المنهج التاريخي:
يقصد به الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة، عن طريق البحث في أحداث التاريخ الماضية، وتحليل الحقائق المتعلقة بالمشكلات الإنسانية والقوى الاجتماعية التي شكلت الحاضر، ويرجع الباحث إلى التاريخ عبر محاولة تأكيد الحوادث الفردية (المنفردة) وغيرها إلى تصوير الأحداث والشخصيات الماضية بصورة تبعث فيها الحياة من جديد، وإنما يحاول تحديد الظروف التي أحاطت بجماعة من الجماعات وبظاهرة من الظواهر منذ نشأتها لمعرفة طبيعتها وما تخضع له من قوانين، ولا يمكن لباحث أن يفهم الماضي إلا إذا مر بمرحلتين أساسيتين وهما مرحلتي التحليل والتركيز.
تبدأ المرحلة الأولى بجمع الوثائق ونقدها والتأكد من شخصية أصحابها وتنتهي إلى تحديد الحقائق التاريخية الجزئية، ثم تبدأ المرحلة الثانية ويحاول فيها الباحث تصنيف هذه الحقائق والتأليف حينها تأليفاً عقلياً.
من أجل أن يصبح التاريخ دراسة تستحق كل الجهد الذي يبذله الإنسان فيه هناك أربعة أسئلة يحسن أن نسألها لأنفسنا، ثم نحاول الإجابة عنها، وهذه الأسئلة هي:
ما هو التاريخ؟ وما هو موضوعه؟ وما هو أسلوبه؟ وما هو هدفه؟
مفهوم البحث التاريخي: إن التاريخ هو نوع من أنواع البحث العلمي؛ إذ هو يندرج تحت ما نسميه "العلوم"، والعلم بصفة عامة لا يخرج عن كونه محاولة لتركيز الجهد حول شيء لا نعرفه، فالعلم هو الكشف عن حقيقة الأشياء، وهذا هو المعنى المقصود من أن التاريخ علم.
والتاريخ يبحث عن أسباب تسلسل الظواهر ويحاول ربطها إلى بعضها وتعليلها تعليلاً يقبله العقل. والإنسان هو الوحدة التي يدور التاريخ حولها، وكل جهد يحاول به صاحبه أن يعزل فئة من الناس خارج تاريخ الإنسان، إنما هو جهد فاشل. والخلاصة أن التاريخ له منهج خاص غايته بلوغ المعرفة عن طريق تسلسل الحوادث لا عن سبيل وضع القوانين المجردة؛ فهو علم، والتاريخ يحتاج أيضاً إلى خيال كاتبه وقدرته الأدبية؛ فهو أدب أيضاً.
إن التاريخ لا يمكن أن يكون ولا يستطيع أن يكون غير الإجابة عن أسباب ومنشأ الحالة الحاضرة التي نعيشها والأسباب التي وصلت بدنيانا إلى ما نراها عليه الآن.
أهداف البحث التاريخي
كأي علم آخر من العلوم، هو الكشف عن فرع معين من الحقائق، وهذا النوع هو جهود الإنسان ومنجزاته في الماضي، وبصورة أدق أن التاريخ هو العلم الذي يحاول الإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بما بذلته الإنسانية من جهود منذ كانت.
إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني. ونعني بالعلمية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها. وهي ظروف تقنية؛ "طبيعة الوثائق المستخدمة ووجودها"، وظروف منطقية؛ "تلك التي تحللها نظرية المعرفة".
مميزات البحث التاريخي:
منهج البحث فيه هو تفسير الوثائق، والوثيقة هي الشيء الذي يرجع إلى زمان ومكان معينين، وتحمل معلومات ذات طابع خاص يفكر المؤرخ فيه ويعمل على تفسيره.
وبعبارة موجزة –وقوف الإنسان على حقيقة نفسه– وليس معنى هذا أن يعرف مميزاته الشخصية التي تفرق بينه وبين غيره من الناس، وإنما المقصود هو أن يعرف الإنسان طبيعته كإنسان، وما يستطيع أن يعمل وأن يقدم لبني جنسه، وهذا غير ممكن إلا إذا عرف الإنسان ماذا فعل في الماضي، وما هي الجهود التي بذلها فعلاً. وإذن فقيمة التاريخ ترجع إلى أنه يحطنا علماً بأعمال الإنسان في الماضي ومن ثم بحقيقة هذا الإنسان.
مقومات البحث التاريخي:
إن التاريخ علم ضروري للشعوب والأفراد على السواء؛ فلا بد للفرد أن يعرف نفسه بوقوفه على ماضيه، ولا بد لكل شعب أن يعرف تاريخه ليربط حاضره بماضيه، ويصبح جديراً بالحياة، ولا بد أن يدرس التاريخ دراسة عميقة.
ومن اللزوميات أن تتم كتابة التاريخ على خير وجه فيكون الكاتب دقيقاً غاية الدقة باذلاً كل ما في طاقته من جهد وصدق وأمانة وعدل مستعيناً بكل ما لديه من إحساس وفن وذوق، هذا كل يؤدي إلى الوصول إلى الحقيقة قدر المستطاع. ومن هنا كان لا بد أن تتوفر فيمن يتصدى لكتابة التاريخ مجموعة من الصفات والمميزات، وأن تتاح له الظروف التي تجعله قادراً على الدراسة.
وأول صفة ينبغي أن يتحلى بها كاتب التاريخ ليصبح مؤرخاً هي حب الدراسة والصبر. فقد يكون البحث وعراً شاقاً، وقد تكون المصاعب التي تعترض الباحث أثناء عمله مصاعب جمة وكبيرة؛ كندرة المصادر وغموض الوقائع والحقائق، ذلك كله لا ينبغي أن يصد الباحث عن بذل الجهد والصبر على مواصلة الدراسة.
ولا بد أن يكون المؤرخ أميناً شجاعاً؛ فلا يكذب باصطناع الوقائع، ولا يزيف في تفسيرها، ولا ينافق لإرضاء صاحب أو سلطان؛ فلا رقيب على المؤرخ إلا ضميره. وإذا قلنا بأن التاريخ علم نقد وتحقيق فلا بد من أن يكون المؤرخ ناقداً نافذ البصيرة قادراً على تحليل كل وثيقة تصادفه.
أن يكون المؤرخ مولعاً بعمله من أجل هذا العمل بذاته، لا سعياً وراء شهرة أو فائدة مادية، عليه أن يتفرغ لما يدرس تفرعاً تاماً.
ومن الصفات التي لا غنى عنها في كل من يريد أن يكون مؤرخاً عدم التحيز أو الميل مع الهوى، فلا بد للمؤرخ أن يحرر نفسه تماماً من عواطفه وميوله الشخصية وأن يصدر أحكامه بصورة موضوعية على أساس ما بين يديه من أدلة ووثائق.
ومن صفات المؤرخ أن يكون صاحب حس مرهف وعاطفة إنسانية واضحة حتى يستطيع أن يدرك نوازع الآخرين ويتمكن من تفسير أعمالهم وتصرفاتهم والدوافع التي دفعتهم. تلك هي الصفات الرئيسية التي ينبغي أن تتوافر في من يريد أن يكون مؤرخاً.
العلوم المساعدة في البحث:
يتصل التاريخ اتصالاً وثيقاً بكثير من صنوف العلوم الإنسانية، ومن يتصدى لكتابته لا بد عليه من تحصيل هذه المعارف. ونحن نسمي هذه المعارف بالعلوم المساعدة:
– الواقع أن اللغات تأتي في مقدمتها جميعاً، لأنه من الضروري معرفة اللغة الأصلية الخاصة بموضوع البحث التاريخي؛ أعني أن الذي يريد ناحية من نواحي التاريخ الجزائري للثورة لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا تعلم اللغة الفرنسية، والذي يريد الكتابة في موضوع من موضوعات التاريخ الروماني القديم لا بد أن يعرف اللاتينية، ذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكن الدارس من قراءة النصوص الأصلية بلغتها الأصلية، وينبغي على الباحث أيضاً أن يكون عارفاً بأكثر من لغة من اللغات الأوروبية الحديثة الشائعة لأن اللغات الأوروبية كلها غنية بتراثها التاريخي.
ويأتي بعد ذلك علم قراءة الخطوط Paleography؛ فهو علم لازم لدراسة التاريخ القديم والوسيط، بل ولدراسة الفترات المبكرة من التاريخ الحديث، وتبدو لنا أهمية هذا واضحة جلية حين نتصدى لدراسة تاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ العصور الوسطى. وعن طريق هذا العلم نستطيع أن نحدد تاريخ هذه الوثيقة، وليس هناك ثمة شك في أن معلوماتنا سوف تظل قاصرةً عن قرون كاملة وطويلة من تاريخ البلاد؛ التي خضعت للعثمانيين ومنهم الجزائر ما لم يوجد من يدرس خط القيرمة مثلاً الذي دونت به وثائق النظم الإدارية والمالية في ظل الحكم العثماني.
– ومن العلوم المساعدة الهامة للمؤرخ "علم النوميات" أو علم النقود المسكوكة. فالعملة القديمة تحمل عادة صوراً للآلهة التي كان الناس يعبدونها، كما تحمل صوراً للملوك والأمراء وأسمائهم، وهذه كلها تمد الباحث بمادة أصلية عن العصور القديمة والعصور الوسطى على السواء.
– أما الجغرافيا فإنها من المواد المساعدة التي لا يستغني عنها الباحث في التاريخ، ذلك أن الارتباط بين الجغرافيا والتاريخ ارتباط عضوي وثيق؛ فالأرض هي المسرح الذي مثِّلت فوقه الأحداث التاريخية. إن الناس في أية بيئة من البيئات يتفاعلون معها تفاعلاً تلقائياً على الطبيعة الجغرافية لهذه البيئة، ومن ثم يتشكل تاريخهم تشكلاً يرتبط ببيئتهم. ومن أبرز الأمثلة على أثر الطبيعة الجغرافية في تاريخ قوم من الأقوام هو مصر والنيل هو مصدر حياتها، وهو الذي شكل تاريخها.
– وينبغي لأن يلم بعلم الاقتصاد إلماماً يمكنه من الوقوف على مدى تأثير العوامل الاقتصادية على مسار التاريخ. فنحن نعرف أن السياسة الداخلية لدولة من الدول تعتمد اعتماداً كبيراً على مدى تراثها الطبيعي ونشاطه التجاري. وطريقة توزيع الثروة الطبيعية في بلد ما تحدد عامة نوع الحكم فيها، وفضلاً عن ذلك فإن الرخاء الاقتصادي يؤثر تأثيراً على النواحي السياسية والعكس صحيح.
– والأدب من العلوم المساعدة التي يلزم المؤرخ أن يلم بها؛ فأدب القوم هو مرآة حياتهم وحضارتهم، وهو التغبير الصادق عن أفكارهم وعواطفهم الإنسانية.
- ويجب أيضاً الإحاطة بفنون الرسم والتصوير والنحت والعمارة في عصر من العصور لأنه مسألة ضرورية بالنسبة للباحث وتاريخه. إن آثار مصر القديمة والعراق القديم كلها تعطينا صوراً واضحةً لحضارات هذه البلاد وتمدنا بفيض من المعلومات من تقاليد أصحابها وحياتهم الإجتماعية.
قائمة الـمصادر والمراجع:
أرنست كاسيرو: دراسات في المعرفة التاريخية، ترجمة أحمد حمدي محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت.
2. جورج ساتورن: تاريخ العلم، ترجمة مجموعة من الأساتذة، دار المعارف، القاهرة، 1978، ج2.
3. جوزف هورس: قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت، ط3، 1986.
4. السخاوي: الإعلان بالتوبيخ.
5. قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979.
6. كولنجوود: فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، القاهرة، 1961.
7. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة، 1949.
8. هرنشو: علم التاريخ، ترجمة عبد الحميد العبادي، القاهرة، 1937