ما المقصود بهذه الجملة أو بهذه اللغة التي تدور بين النحاة كان لا بد من معرفة أصل بنية الكلام عند النحويين ...
فالأصل عندهم أن يقال في صيغة المذكر : أكل زيدٌ ، وأكل زيد وعمرو ، وأكل الرجال ...
والأصل عندهم أن يقال في صيغة المؤنث : أكلتْ هند ، وأكلتْ هند وفاطمة ، وأكلتْ النساء ..
فكما ترى في لفظ الفعل (أكل) تلاحظ أنه جاء بصيغة واحدة مع المفرد والمثنى والجمع ، وجاء مع المذكر بلفظ واحد ، ومع المؤنث بلفظ واحد مع زيادة تاء التأنيث ، التي تُفَرِّق بين المذكر والمؤنث فقط ...
لكن الذي حصل أن أهل اللغة نقلوا جملة سمعوها من أحد العرب وهي قول أحدهم : (أكلوني البراغيث) ...
وقالوا : هي لغة طيء ، وبلحارث بن كعب ، وأزد شنوأة ...
فكانت هذه اللغة مخالفة للأصل الذي كانوا قد اتفقوا عليه من أن الفعل لا بد أن يكون ثابتا مع المفرد والمثنى والجمع كما ذكرنا في المثال السابق ..
وبعد هذا قالوا : يجوز للمتكلم أن يقول في المذكر :
أكل زيد ، وأكلا زيد وعمرو ، وأكلوا الرجال ..
ويجوز كذلك في المؤنث فيقال :
أكلتْ هند ، وأكلتا هند وفاطمة ، وأكلن النساء ..
قال أبو الحزم : إذن فيجوز لك على لغة (أكلوني البراغيث) أن تأتي بمثل الجمل السابقة ، وهي لغة فصيحة ..
إذن اتضح الآن ما المقصود من قولهم : لغة (أكلوني البراغيث) ..
ومثلها أيضا لغة (يتعاقبون فيكم ملائكة) .
فهذه الجملة تدل على ما دلت عليه الجملة السابقة ولا فرق أصلا ..
لكن يقول بعض المحققين : (الذي يورده النحاة جزء من حديث أصله : " إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " ، وهو بهذه الصيغة لا يصلح لما قصدوه)
قال أبو الحزم : هذا هو الصواب وهو كما قال ، مع أن بعض كبار علماء النحو يذكرون هذه الجملة في كتبهم كابن مالك صاحب الألفية وغيره ..
ثم إن النحاة فرقوا بين حرف الألف في الفعل (أكل) في قولنا : زيد وعمرو أكلا ، وبين قولنا : أكلا زيد وعمرو .
وبين حرف الواو في قولنا : الرجال أكلوا : وبين قولنا : أكلوا الرجال ..
وبين حرف النون في قولنا : النساء أكلن ، وبين قولنا : أكلن النساء .
فجملة (زيد وعمرو أكلا) ، وجملة (الرجال أكلوا) ، وجملة (النساء أكلن) ..
قالوا : الحروف ههنا الألف في الجملة الأولى ، والواو في الجملة الثانية ، والنون في الجملة الثالثة كلها ضمائر لأنها تعود على أسماء سابقة ...
وأما جملة (أكلا زيد وعمرو) ، وجملة (أكلوا الرجال) ، وجملة (أكلن النساء) ..
قالوا : الحروف ههنا ليست ضمائر ولا تسمى ضمائر بل تسمى حروفا ، كحرف التاء في قولنا : (قامت هند) فإن التاء هنا ليس ضميرا بل حرف يدل على التأنيث ..
فالألف في الجملة الأولى يدل على المثنى ، والواو في الجملة الثانية يدل على الجمع المذكر ، والنون في الجملة الثالثة يدل على الجمع المؤنث ...
وأما إعراب جملة (أكلوني البراغيث) وما جرى مجراها ففيه ثلاثة أقوال :
الأول : أن جملة : (أكلوني) أكل : فعل ماض ، والواو : ضمير في محل رفع فاعل ، و (البراغيث) بدل من الواو .
الثاني : أن جملة : (أكلوني) : خبر مقدم ، و (البراغيث) مبتدأ مؤخر .
الثالث : أن جملة : (أكلوني) أكل فعل ماض ، والواو حرف للجمع المذكر ، و (البراغيث) فاعل مرفوع ..
قال أبو الحزم : فأما الإعراب الأول فهو خطأ بلا شك ، لأننا قد بينا سابقا أن (الواو) في (أكلوني) ليس ضميرا ، لأن الضمير لا يعود على متأخر بل يعود على متقدم ، ولا متقدم هنا إذن فليس ضميرا ...
وبقي الإعراب الثاني والثالث فأنت بالخيار إن شئت أعربت الجملة خبرا مقدما ومبتدأ مؤخرا ..
وإن شئت أعربتها فعلا وفاعلا ...
ولعل من الجدير ذكره في قضيتنا كذلك التفصيل في أول شاهد قرآني حُمل على هذه اللغة
"وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ..."
وهذه الآية تناولتها معالجةً وتفصيلا كتبُ النحو, وهي كما ذكر آنفا لها السبق في الإشارة إلى لغة "أكلوني البراغيث" في حملها على الظاهر، ولكن إمامنا سيبويه حينما ذكرها خرَّجها على البدل أو الخبرية فقال :" فإنما يجئ على البدل وكأنه قال انطلقوا, فقيل له: من؟ فقال: بنو فلان.فقوله عزوجل:وأسروا النجوى الذين...".و على هذا فيما زعم يونس.1
فكأن صنيع سيبويه هذا أضحى سنة فيمن أتى بعده, غير أني قد لاحظتُ أن الفراء لا يرى بأسًا, فيقول : " إنما قيل: وأَسَرُّوا لأَنها للناس وُصفوا باللهو واللعب و (الذينَ) تابَعة للناس مخفوضة؛ كأنك قلت: اقتربَ للناس الذين هذه حالهم. وإن شئتَ جعلت (الذين) مستأنَفَةَ مرفوعة، كأنكَ جعلتها تفسيرا للأسماء التي في أسرُّوا؛ كما قال {فَعَمُوا وصَمُّوا ثمَّ تَابَ اللهُ عليهم ثم عَمُوا وصَمُّوا كثير منهم.}. 2
أما أبو جعفر النحاس فقد ذكر ستة أقوال في هذا الآية ونسب الرأي الذي يرى حمل الآية على لغة " أكلوني البراغيث " للأخفش, وحسَّن رأيا آخر, وكأن أبا جعفر لا يرجح حمل القرآن على هذه اللغة, فقال : " ولم يقل : وأسر النجوى . والفعل متقدم لأن الفعل إذا تقدم الأسماء وحد, وإذا تأخر ثني وجمع للضمير الذي فيه، فكيف جاء هذا متقدما مجموعا ؟ ففيه ستة أقوال : يكون بدلا من الواو, وعلى إضمار مبتدأ، ونصبا بمعنى أعني، وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم . وأجاز الأخفش أن يكون على لغة من قال :" أكلوني البراغيث " . والجواب السادس أحسنها: وهو أن يكون التقدير يقول الذين ظلموا وحذف القول مثل { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } فالدليل على صحة هذا الجواب أن بعده ( هل هذا إلا بشر مثلكم ) فهذا الذي قالوه والمعنى هل هذا إلا بشر مثلكم.3
وأجاز الزمخشري في "الذين " البدل من واو " أسروا " , والحمل على لغة "أكلوني البراغيث" أو النصب على الذم , أو هو مبتدأ خبره قدم عليه.4
ووردَ تفصيل هذه الأوجه في الدر المصون على النحو الآتي : الرفع على ستة أوجه منها حملها على "أكلوني البراغيث " أو على البدل أو على الابتداء بوجهين: إما أن يكون خبره جملة " وأسروا النجوى " مقدمة أو خبره جملة " هل هذا إلا بشرا" بإضمار القول , أو على الخبر أو الفاعلية بتقدير فعل محذوف وتقدير الكلام :" يقول الذين ". أما النصب فمن وجهين : الذم , أو إضمار " أعني " , والجر من وجهين أيضًا هما: النعت أو البدل من " للناس ". وقد ذكرها ابن هشام في المغني أحد عشر وجها لتخّريجها.5
أقول: هذه التخريجات والاجتهادات تنبئ عن عظمة عقولهم، وتحري قولهم، ومنهجية تتكئ على صلابة المعطى، وأمانة العلم، وعليه فلم يبقوا شذرة ولا أيسر إلا عالجوها ضمن سياقات الآي القرآني، وكل هذه التحليلات النحوية تكشف عن دقائق تفصيلية في المعنى المطروق، فتولد اتساعات فكرية تدور بدروان المعاني والأعاريب، ولعمري إن هذه لمزية للعربية وأخصُّ المحكم إذ هو يعلو هامتها دون شبيه ولامثيل
ولعلني كذلك أخالف الدكتور يحيي المباركي إذ قال: إن هذه التخريجات إنما هي تعسف مادام قد ثبت بنقل الأئمة أن مثل ذلك جاء موافقا لبعض لغات العرب المشهورة الحسنة"
وليس هذه التخريجات ضربًا من التعسف بمكان، إنما انفتاح وغور في سبل المعاني، وأسحب هذا على الآية القرآنية عامة، فكثيرا مانجد تعدد التحليلات النحوية، وبناءً عليه اختلاف التفاسير، وكل هذا يسوقنا في مضمار إعجاز العقل البشري بالإحاطة التامة لكلام الخالق العظيم، وعليه فلما نقول بالبدلية يختلف المعنى عن القول بإضمار أعني، أو الذم، وغيرها ...
وعليه أزعم أن هذا الإلهامات والاجتهادات لم تكن عبثا، وليست ضربًا في تخوم التعسف، بل هذا لا ينبغي لنا قوله.
1)الكتاب2/41
2)معاني القرآن 2/198
3)إعراب القرآن 3\64
4)الكشاف 4\126
5)الدر المصون/4\407-