*** تيسّر لي أنْ أسافرَ بالطّائرة في رحلة نهارية ... بعد العصر تقريباً ؛ فتيسّر لي أنْ أرى في السماءِ من عجائب السماء ما لم أتمكّن من رؤيته من قبل في أي رحلةٍ سابقة ...
*** كان قائد الطّائرة - فيما يبدو - فنّانا ... رسّاما ... أو نحّاتا ... أو كان يختزن في أعماقه حلم تقليد الطيور ... حلم البشرية بالتحليق المحال ... ؛ لأنه لم يكن يطير بنا بطريقةٍ تقليدية - أو هذا على الأقل ما شعرتُ به لمدة زمنية تزيد على النصف ساعة ... لقد كان يتقدّم في قلب السحاب فيغمرنا البياض إلى درجة أني استشعره في حلقي ... أو كأنّي أتنفس هذا القطن الحنون الجميل البديع الهيئة... ، والذي يتفتت ويتبعثر كأطفال أشقياء تسارع بالفرار الأهوج إذا رآها ذووها تلهو في المطر ...
*** كان القائد يدخل الغيمَ ، ثم يحلق فوقه بحيثُ ننظر إلى الغيم من أعلى فأستشعر شعورا جديدا هو أنني فوق الأثير... فوق أذرع النعام الحانية ،... فوق تكوّرات بيضاء مبهجة ...وثيرة... مضيئة بفعل انعكاس الشمس ... موحية بجمالٍ غامضٍ عجيب غير أرضي ... موحية باختزانها عوالم سحرية غرائبية ، وكأنّها تكتنز أسرار السماء وعوالمها ...
ثمّ يهبط الطيّار بنا أسفل السحاب فيبدو السحاب فوق رؤوسنا ... أراه - وحدي - سقفا مضيئا بسّاما وكأنّه مظلة رفعناها بأيدينا
... ،... ، ...
وهكذا ظل قائدُ الطائرة يتماوجُ بنا إلى أعلى وإلى أسفل وكأنّه طائر وليس طيّارا ... ولكنه يتماوج بنا دون ضجيج ... ودون دوار ... لقد بدا وكأنه هو الطائرة وهي تتماوج مع نسيمٍ مرح غير صاخب ... وبدت دوراتنا تحت السحاب وفوقه توهمني أن السحاب هو الذي يبدّل أقدامه ويشاكسنا ... وكأن السحاب هو الذي يتنقّل إلى أعلى وأسفل ... ومن ثم - وأمام إصرار السحاب على إدارة دفة الطائرة ودفة روحي - وضعت رأسي فوق كفّي و... دخلتُ عالما غرائبيا من الافتتان بجماله وتكويناته ...
*** لكنني وفي إحدى اختراقاتنا لقلب السحب أحسستُ برهبة شديدة ... تأملت هذه الرهبة وفهمتها : لقد أحسستُ وكأنني ألج الموت وأترك عالم الأحياء ... ولم يكن هذا الإحساس نابعا من خوفي من الارتفاع - بل كان الارتفاع في ذاته متعة فائقة - بل لما ارتبط في أذهاننا - منذ الطفولة - من العلاقة بين الموت وصعود الروح إلى خالقها في السماء ، وكأنّ الصعود -في حد ذاته - مقاربة للموت ... اختلطت مشاعري ، وامتزجت تأملاتي الفنية في جماليات السحاب بالدهشة من قدرة الله على خلقه وتكوينه بهذه الروعة ، بشعور الرهبة من عالم الموت وقدرة الله ... وانتبهت في اللحظة ذاتها إلى قابليتي الإنسانية للجمع بين هذه المشاعر الصاخبة الجيّاشة المتناقضة ، وقلتُ في نفسي : إنّ مشاعري هذه في حد ذاتها دليل في تناقضها على أن الإنسان آية من آيات خلق الله ... ؟!
*** وهنا تنبّهت بشدة إلى تشديد القرآن الكريم على ضرورة تأمل خلق السموات والأرض ، وضرورة تدبّر ما خلق الله ... نعم إنه لأمر غاية في الأهمية والخطورة ... إن الاحتجاز داخل جدران الغرف المكيّفة والاكتفاء بالتنزّه في الأندية الرياضية أو زيارة الآخرين في منازلهم ... أو الانتقال من جدران المنزل إلى جدران المكتب إلى جدران السيارة إلى جدران السوبر ماركت إلى جدران ... إلخ ... إن هذا هو الاحتباس الروحي بعينه - قياسا على مصطلح الاحتباس الحراري- إنه يقتل الروح ويصيبها بالعطن والعفن والتبلّد ... ويحجبها عن كثير من مذاقات الدهشة والافتتان بقدرة الله على الخلق ... ومن ثم فهي محتجزة عن درجة عالية من الإيمان : الإيمان الذي يأتي من التدبر والتأمل ومعاينة قدرة هذا الخالق العظيم الواجبة عبادته وتوحيده وعدم الشرك به ...
*** كيف يمكن أن أعبد الله وأستشعر عظمته ، وأشهق من قدراته دون أن أمنح الروح فرصة تستعرض فيها عجائبه وقدرته ؟... كيف يمكن للروح أن تتجول في هذه المشاعر وصولا إلى اليقين الإيماني وهي لم تفسح للخالق مجالا يبهرها بعظمته وجماله وفنونه في الخلق ؟
**** لقد توجه كثير من الأنبياء إلى الله يسألونه أن يريهم قدرته على الخلق : سأله إبراهيم- عليه الصلاةُ والسّلام - ، فأمره الله بذبح الطيور وتوزيعها على قمم الجبال ثم مناداتها حتى يراها تأتيه سعيا بإذن الله ...
*** سأله موسى- عليه السلام - أن يهبه رؤيته ، فأمره بأن ينظر إلى الجبل - حيث واعده الله - فاندكّ الجبل من تجلي الله له وخر موسى صعقا ...
*** سأل عزيرٌ مندهشا : كيف يمكن للقرية الخاوية على عروشها أن تعود للحياة ؟! فأماته الله وأمات معه حماره ثم بعثه وبعث حماره أمام عينيه وكأن الله يطلعه على تجربة الخلق والبعث معا ، فاطمأنّ قلبُ عُزيرُ ووجد الإجابة على أسئلته المنطلقة من الإيمان بالله والرغبة في تخصيب هذا الإيمان ومضاعفته ...
** لقد كانت أسئلة هؤلاء الآنبياء نابعة من منطلقٍ إيماني ، ساعية إلى تثبيت اليقين بالرؤيا والتجربة والمعاينة التي تثبّت الروح وتدعم أقدامها ...
***ولقد أمرنا الله بالنظر والتأمل في خلق السموات والأرض لأنه لن يتسنّى لنا أن نعاين المعجزات التي عاينها أنبياؤه ورسلُه ، ... لكن بإمكاننا أن نرتحل بالروح عبر ردهات الكون في أسفارنا العقلية والجسدية - عبر الزمان والمكان نستجوب الكون عن مبدعه ، ونستغور الوجود ونرى بدائعه ... وهنا ... هنا ثم وجهُ الله قائم يثبتُ الألوهية بعظمتها وجلالها ... ويوقظ فينا رهبة وإجلالا اندسّا واحتبسا في أعماقنا البعيدة نتيجة انحباسنا في الجدران الإسمنتية التي تحول بيننا وبين بهاء السماء ...
*** لقد كانت مشاعري تجاه السحاب مشاعر خصبة فيّاضة جيّاشة ، أشعرتني بالرغبة الحقيقية في التسبيح والحمد والاستغفار لأنني أمام عظيم ... بل أمام العظيم : خالق هذا الوجود الباذخ ... والذي أيقظ في جوانحي مشاعر الافتتان والالتئام مع الكون ، ومشاعر الخشوع والرهبة والخوف والرجاء معا في امتزاج عجيب وتشكيلات من التوتر والتطهر لا تقل في جمالها وغموضها الموحي وإلهامها الروحي عن جمال وإلهام تشكيلات السحاب ...
** فهل كان لابد من ملامسة السحاب لألامس روحي وأدرك ما تظهره وما تختزنه من حب الله وإجلاله ... هل لابد لي من أن أقوم برحلة جويّة نهاريّة كلمّا أردتُ أنْ أصل إلى هذه المناطق غير المأهولة في نفسي ... ؟! أو كلّما اشتقت إلى تحريك جوامدها والهرب بها بعيدا عن الاحتباس العصري المُنهك للأراوح ؟ !
نعم لابدّ من ملامسة السحاب لنلامس الروح ... ولكني لا أقصد السحاب بمعناه المعروف المتداول فقط ... أقصدُ الدلالة المعروفة له وأقصد الدلالات الرمزية له ... فالسحاب الذي يجب أن نلمسه يوميا لنلامس أرواحنا هو العبادات المفروضة ، وتدبّر آي الذكر الحكيم ، وتأمّل خلق السموات والأرض قياما وقعودا وعلى جنوبنا ، السحاب المُرتجى هو النظر في خلق أنفسنا وأطوار حياتنا من خلال أولادنا وأحفادنا وأجدادنا لنرى أطوارنا ومبتدانا ومنتهانا ... هو الاعتبار بالأمم البائدة والأمم الحاضرة المعاصرة ، والنظر في تاريخ الإنسان وكـأنّه تاريخٌ شخصيٌ خاصٌ بكل واحد منّا ... السحاب الذي يجب ملامسته هو أن يقرأ كلٌ منّا القرآن الكريم وهو في حالة تلقٍ له ، حالة التلقي التي تجعل الخطاب القرآني يبدو للروح وكأّنه موجّهٌ إليها في وعده ووعيده ، ترهيبه وترغيبه ... السحاب المُرتجى الذي يجب ملامسته هو استحضار شخص الرسول - صلّى الله عليه وسلّم في الروح والفكر ، واستحضار الأنبياء والرسل في ردهات النفس ، واستعادة تجربتهم في الذكرة وتكرارها على النفس مرارا وتكرارا حتّى تتمثّل ... ثم تمتثل ... السحابُ هو .....
كثيرةٌ هي السحبُ التي يجب ملامستها ، والوصول إلى بياضها ووميضها ... إنّ هامات هذه السحب شرف يُغري بالسعي وراءه ، وإن في هامات هذه السحب الوعدُ الصادق بالنجاة والخلاص ... الخلاص من احتباس الدنيا والآخرة ، من عتمة الروح في الدنيا والأخرة ... من ظلمة القلب والقبر والقهر ...
*** كان لابدّ لي أنْ أُلامس السحاب ... ولابد لي - ولنا جميعا - أن نلامس هذا السحاب ، ونرشف من كل هذه السحب ...
بقلم : جاميليا حفني
مدوّنة : " أدركتُ جلالَ القرآنِ "
http://greatestqoran.blogspot.com/2012/09/blog-post.html