أشهدَ اللهُ - سبحانه -نبيّهُ موسى - عليه السّلام - طبيعةَ عصاه قبل أنْ يجعلَ له في هذه العصا معجزةً خالدةً ... أشهده أنّها- قبل أنْ تمسّها القدرة الإلهيّة الإعجازيّة - مجرّدُ عصاً للرّعي وهشّ الغنم ... أشهده هذا الأمر- وأشهده على هذا الأمر- بأنْ سأله عن عصاه وساقَ وصفَ إمكانياتها المحدودة على لسان موسى نفسه ...
يقولُ تعالى - سورة طَهَ - :
" وماتِلكَ بيمينِكَ يامُوسى 17 ) قالَ هيَ عصايَ أتوكَّأُ عليها وأَهُشُّ بها على غَنَمِي وليَ فيها مآرِبُ أُخرى 18)
وبعد هذا الإقرار من موسى - عليه السلام - بأنّ عصاهُ مجرّد عصا يأمُرُه اللهُ أنْ يُلقي عصاه ويشهد تحوّلها الإعجازيّ ؛ بما يُثبّتُ قلبه ويهيُّئه لمواجهة فرعون ... يقولُ تعالى - في سورة طَه - : " قالَ أَلْقِها ياموسى 19) فأَلقاهَا فإذا هيَ حيَّةٌ تسعى 20)
*** إن عصا موسى معجزة الله اختصَّ بها نبيّه الكريم ؛ فلم تكن لأحدٍ قبله ولا لأحدٍ بعده من خلق الله ... ولكنّا نعاينُ في أنفسنا إعجاز الله الذي يحوّل قدراتنا المحدودة إلى قدراتٍ فوق محدودة ...
إنّ حواسّنا وإمكانيات الجسدية المتناهية تظلّ متناهيةً إذا ما ظلّت محصورةً في أداء وظيفتها الدنيويّة المنُوطة بها ... وهذه الحواس وهذه الإمكانيات - ذاتها - تتعملقُ إذا ما سخرناها لعبادة الله ...
إنّ قدراتنا الجسديّة إذا ما ثقفناها - كما يثقفُ الفارسُ قوسه ويشذّبها - اُرهفناها وشحذناها باللامحدود فإذا هي لامتناهية ... وإذا بها - رغم محدوديتها وماديّتها - تستشعر اللامتناهي من الوجود - ومن عالم الروح - فتتلمّس بصمات الإعجاز الإلهي في كيانات الوجود ...فإذا بها ... فإذا بها :
تتناغمُ مع تسبيح الملائِك والطّيور والسحب والجبال وسائر أرواح الكون وعناصره ... إذا بها لا ترى في المرئيّات الماديّة ملامحاً صلدةً بل تراها أرواحا ناطقة بالأسرار ، مُفضيةً بالمقصيّ عنه لدى القلوب المُغلقة ...
وإذا بالحواسّ تنشطُ لمهام فوق العادة - كما في لغة الدبلوماسيين - فحاسّة الشم تستطيع أنْ تستغور عطر الوجود الدّال على الألوهية ، وكذا حاسّة الذوقِ التي لا يرضيها شهيّ الطعام ولا الشراب لأنّها لا تنتشي وتصل إلى النيرفانا - قمة النشوة - إلاّ إذا ذاقت أدلة عظمة الله ... ، وكذا اللمسِ ، وكذا العين ، وكذا الفؤاد الذي يبدأُ مع الوجود سيرةً جديدةً من خلال نشاط الرّوح وتواثبِ هذه الحواس ...
## إنّ الذي يمدّه اللهُ بقوةٍ تعينُه على الوصول إلى هذه المصاف الرّوحية الشَّاهقة يستطيعُ أنْ يقول في حواسّه وقدرات بدنه : " وليَ فيها مآربُ أُخرى " ... يستطيع ساعتئذٍ أنْ يستشعرَ معجزة إلهيّة - سعى إليها بإيمانه - حوّلت المحود فيه إلى اللامحدود ، ووجّهت - هذه المعجزة - قدراته وطاقاته لما خُلِقتْ له ، وهو : عبادة الله ... وتتبّع آثار بهائه في الوجود ...
إن هذا التحوّل الإعجازي الذي يمنحه الله لعباده الموقنين -القانتين الأوّابين المُخبتين -شبيهٌ في الإدهاش والإعجاز والدلالة على وجود الله بالإعجاز الإلهي في عصا موسى ، ... لكنه لن يتمخّض عن قدرتنا على ضرب الحجر وانبجاس الماء منه ، ولن يتمخّض عن قدرتنا على فلق اليمّ شطرين - كما في معجزة موسى - ؛ فمعجزة موسى معجزةٌ خاصة ... معجزة الله لنبيٍ من أنبيائه ... لكن تفجّر اللامحدود فينا سيمنحنا عصا أخرى هي : انفتاح مغاليق القلب الذي لم يكن يرى في الوجود إلاّ مظاهر الوجود ... فإذا بهذا القلب يتواثبُ في قلب الوجود ، ويتحاور مع الوجود بلغة هذا الوجود ، ويفتحُ سيرةً جديدةً له مع هذا الوجود ... سيرة تؤكّد وعي هذا القلب بأنّ وجوده في الوجود كان لعبادة خالقه وخالق هذا الوجود ... وهنا ... هنا فقط ... وعند هذه المصاف الوامضة يستطيع صاحبُ هذا القلب أن يقول واصفا حواسّه، ونفسه ،ووجوده : إنّ ليَ فيها مآربُ أخرى ... ، ...
بقلم : جاميليا حفني
مدونة " أدركتُ جلالَ القرآن "
size=18] http://greatestqoran.blogspot.com/2012/11/blog-post_2.html